حَمَل شهرُ رمضان هذا العام الكثير من الدعوات والابتهالات التي يتضرَّع فيها الصائمون فى صلوَاتهم وعبادتهم إلى المولى عزَّ وجلَّ أن يرفع عن الأُمَّة كلّ صور وأشكال الغُمَّة والآلام التى يُقاسيها المسلمون بل المُعذَّبون فى كلّ مكان ولكلِّ بَنِي الإنسان.
وإنْ كانت غُمَّة العدوان الإسرائيلي على أشقائنا فى فلسطين عامّة وغزّة خاصّة، قد نالت القِسْطَ الأكبر من الدعوات والابتهالات، فضلا عن الأحداث بل الجرائم التى ارتُكبت بحقِّ أشقّائنا فى عدد غير قليل من دولِنا العربية والإسلامية، في ظلّ تكالُب الأمَم والقوى العدائية على مقدَّراتنا ودولِنا وشعوبنا.
ولكن الغُمَّة الأكبر والأفْظَع بل الأفزَع، هي مخطّطات فُقدان الثقة وقَطْع خيوط الأمان وبثِّ سُمُوم الفُرْقَة والانقسام فيما بين أبناء الوطن، من خلال الشائعات والفِتن، بما ينقلبُ لتصارُعٍ وتناحُرٍ، وهذا أكبر خطرٍ يجب على الجميع التَنَبُّه له والحذَر منه بل محاربته والقضاء عليه، بـ"سلاحِ الوعْي" ونشر الحقائق لتفنيد الأكاذيب، مع الإيمان الكامل والصادق بالوقوف صفًّا واحدًا وعلى قلب رجلٍ واحدٍ، خَلْفَ قياداتنا الوطنيّة، فهذه هي الركيزة الأساسية وخطّ الدفاع الأوّل لحماية أوطاننا.
وفى هذا الإطار لا أملكُ إلا الإشادة بسُرْعة تفاعل الهيئة العامة للاستعلامات مع الأحداث وإصدارها بيانٍ يوضّح ويؤكّد ثَبَات الموقف المصري من جريمة التطهير والتهجير والإبادة التّى تُمارسها العِصابات الإسرائيلية، مُشيرة إلى إعادة تأكيد مصر على موقفها الثابت والمبدئي، بالرفض القاطع والنهائي لأيّ محاولة لتهجير الأشقّاء الفلسطينيين من قطاع غزّة، قَسْرًا أو طَوْعًا، لأيّ مكان خارجها، وخصوصا إلى مصر، لما يُمثِّله هذا من تصفيَة للقضيّة الفلسطينيّة وخَطَرٍ دَاهِمٍ على الأمن القومي المصري .
وأوضحت الهيئة رَفْض مصر التامّ لأيّة مزاعم تتداولها بعض وسائل الإعلام، تتعلّق بربط قبول مصر بمحاولات التهجير- المرفوضة قطعيًا- بمساعدات اقتصادية يتمّ ضَخَّها لها، مُؤكِّدة على أن السياسة الخارجية المصريّة عموما لم تقُمْ قَطّْ على "مُقايَضَة" المصالح المصريّة والعربيّة العُليا بأيّ مقابِلٍ، أيًّا كان نوعُه .
وفيما يتعلّق بصفة خاصّة بالقضية الفلسطينيّة، والتي هي جوهر الأمن القومي المصري والعربي، فإن موقف مصر منها لأكثر من ثلاثة أرباع القرن، ظلّ مبدئيا راسِخًا يُعْلِي من اعتبارات هذا الأمن القومي وحقوق الشعب الفلسطيني الشقيق، وهو ما تحمَّلت مصر من جرَّائه- راضيةً وصابرةً- أعباءً اقتصادية ومالية هائلة، لم تدفعها مُطْلَقًا في أيّ لحظة، نحو أيّ تنازُلٍ ولو طفيفٍ في مقتضيات أمنها القومي الخاص وأمن أُمَّتها العربيّة العام، ولا في حقٍّ واحدٍ مشروع للشعب الفلسطيني الشقيق .
وأنّ مصر لم تكتف برفضها القاطع والنهائي لمشروع التهجير المطروح منذ بدء العدوان على غزّة، في المسارات السياسية والدبلوماسية، بل أعلنته عاليًا وصريحًا منذ الساعات الأولى لهذا العدوان على لسان قيادتها السياسية، مُلْزِمةً نفسها به أمام شعبها والعالَم كلّه، ومُتَّسِقَةً مع أمنها القومي والمصالح العربيّة العليا ومحافِظةً على القضيّة الفلسطينية، ومؤكّدة على مبادئ سياستها الخارجية التي تقوم على "الأخلاق" والرفضِ التامِ لأن يكون لاعتبارات "المقايَضة" أيّ تأثير عليها.
وهكذا تؤكّد مصر طوال تاريخها العريق تَحَمُّلَها أمانة المسئولية والقيادة ودورها الوطني والقوميّ لحدودها وسلامة مُحيطها العربيّ والإقليميّ، لـ"تحيَا مصر" الأُمَّة والشعب صاحِبَة التاريخ والحضارة الإنسانية المُشَرِّفَة.