هيرمس
    مصر
  • 29℃ القاهرة, مصر

رئيس مجلس الإدارة

طارق لطفى

رئيس التحرير

أحمد سليمان

( الأعور والأكتع والأطرش ) مجتمع متنمر بطبعه ! 



التنمر.. مصطلح ظهر حديثاً الغرض منه هو تأطير ووضع توصيف لعادة ذميمة نمارسها منذ عشرات السنين ، ودونما أن نضع لها تعريفا او توصيفا صحيحا ، أو حتى إطار حاكم للوقوف على تفاصيلها والتي لا تتوقف فقط عند ما تسببه من ألم نفسي للشخص المتنمر به يزول مع مرور الوقت ، بل تمتد الي ما هو ابعد من ذلك ، إذ انه يعيش في حالة من الحزن تملك عليه تفكيره ، محاولاً البحث عن تفسير لما يمارس ضده من أفعال لا يد له فيها ، فلو كان يمتلك الخيار ما كان اختار أن يولد بعاهة او إعاقة جسدية او عقليه حتى ، لم يكن ليختار أن يكون ضعيف البنية ، أو نحيل الجسد ، أو ابيض أو اسود أو ذو شعر مجعد ، او يكون ذو بصر ضعيف ، أو ذو لسان يصعب عليه نطق الحروف او الكلمات بشكل صحيح ، لم يكن لإنسان ما ، وفي زمان ما أن يختار شكل خلقته ، ولكنى على يقين تام من أننا جميعا قادرون على إختيار شكل ونوع وطبيعة اخلاقنا ، نستطيع أن نكون اسوياء نفسياً ، نستطيع أن نكون بشر حقيقيين ، نستطيع أن ندرك بوعي تام وكامل حكمة الخالق العظيم في خلقه ، وحكمة الاختلاف والتنوع بين الناس ، حكمة أن الله عز وجل لو شاء لخلقنا جميعاً دون اختلاف في المظهر والشكل ، ولكن ما فائدة هذا ؟ بالتأكيد خلف هذا الآمر حكمة اكبر من إدراكنا المنقوص ، فخالقنا العظيم لا يعجزه شيء وإنما آمره إذا أراد شيء أن يقول له كن فيكون . 

فمن كمال حكمة الله تعالى في الخلق ، أن خلق الأشياء وأضدادها هو مَحْضُ كمال ، فلولا خلْقُ المتضادات لما عُرِف كمال القدرة والمشيئة والحكمة ، فاللهُ تعالى لا يَخْلُق شيئًا عبَثًا ، ولا يشرع إلا ما فيه مصلحة ظاهرة للعباد ، وقد اقتضتْ حكمتُه البالغة خلْق الأضداد ، فخَلَق الملائكة والشياطين ، والليل والنهار ، والطيب والخبيث ، والحسن والقبيح ، والأبيض والأسود ، والخير والشر ، والقوي والضعيف ، والغني والفقير ، والسليم والسقيم ، والعاقل والمجنون ، ولولاها لم يظهرْ فضْلُه ، قال تعالى : ( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) (الروم 22) ، وأكثر الناس لا يعلمون آية خلق السموات والأرض واختلاف الألسنة والألوان ، فلا يراها إلا الذين يعلمون ، وقال تعالى : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ) (فاطر 27، 28) 

والحكمة الأهم من وراء اختلافنا شكلاَ ونوعاً ولغة وخلق وعرق ودين ومعتقد ديني او فكري او سياسي ، هو فكرة التعايش والتسامح وقبول الآخر ، الحكمة هي مدى قبولنا لبعضنا البعض ، ومدى قبولنا للآخر وهو خلق ، وصنيعة الخالق العظيم أياً ما كان اسمه او لونه او لغته او عرقه او معتقده الديني او الفكري ، وأن نتقبله سواء كان سليم معافى او ذو مرض او إعاقة او عله ما اختصه الله بها ليكون مميز عن باقي البشر ، نعم مميز عن باقي البشر لأنه بالتأكيد ما اخذ الله منه شيء إلا ليعوضه بشيء اهم واروع مما حُرم منه ، فكثير منا يتمتع بحسن الشكل والخلقة ، ولكن قليل هم من يتمتعون بحسن الخلق ويتحلون بالأدب والذوق والرقي في التعامل ورقة المشاعر ، وكثير منا من خلق ببدن سليم معافى من ثمة نقص او إعاقة ، ولكن قليل منهم من استطاع تحقيق نجاح او فوز حققه شخص من ذوي الهمم ، وممن اصروا على هزيمة اعاقتهم ، واستغلالها كمنصة ينطلقون منها نحو تحقيق امجادهم في مضامير الرياضة والفن والأدب والعلوم والثقافة . 

وعلى الرغم من أن حكمة الخالق العظيم فينا وفي اختلافنا واضحة جليه لكل صاحب بصر وبصيرة ، إلا أن البعض منا ما زال يصر بشكل غير مبرر على أفعال الاستقواء على الأخرين ، والسخرية منهم ، فمازال منا من يقول على صاحب البصر الضعيف ومرتدى النظارات الطبية ( أبو اربع عيون ، اعمش ، اضبش ، نظره شيش بيش ) ومن ينعت صاحب الإعاقة الجسدية ( اكتع ،  اعرج ، اخنف ، مكسح ، اعور ، أطرش ) او نعت صاحب الإعاقة النفسية او العقلية بألقاب غاية في السخافة والتمييز مثل ( اهبل ، اهطل ، عبيط ) ، ولعل الوقائع المتواترة والمتكررة بشكل شبه يومي ، والتي تكشف لنا عن حالات فجه ومثيرة للامتعاض من حالات الاستقواء على الأخرين ممن خلقهم الله مميزين ومختلفين في الخلق والخلقة ، والتي بات يطلق عليها فعل او جريمة ( التنمر ) ، تلك العادة الذميمة التي تتكرر بيننا بشكل شبه يومي سواء فيما كنا نشاهده (في ما مضي)  في دراما غير مسئوله كانت تتخذ من الشكل والهيئة والخلقة مادة للاستخفاف والضحك ، وهو آمر تم تداركه مؤخراً ، إلا أن فعل القضاء على هذا السلوك الذميم ما زال بأيدينا نحن ، فيجب أن نهيئ أنفسنا ونهذبها على قبول حكمة الله في خلقه بأن خلقنا مختلفين ومتميزين ، وبأن نؤمن إيمان راسخ بأننا كلنا بشر ، وبأننا جميعاً صنعة الله الخالق العظيم والذي ابدع في كل خلقه سواء كان شخص عادي أو ذو خلقة متميزة ، فالتنمر لن ينتهي بمحض توجيه دستوري أو قانوني فقط ، بل أنه سينتهي بممارسه حقيقية نابعة من اخلاقيات مجتمع مؤمن بالمساواة والاختلاف وقبول الآخر ، مجتمع يكون متدين بطبعه فعلاً .... وليس قولاً .