نستكمل معا ما يحدث في افريقيا التي مازالت مطمحا استراتيجيا مهمّا، ومحورا جذّابا للصراع بين القوى العالمية الكبرى، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الأوروبي، ممثلا في فرنسا أساسا من جهة، والصين والهند والإتحاد السوفييتي أو روسيا حاليا من جهة أخرى، حيث تعتبر إفريقيا قارة شبه عذراء، ومجالا واسعا للإستثمار، والهيمنة السياسية.
ففي ظل تولي ترامب السلطة يناير القادم نطرح سؤالاً نحاول البحث له عن اجابة واضحة هل ستكون القارة الإفريقية بلا شك، الحلبة الأهم لمشادات جيوسياسية شرسة، بين روسيا والدول الغربية النافذة، وستكون القارة الإفريقية كذلك، مسرحا لتنافس شديد بين قطبين، يتأجج عداؤهما كل يوم بصورة أكبر؟
في هذا السياق، يمكن ان نلاحظ رغبة روسيا في تعزيز نفوذها في إفريقيا، عبر إيجاد أسواق بديلة عن أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، بغاية تجاوز العقوبات الغربية المسلطة عليها،وبالتالي فان التوسع الروسي فى إفريقيا ليس مناورة مفاجئة، بل هو جهد محسوب لإعادة تشكيل المشهد الجيوسياسى لصالحها فى إطار التحالف مع دول الجنوب العالمى من أجل وضع قواعد نظام عالمى جديد أكثر عدالة وتوازنا، وربما يتمثل الهدف الأساسى لروسيا فى استغلال الثغرات فى السياسة الأمنية التى خلفتها الدول الغربية؛ بهدف تغيير ميزان القوى تدريجيا.
وخلافا للنهج الغربى، الذى يؤكد غالبا الشراكات طويلة الأمد فى ظل مشروطية سياسية تنطوى على مبادئ النيوليبرالية، فإن الاستراتيجية الروسية تركز على المكاسب الفورية والمزايا التكتيكية وعدم التدخل فى الشئون الداخلية وإعلاء مبدأ السيادة الوطنية للشركاء، ويسمح هذا النهج لروسيا بتثبيت وجودها ونفوذها بسرعة، وإنشاء حزام من التعاون العسكرى يمتد من المحيط الأطلسى إلى البحر الأحمر.
إن الحرص على استقرار العلاقات مع دول الشمال الإفريقي، سيضمن لروسيا تأمين إطلالة لها في البحر الأبيض المتوسط على الحدود الجنوبية لحلف شمال الأطلسي، وفي الوقت ذاته سيساعدها نسبيا على كسر طوق الإحتواء الأطلسي المضروب عليها عند تخومها الغربية "كانت زيارة الرئيس الجزائري إلى العاصمة موسكو، تجسيدا مثاليا علي جدية الروابط الإفريقية الروسية خاصة في أبعادها الجيوستراتيجية."
من جهة أخرى فإن روسيا فى تنافسها مع العالم الليبرالى على تأسيس الخطاب المهيمن - إلى جانب الوسائل العسكرية - تستخدم القوة الناعمة، وتستفيد من جاذبية القيم غير الليبرالية لتشكيل تحالفات فعالة فى السياسة الخارجية، وتقويض مصداقية المؤسسات الدولية، وإعادة تشكيل النظام العالمى من خلال رصد الحزام الروسى الجديد ،حيث تتعدد الأنشطة العسكرية الروسية فى إفريقيا ويتسع نطاقها بشكل تدريجى ،ففى بوركينا فاسو ومالى، شاركت القوات الروسية بنشاط؛ إذ قدمت المساعدة العسكرية وأقامت علاقات تعاون، وفى النيجر، هناك علامات على التعاون العسكرى الذى يزداد رسوخا، وتشير الاجتماعات السياسية رفيعة المستوى فى تشاد إلى تعميق العلاقة مع زيارة الرئيس ديبى لموسكو مطلع 2024، حيث تمتلك روسيا وجودا أمنيا قد يصل إلى حد بناء قاعدة للفيلق الإفريقى فى جمهورية إفريقيا الوسطى.
يلاحظ موخراً اتجاه البلدان عبر منطقة الساحل( المنطقة الممتدة من السنغال إلى البحر الأحمر)نحو روسيا للحصول على المساعدة الأمنية فى السنوات الأخيرة فى مواجهة عدم الاستقرار الإقليمى المتزايد،وهو ما يعني الآليات التي تقوم بها روسيا فى تأمين مصالحها فى جميع أنحاء القارة، ولاسيما "منطقة الحزام الأفريقي".
فمن خلال تقديم الدعم العسكرى وإقامة التحالفات مع الدول الإفريقية، تضع روسيا نفسها فاعلاً رئيسيا فى ديناميكيات الأمن الإقليمى، وهذا لا يعزز نفوذها الجيوسياسى فحسب، بل يمكّنها أيضاً من موازنة النفوذ الغربى فى هذه الدول،ودلالة ذلك نشر "الفيلق الإفريقي"وهو قوة عسكرية تسيطر عليها الدولة الروسية، على تحول استراتيجى فى النهج الذى تتبناه روسيا فى التعامل مع النفوذ العسكرى فى إفريقيا، وعلى عكس شركة فاجنر العسكرية الخاصة، يخضع الفيلق الإفريقى مباشرة للدولة الروسية،وهو ما يضمن قدرا أكبر من السيطرة والتنسيق، وكان أول انتشار مؤكد له فى بوركينا فاسو؛ حيث يدعم الحكومة العسكرية لإبراهيم تراورى، ويعتقد أن قوات هذا الفيلق حلت محل فاجنر فى ليبيا، ومن المتوقع إجراء عمليات نشر مستقبلية فى مالى وجمهورية إفريقيا الوسطى والنيجر، وربما يطرح ذلك تساؤلات بشأن الحوكمة وقضايا المساءلة والنفوذ الاقتصادى؛ إذ تكمل موسكو وجودها العسكرى بأدوات اقتصادية، بما فى ذلك مبيعات الطاقة والأسلحة، لتعميق نفوذها فى القارة.
ان التمركز الاستراتيجى للقوات الروسية على طول الممرات الجغرافية الرئيسية من المحيط الأطلسى إلى البحر الأحمر؛ يهدد بتقويض الجهود الغربية للحفاظ على الاستقرار وتعزيز الحكم الديمقراطى فى إفريقيا، وقد يؤدى هذا التحول إلى زيادة المنافسة والتوتر بين القوى العالمية، ومع ذلك، تواجه المنطقة تحديات كبيرة من الجماعات الجهادية المرتبطة بتنظيم القاعدة، وتنظيم الدولة الإسلامية، والتى اخترقت الدول الساحلية مثل: بنين وغانا وتوغو. فعلى سبيل المثال، فى بنين، تضاعفت الهجمات الجهادية ضد السكان المدنيين ثلاث مرات تقريبا فى عام 2023، من أكثر من 30 حادثا إلى ما يقرب من 80 حادثا، وردا على ذلك، تحاول الولايات المتحدة إنشاء قواعد عسكرية للطائرات من دون طيار على طول ساحل غرب إفريقيا ،للحد من انتشار هذه الجماعات المتطرفة(أكد الجنرال مايكل لانجلى أمام مجلس الشيوخ الأمريكى فى 16 مارس، أن الحرب الإعلامية الروسية أدت إلى تقليص نفوذ الولايات المتحدة فى إفريقيا بشكل كبير فى السنوات الأخيرة).
ان قيام وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بجولة خارجية شملت عدداً من الدول الإفريقية (تشاد– غينيا– الكونغو برازفيل– بوركينا فاسو)، خلال الفترة من 2 إلى 6 يونيو الماضي يأتي في إطار تبني روسيا سياسة خارجية تقوم على تطوير نمط علاقاتها القائم مع الدول الإفريقية؛ وذلك بهدف تعزيز الدور والنفوذ الروسي في الدول الإفريقية، وبما يُسهم في الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في القارة الإفريقية.
وتشير التقارير الي ان زيارة لافروف للدول الإفريقية"سبق الأشارة اليها" تضمنت عدداً من الأهداف تسعى موسكو لتحقيقها، والمرتبطة في الأساس بتعزيز النفوذ الروسي وتمديده في معظم أنحاء القارة الإفريقية،منها تراجع النفوذ الأمريكي في إفريقيا ،ولعل أبرزها الانسحاب الأمريكي من بعض دول الساحل والصحراء خلال الفترة الأخيرة، علاوة علي تعزيز التعاون العسكري بتوقيع المزيد من اتفاقيات التعاون العسكري والدفاعي مع الدول الإفريقية، بما في ذلك صفقات السلاح وإرسال الخبراء الروس لتدريب القوات المسلحة في تلك الدول، وخاصة فيما يتعلق بمواجهة الإرهاب المتنامي في منطقة الساحل والصحراء ، "وهذا ما عكسته محادثات لافروف مع المسؤولين في الكونغو برازافيل حيث تم الاتفاق على تطوير التعاون العسكري التقني، ومتابعة تنفيذ ما تم الاتفاق عليه في عام 2019 بين الدولتين بشأن إرسال مُتخصصين عسكريين روس إلى الكونغو لمساعدتها على تطوير مؤسساتها العسكرية والأمنية، كما تم الاتفاق على تعزيز التعاون المشترك بين روسيا وغينيا، وخاصة فيما يتعلق بتطوير قدرات غينيا العسكرية لمساعدتها على مواجهة التهديدات الأمنية المرتبطة بتصاعد الأنشطة الإرهابية" .
ايضا الاتفاق على استمرار التعاون العسكري الروسي مع تشاد وخاصة على مستوى توريد الأسلحة والمعدات العسكرية، وذلك في إطار حرب النفوذ خاصة ان تشاد تُعد آخر معاقل الوجود الفرنسي في الوقت الحالي بعد طردها من مالي وبوركينا فاسو؛ إذ توجد تسع قواعد عسكرية ،وذلك لمواجهة المساعي الأمريكية لتشكيل قوة عسكرية مُوحدة من الجماعات المسلحة في ليبيا ،ومواجهة النفوذ الروسي المُتمركز في جنوب وشرق ليبيا، وإعلان موسكو عن تشكيل فيلق موسكو المكون من 20 ألف جندي والمتمركز في إفريقيا الوسطى.
في كل الأحوال لم يعد سرًا أن روسيا باتت تعمل بشكل صريح على توسيع نفوذها في الدول الأفريقية في المجال العسكري عبر زيادة مبيعات الأسلحة، وإبرام الاتفاقيات الأمنية، وتطوير برامج التدريب العسكري لدول المنطقة"والسودان هو أحد المرشحين الجدد لذلك".
وبحسب مركز أفريقيا للدراسات الإستراتيجية، فإن النفوذ الروسي يتعاظم في جمهورية أفريقيا الوسطى، ومالي، والسودان، وزيمبابوي ،أما صحيفة "فايننشال تايمز"، فتتحدث عن أن تعزيز النفوذ الروسي تجلى إلى أقصى حد في دول منطقة الساحل (جمهورية أفريقيا الوسطى، مالي، السودان، بوركينا فاسو،)لا سيما فيما يتعلق بالمساعدات العسكرية المقدمة لدول المنطقة.
هنا يري العديد من الخبراء المعنيين بملف القارة الأفريقية ان روسيا تسعي الي مُواجهة الضغوط الغربية ،بهدف خلق توازنات جديدة مع الدول الإفريقية لمواجهة تلك الضغوط ،وخاصة في منطقة الساحل والصحراء وغرب ووسط إفريقيا، وبغرض تعزيز نفوذ روسيا في تلك المناطق، مُستغلةً الفراغ الناتج عن تراجع النفوذ الأمريكي والغربي،وهو ما يتفق مع توجهات السياسة الخارجية لأنظمة الحكم الجديدة في تلك الدول، التي أصبحت تفضل التعامل مع روسيا ورفض استمرار التبعية للدول الغربية بمختلف صورها السياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية"انعكس في تصويت الدول الإفريقية في مجلس الأمن لصالح روسيا في مواجهة العقوبات الغربية المفروضة عليها" ومن ثم فإن روسيا تحرص على ضمان الاستفادة من الكتلة التصويتية المهمة للدول الإفريقية في المحافل الدولية، ولاسيما في الأمم المتحدة .
كذلك تعكس التحركات الروسية المُكثّفة في القارة الإفريقية، مساعي روسيا للخروج من عزلتها الدولية المفروضة عليها بسبب العقوبات الأمريكية والأوروبية بسبب الحرب الأوكرانية.
وعلى خط الاقتصاد، يتعاظم كذلك دور الشركات الروسية الكبرى العاملة في أفريقيا كشركات النفط والغاز العملاقة: لوك أويل، وغازبروم، وروسنفت، بالإضافة إلى روسجيولوجي وروساتوم، والتي باتت جغرافيتها تغطي دولًا مثل "الجزائر، وأنغولا، والكونغو، ومصر، وجنوب أفريقيا، ونيجيريا، وليبيا" حيث يري البعض الي ان روسيا تسعي الي تطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية بين روسيا وهذه الدول ،من خلال تقديم بعض المساعدات الاقتصادية للدول الإفريقية التي تعاني أوضاعاً اقتصادية متفاقمة (علي سبيل المثال، تمتلك الكونغو برازافيل احتياطيات نفطية هائلة؛ "تحتل الترتيب السادس إفريقياً من حيث إنتاج النفط، كما تمتلك موارد طبيعية في حاجة إلى استثمارات ضخمة لتعظيم الاستفادة منها" ولكنها تعاني فقراً شديداً وبلغ حجم الدين المحلي في عام 2021 حوالي 107% من الناتج المحلي الإجمالي).
ايضا تعمل روسيا على مساعدة دول الساحل والصحراء (تشاد– النيجر– بوركينا فاسو) على مواجهة تداعيات انقطاع علاقاتها مع المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا "الإيكواس" التي فرضت عقوبات اقتصادية عليها بسبب الانقلابات العسكرية على السلطات التي كانت قائمة في تلك الدول، فخلال زيارة لافروف لغينيا تم الاتفاق على تعزيز التعاون الاقتصادي بين روسيا وغينيا في مجال التنقيب، وذلك من خلال استثمارات شركة "روسال" التي تُعد أكبر مستثمر روسي بغينيا، وتقوم بتوفير الآلاف من فرص العمل لمواطني غينيا.
من هنا يمكن القول بان المطالب التنموية والإقتصادية للأفارقة، بقدر ما تعدّ محورية بالنسبة لدول القارة، بقدر ما تتجه الإستراتيجية الجديدة للسياسة الخارجية الروسية، إلى جعلها قاطرة رئيسية في شراكاتها، تمهد الطريق لمضاعفة المبادلات التجارية بين الطرفين، التي تعتبر العصب الحيّ في اي علاقات دولية ــ ثنائية ، بما يجعل لها آثارا على الشعوب في كلا البلدين.
هنا لابد من الإشارة الي ان حجم المبادلات التجارية بين روسيا وإفريقيا، ما يزال متواضعا إلى أبعد الحدود، إذ لا يتجاوز 14 مليار دولار، فيما تصل هذه المبادلات بين القارة الإفريقية والصين، إلى مستوى 295 مليار دولار، وتبلغ نسبة 254 مليار دولار مع الولايات المتحدة الأمريكية، و65 مليار دولار مع الإتحاد الأوروبي، مما يفرض على روسيا التحرك بفاعلية اكثر وبإلحاح كبير، لتغيير المعادلة في هذه المنطقة.
علي الرغم من أن الأرقام لا تعكس دائمًا ديناميكية الحراك الجيوسياسي الذي عادة ما يكون متدرجًا، فإنه قد يكون من المفيد أن نشير إلى أن حجم التجارة الخارجية لروسيا مع الدول الأفريقية بلغ في عام 2022 نحو 18 مليار دولار. حوالي 25% من الإمدادات الروسية كانت عبارة عن محاصيل الحبوب، و22% أخرى كانت منتجات نفطية،لكن ما لا يقل أهمية هو "المنتجات السرية"، بما في ذلك الأسلحة.
إذن يمكن القول بان السياسة الخارجية الروسية براغماتية تسعى من خلالها موسكو لإيصال رسالة إلى الولايات المتحدة والدول الأوروبية، مُفادها قدرة الفاعل الروسي على ملء الفراغ الذي ترتب على تراجع النفوذ الغربي بصفة عامة في القارة الإفريقية، ومن المحتمل أن تنجح روسيا في التمدد داخل غينيا،ومن ثم الحصول على منفذ جديد على المحيط الأطلسي ،ومن ثم تحقيق مزيد من المكاسب السياسية والاقتصادية.
وفي النهاية تبقي كلمة انه لا ينبغي فصل عملية "التقارب" الروسي مع بلدان القارة السمراء عن ردود الفعل المتوقعة من جانب الغرب الجماعي، فهو لن يقبل بأن تلقي أفريقيا بنفسها في الحضن الروسي، وستواجه هذه العملية غالباً عراقيل كبيرة وكثيرة،كما انه من غير المستبعد أن تذهب المنظومة الغربية لخيار إشعال الحروب الأهلية والإقليمية، علاوة علي الوقوف وراء انقلابات عسكرية هنا وهناك ،(ظهر ذلك في ردود الفعل الغربية على الانقلاب الذي وقع في النيجر في يوليو العام الماضي حيث خسر الغرب جراء تغير الحكم في النيجر واحدة من أكبر البلدان المصدرة لليورانيوم في العالم).
خارج النص:
القيادة السياسية المصرية تعي تماما ما يدور داخل دول القارة الأفريقية ،ولكنها تتحرك بوعي وحكمه للحفاظ علي دورها التاريخي ،ومكانتها الجيوسياسية باعتبارها بوابة أفريقيا من والي باقي دول العالم ،علينا فقط ان نرصد ونسجل .
بقلم:
عصام الشيخ
[email protected]