طفرة تكنولوجية هائلة يشهدها مجتمعنا العربي والعالم هذه الآونة إثر ظهور تقنية الذكاء الاصطناعي؛ وهو ما تداركته دار الإفتاء المصرية لتأثيره الملموس على المجتمع بشكل عام وعلى الفتوى والجانب الديني بشكل خاص فخصصت مؤتمرها العالمي القادم المقرر عقده الشهر المقبل يومي 12،13أغسطس ليكون بعنوان: "صناعة المفتي الرشيد في عصر الذكاء الاصطناعي"؛ احتفاءً بمرور عشر سنوات على تأسيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، وتجديدًا لرؤية صناعة الفتوى في ضوء الواقع الرقمي الجديد.
قبيل انطلاق فعاليات المؤتمر أجرينا هذا الحوار مع الدكتور إبراهيم نجم- مستشار مفتي الجمهورية والأمين العام للأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم_ للوقوف على أهم محاور هذا المؤتمر وكيف تُقنن دار الإفتاء التعامل مع الذكاء الاصطناعي وأهم المهارات اللازمة للمفتي فى ظل تلك التقنية؛إلى نص الحوار..
1-تقنية الذكاء الاصطناعي محور مؤتمر الإفتاء القادم؛فما رؤيتكم لتوظيفه في خدمة الفتوى؟
الذكاء الاصطناعي سلاحٌ ذو حدين؛ لذا نحن نعتمده بحذرٍ واعٍ، ونستثمره ليكون جسرًا لتطوير العمل الإفتائي وخدمة طالبي الفتوى مع صون مرجعية الإنسان العالم ودوره المحوري في الإفتاء.
ونرى في دار الإفتاء المصرية أنَّ الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون أداةً فعَّالة لدعم منظومة الفتوى وترشيدها، من خلال تحليل الكمِّ الهائل من الأسئلة الشرعية وإتاحة إجابات أولية سريعة مبنيَّة على المعلومات الموثوقة المخزَّنة؛وقد قطعنا شوطًا عمليًّا في هذا المجال عبر تدشين منصات رقميَّة ومواقع توثيقية التي تستعين بخوارزميات الذكاء الاصطناعي لرصد الفتاوى الشاذة وتصحيحها قبل انتشارها.
ورؤيتنا لتوظيف الذكاء الاصطناعي في خدمة الفتوى تنطلق من كونه خادمًا للمفتي لا بديلًا عنه؛ فالذكاء الاصطناعي يستطيع توفير بيانات وتحليلات تدعم قرار المفتي، ويُمكِّن من إعادة عرض الأحكام الشرعية بأسلوب عصري مواكب دون تفريط في الأصالة،كما أنه أداة مهمة لمواجهة سيل المعلومات غير المنضبطة، من خلال فلترة المحتوى المتطرف وإبراز الفتاوى الرشيدة القائمة على الاعتدال.
2-كيف تُقنِّن دار الإفتاء استخدام أمناء الفتوى للتقنيات الحديثة؟
-في هذا الصدد، وضعنا سياسات داخلية صارمة تُنظِّم آلية استخدام المفتين للتقنيات الرقمية في عملية الإفتاء؛ على سبيل المثال، تمتلك دار الإفتاء منصة إلكترونية موحَّدة لإصدار الفتاوى، يلتزم أمناء الفتوى باستخدامها في تلقِّي الأسئلة والإجابة عنها، مما يضمن وجود أرشيف مركزي لكل فتوى ومراجعتها من قِبل لجان علمية عند اللزوم.
كما يتم تزويد أمناء الفتوى بمواد علمية رقمية وقواعد بيانات حديثة تشمل التراث الفقهي وآراء العلماء الموثوقين، بحيث يُمكنهم البحث الالكتروني السريع عن الأدلة الشرعية خلال إعداد الجواب هذه التقنيات الحديثة تخضع لرقابة علمية؛ فلا يُعتَمَد أي مصدر إلكتروني للمعلومات إلا بعد مراجعة وتدقيق محتواه من لجان متخصصة للتأكد من صحته وخلوّه من الآراء الشاذة أو المغلوطة.
كذلك أنشأنا برامج تدريبية وورش عمل لتأهيل أعضائنا على استخدام التكنولوجيا بكفاءة وأمان،ويتم تدريب أمناء الفتوى على كيفية التعامل الرشيد مع مصادر المعلومات على الإنترنت، وكيفية استثمار وسائل التواصل الاجتماعي لنشر صحيح الدين بأسلوب جذَّاب ومسؤول.
كما أصدرت الدار أدلة إرشادية للمفتين حول الدبلوماسية الرقمية وأخلاقيات الخطاب الديني على المنصات الإلكترونية، بما يضمن توحيد منهجية الخطاب الإلكتروني وضبطه بضوابط الشرع.
ومن جهة أخرى، هناك توجيهات واضحة تمنع الاجتهادات الفردية خارج نطاق المؤسسة؛ فجميع الفتاوى يجب أن تكون من خلال بوابة دار الإفتاء الرسمية أو تطبيق الهاتف الذكي الخاص بالدار،مما يضمن عدم صدور فتوى عن أمناء الدار إلا بعد المراجعة الجماعية والتوثيق.
3-هل ترى أن الذكاء الاصطناعي سيحلُّ محلَّ المفتي والإنسان في مختلف المجالات؟
-بالرغم من الطفرة الهائلة في قدرات الذكاء الاصطناعي، فإنني لا أرى أنه يمكن أن يحلَّ محلَّ الإنسان عمومًا، ولا المفتي خصوصًا في أي مجال يحتاج إلى وعي أخلاقي وفهم عميق للسياق الإنساني.
وفي مجال الإفتاء تحديدًا، للمفتي البشري دور جوهري لا يمكن الاستغناء عنه؛ فالفتوى ليست مجرد استخراج نصوص جامدة، بل هي عملية اجتهادية معقَّدة تستند إلى ملكة فقهية راسخة وفهم لمقاصد الشريعة السمحة وربطٌ دقيق بين النص الشرعي وواقع الحال الذي يمر به المستفتي،وهذه الملكات والقدرات لا يمتلكها الذكاء الاصطناعي مهما تطورت خوارزمياته؛ لأنه يفتقد روح الاجتهاد المقاصدي والإحاطة بكافة أبعاد المسألة الإنسانية.
لقد أكدتُ في غير موضع أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يمدَّ المفتي بالمعلومات ويحلل المعطيات، لكنه لا يستطيع استقلالًا إصدار حكم شرعي ملائم؛وتكمن خطورة الاعتماد الكلي على الآلة في احتمال إخراجها أجوبةً جافة تفتقر إلى البُعد الإنساني والرحمة،وقد عبَّرنا عن هذا المفهوم في شعار مؤتمرنا الدولي القادم:"صناعة المفتي الرشيد في عصر الذكاء الاصطناعي"، إذ نؤكد أن المفتي الرشيد هو الإنسان المُؤهَّل الذي يُحسن استخدام أدوات العصر لكنَّه يبقى صاحب القرار الأخير والحَكَم على مخرجات التقنية.
على مستوى المجالات الأخرى أيضًا، سيظل الإنسان متقدمًا بخطوة في كل ما يتعلق بالوعي والقيم،فالذكاء الاصطناعي بارع في المعالجة السريعة وتحليل البيانات، لكنه مجرد أداة صنعها الإنسان، يعمل وفق ما تغذيه به العقول البشرية من معلومات وتوجيهات؛فمجالات القضاء والتعليم والطب مثلًا، مهما أدخلنا فيها من تقنيات ذكية لتحسين الكفاءة، يبقى الحضور البشري ضروريًّا لضمان البعد الأخلاقي والوجداني واتخاذ القرارات الحكيمة
4-ما هي أهم محاور مؤتمر دار الإفتاء العالمي القادم؟
محاور المؤتمر شاملة ومتكاملة ترمي جميعها إلى هدف واحد وهو إعداد مفتي المستقبل الجامع بين العلم الشرعي الرصين والوعي التقني الحديث، لضمان استمرار رسالة الإفتاء في تحقيق الاستقرار المجتمعي والسلام العالمي في ظل المتغيرات المتسارعة.
مؤتمر دار الإفتاء العالمي القادم محطة مهمة نهدف من خلالها إلى بلورة رؤية شاملة حول دور الإفتاء في عصر الذكاء الاصطناعي وقد وضعنا له خمسة محاور رئيسية وهم:
المحور الأول:يركِّز على تكوين المفتي الرشيد: حيث نناقش فيه مواصفات المفتي المثالي في عصرنا وكيفية تأهيل المفتين علميًّا ومهاريًّا والجمع بين فقه النص وفقه الواقع، وضرورة أن يمتلك المفتي أدوات فهم الواقع المتجدد حتى لا تحصل فجوة بين الفتوى وحياة الناس.
كذلك المهارات الجديدة اللازمة للمفتي في ظل التحديات المعاصرة،أيضًا نعرج على الأخطاء والمزالق التي يمكن أن يقع فيها بعض المفتين بسبب ضعف وعيهم بالواقع أو عدم مواكبتهم للتطورات، وكيف يؤثر ذلك على ضبط الفتوى المعاصرة.
المحور الثاني:بعنوان الإفتاء في عصر الذكاء الاصطناعي: وهو لبُّ المؤتمر، حيث نناقش استخدامات الذكاء الاصطناعي في مجال الإفتاء وآثارها الإيجابية والسلبية؛ سندرس ضوابط الفتوى الرقمية ومعاييرها، وآليات مواجهة ظاهرة الفتاوى العشوائية والمعلومات المضللة التي قد تنتشر عبر أدوات الذكاء الاصطناعي.
كذلك، سيتناول هذا المحور سُبُل تعزيز مكانة المؤسسات الإفتائية كمصدر موثوق به للفتوى في بيئة معرفية باتت مشبعة بتقنيات الذكاء الاصطناعي. ولن يغيب عن النقاش استشراف مستقبل الفتوى في عصر التقنية: كيف سيكون دور المفتي بعد عقد أو عقدين مع تقدم الذكاء الاصطناعي، وما الذي يجب فعله منذ الآن لضمان بقاء الفتوى الرشيدة سيدة الموقف مهما تطورت الأدوات.
المحور الثالث:عنوانه المفتي الرشيد في مواجهة الذكاء الاصطناعي: وهنا نسلط الضوء على ضرورة امتلاك المفتي المعاصر وعيًا تقنيًّا كجزء من تأهيله والمهارات الرقمية التي ينبغي أن يُلمَّ بها المفتي إلى جانب علومه الشرعية، وكيف يتعامل مع تحديات أخلاقيات الذكاء الاصطناعي في الإفتاء.
يدخل في ذلك أيضًا مناقشة أثر تقنيات الذكاء الاصطناعي على تكوين المفتي الرشيد، وكيف يمكن تطويع هذه التقنيات لتكون عونًا للمفتي لا خصمًا له، مثل استخدام البرمجيات الذكية لإدارة المعرفة الشرعية وضبط الفتوى في الفضاء الإلكتروني.
أما المحور الرابع:فيتناول الذكاء الاصطناعي وتطوير الهدف المؤسسي الإفتائي،سنناقش أهمية الإفتاء المؤسسي المنظَّم في عصر الرقمنة، وكيف تسهم التقنيات الحديثة في تطوير أداء دور الإفتاء من حيث سرعة الاستجابة وجودة الفتوى وانتشارها.
كما سنتعرض لمؤشرات قياس الأداء للمؤسسات الإفتائية في البيئة الرقمية، والضوابط الشرعية والأخلاقية لتطبيقات الذكاء الاصطناعي في عمل تلك المؤسسات.
وأخيرًا يأتي المحور الخامس:ليستعرض تجارب مؤسسات الفتوى في صناعة المفتي الرشيد في عصر الذكاء الاصطناعي: سنستمع إلى دراسات حالة من مختلف دول العالم. فهناك التجربة المصرية في تطوير الفتوى الرشيدة وتقنين العمل الإفتائي رقمياً، وتجربة مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي في إعداد وتأهيل المفتين باستخدام التكنولوجيا، وتجربة دائرة الإفتاء العام الأردنية، وكذلك تجارب دول رائدة مثل ماليزيا وموريتانيا وأوزبكستان وغيرها. عرض هذه التجارب الدولية المتنوعة سيتيح لنا الوقوف على أفضل الممارسات والتحديات المشتركة في عملية دمج التكنولوجيا بالعمل الإفتائي.
5-لمسنا جهودًا مكثفة لدار الإفتاء..فكيف يتكامل دورها مع المؤسسات الدينية؟
-إن دار الإفتاء المصرية جزءٌ لا يتجزأ من منظومة المؤسسات الدينية العريقة في مصر، وهي تعمل في تكامل وانسجام كامل مع شقيقاتها: الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف وسائر الهيئات العلمية والدعوية.
والتنوع في الاختصاصات بين تلك المؤسسات لا يعني انقطاع الصلة بيننا؛ بل العكس تمامًا، فهناك تعاون وثيق على كافة المستويات: اجتماعات دورية تنسيقية بين قيادات الأزهر والإفتاء والأوقاف، ومشاركات متبادلة في المؤتمرات والفعاليات الكبرى.
وقد شهد العقد الأخير في مصر تعاونًا غير مسبوق بين المؤسسات الدينية الرسمية لمواجهة الفكر المتطرف وتصحيح المفاهيم المغلوطة؛ على سبيل المثال، عند صدور وثائق مهمة أو مبادرات وطنية، نجد الأزهر ودار الإفتاء والأوقاف جميعًا تصطف لدعمها، مثل وثيقة الأخوة الإنسانية التي تبناها الأزهر، أو وثائق تجديد الخطاب الديني التي دعمتها دار الإفتاء.
وقد نفَّذت دار الإفتاء بالتعاون مع هيئة كبار العلماء ومجمع البحوث الإسلامية ندوات تثقيفية مشتركة،أيضًا في مواجهة فوضى الفتاوى التي تصدر من غير المؤهلين، نجد الأوقاف تمنع غير المرخص لهم من الخطابة، ودار الإفتاء توفر البديل العلمي الرصين عبر منافذها الرسمية.
ولا يفوتني الإشارة إلى بيت العائلة المصرية كمثال مشرِّف على تكاتف المؤسسات الدينية (الإسلامية والمسيحية) لتعزيز السلم المجتمعي؛تتجلى روح التكامل أيضًا من خلال الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم التي ترأسها مصر، حيث نتعاون مع عشرات دور الإفتاء عالميًّا لتنسيق المواقف وتبادل الخبرات في التصدي للتطرف ومعالجة القضايا الملحَّة.
6-ذكرتم أن هناك تقصيرًا من الجانب المصري في الشأن البحثي، فما رؤيتكم لتعزيزه؟
-آن الأوان لننتقل من مرحلة الاجتهادات الفردية المتفرقة في البحث، إلى بناء مؤسسات بحثية متخصصة تتكامل مع جهود الدولة في التنمية ومع رسالة مؤسساتنا الدينية في ترسيخ الوسطية ومواجهة التشدد علميًّا وفكريًّا.
ومصر ولّادة بالكفاءات، وعندنا من الإمكانات ما يؤهلنا لريادة البحث العلمي في مجال الدراسات الإسلامية والاجتماعية إذا أحسنّا التخطيط وحشدنا الطاقات لذلك.
و رؤيتنا لتدارك ذلك تقوم على عدة محاور:أولًا، الاستثمار في المراكز البحثية المتخصصة: وقد بدأنا بالفعل بهذا الاتجاه من خلال إنشاء مركز سلام لدراسات التطرف التابع لدار الإفتاء.
ثانيًا، تشجيع حركة الترجمة والتبادل العلمي.
ثالثًا، تطوير كوادر بحثية شابة تجمع بين التأهيل الشرعي الراسخ والمنهجية العلمية الحديثة في البحث والاستقصاء.
رابعًا، لابد من تعزيز ثقافة البحث داخل مؤسساتنا الدينية والتعليمية.
7-في رأيكم ما هي معوقات تحقيق السلام العالمي وما السبيل لتحقيقه؟
-السلام العالمي حلم البشرية الأسمى، لكنه للأسف يواجه معوِّقات كثيرة في واقعنا المعاصر أبرزها انتشار التطرف والإرهاب اللذين يؤججان الصراعات ويهددان أمن الشعوب.
أيضًا من المعوقات الكبرى غياب العدل وانتشار الظلم على مستويات عدة؛ فحين يشعر بعض الناس أو الدول بالاضطهاد أو ازدواجية المعايير في التعامل الدولي، تنمو مشاعر الغضب والرغبة في الانتقام بدلًا من روح الوئام.
ولا يمكن إغفال دور التعصب والكراهية،كذلك الفقر والتخلف والجهل تشكل بيئة خصبة لنزاعات طويلة الأمد؛ أضف إلى ذلك صدام المصالح الدولية والطموحات السياسية غير المسؤولة التي تشعل الحروب بالوكالة هنا وهناك، فضلًا عن سباق التسلح وإنتاج أدوات الدمار الشامل الذي يهدد الإنسانية جمعاء.
أما سبل تحقيق السلام العالمي فتبدأ أولًا ببناء السلام الداخلي في كل مجتمع ونزع فتيل التطرف والكراهية من نفوس الأفراد،وكذلك بتكاتف جميع الجهود: الدينية والتربوية والسياسية والاقتصادية،
وحين تسود ثقافة الحوار والرحمة محل خطاب الكراهية والاقصاء، سنمهد الطريق لعالم أكثر أمنًا وسلامًا، وهو ما نسعى إليه جاهدين عبر رسالتنا الإفتائية في الداخل والخارج.
8-ما هي ثمار جولاتكم الخارجية وماذا عن الجاليات الإسلامية في الخارج؟
بفضل الله أثمرت الجولات الخارجية تعزيز الثقة العالمية في الخطاب الديني المصري، وخدمة مباشرة لأبنائنا المسلمين في الخارج، وتقوية الروابط بيننا وبين صُنَّاع القرار الديني في العالم، مما يرسِّخ الريادة المصرية في الشأن الديني ويعود بالنفع على صورة الإسلام والمسلمين ككل.
فعلى سبيل المثال أشاد البرلمان الأوروبي بمصداقية دار الإفتاء واعتبرها مرجعية موثوقة لمسلمي أوروبا في شأن الفتاوى،بالإضافة إلى توقيعنا لمذكرات تفاهم وبروتوكولات تعاون مع هيئات إفتاء ومجالس دينية في دول مختلفة، بهدف تبادل الخبرات وتنظيم برامج تدريبية للأئمة والمفتين، وتوحيد الجهود في مواجهة المشكلات المشتركة كالتطرف وخطاب الكراهية.
أيضًا من ثمار تلك الجولات توحيد الصفوف بين الأئمة والدعاة في الغرب حول منهج الاعتدال،ولا يفوتني ذكر أن هذه الجولات عزَّزت صورة مصر الريادية دوليًا؛ فتكريم بعض المؤسسات العالمية لشخصي المتواضع – كمنحي لقب سفير السلام في ولاية نيويورك عام 2013 – إنما هو في الحقيقة تقدير لمصر ورسالة أزهرها وإفتائها في نشر السلام.
أما فيما يتعلق بـ الجاليات الإسلامية في الخارج، فهذه الجولات كانت بمثابة جسر تواصل مباشر معهم. فكثير من هذه الجاليات تعاني من ظاهرة الإسلاموفوبيا ومن خلال تواجدنا بينهم، قدَّمنا لهم الدعم المعنوي والشرعي؛وأجبنا على أسئلتهم الفقهية التي تمس واقعهم الخاص، وصار التواصل مباشرًا بينها وبين دار الإفتاء عبر وسائل التكنولوجيا كخط ساخن إفتائي يومي ومنصات إلكترونية متعددة اللغات.
9-هل استطعنا تقنين ظاهرة الإسلاموفوبيا؟
-من الصعب القول إننا "قننَّا" هذه الظاهرة بشكل تام،لكننا بالتأكيد حققنا خطوات إيجابية في الحد من تفشيها أو على الأقل في فضح مغالطاتها.
وجهود دار الإفتاء المصرية وغيرها من المؤسسات المعتدلة تركزت على تفنيد الصورة النمطية الخاطئة التي يروجها البعض عن الإسلام،فقد أطلقنا عبر مرصد الإسلاموفوبيا التابع لدار الإفتاء تقارير دورية ترصد الاعتداءات وأعمال الكراهية ضد المسلمين حول العالم، وتوضح كيف أن تصاعد الإسلاموفوبيا يرتبط أحيانًا بخطاب سياسي متطرف في بعض الدول أو بردود أفعال غير مبررة على جرائم معزولة لا يمثل فاعلوها إلا أنفسهم.
ولا يفوتنا هنا الإشادة بخطوات دولية مهمة مثل قرار الأمم المتحدة باعتماد يوم 15 مارس يومًا عالميًّا لمناهضة الإسلاموفوبيا؛ فهذا يُظهر اعترافًا عالميًّا رسميًّا بأن معاداة الإسلام مشكلة قائمة يجب التصدي لها.
ومع ذلك، لا زالت الإسلاموفوبيا موجودة وتتزايد أحيانًا مع وقوع أحداث إرهابية أو توترات سياسية؛لذا أقول: نجحنا في تحجيم الظاهرة إعلاميًّا وقانونيًّا إلى حد ما، لكن القضاء عليها تمامًا يحتاج استمرار العمل المشترك على كافة المستويات فى العالم.
10-ما السبب فى تزايد الفتاوى الشاذة مؤخرًا؟
-نرصد دومًا تزايد الفتاوى الشاذة ونعالجه باستمرار،فقد تنامت ظاهرة ما نسميه “فوضى الإفتاء” بسبب عوامل عدة، أبرزها الانتشار الواسع لوسائل التواصل الاجتماعي ومنصات البث عبر الإنترنت التي أتاحت لأي شخص أن يُدلي بدلوه في أمور الدين.
ومواجهة هذه الظاهرة تتطلب تحركًا على عدة أصعدة من جانبنا في دار الإفتاء، نتصدى لها بإصدار بيان أو فتوى رسمية تبين الحكم الصحيح مدعَّمًا بالأدلة وقد خصصنا وحدات رصد تتابع ما يُثار في الإعلام ومواقع التواصل يوميًّا، للوقوف على أي ظاهرة إفتائية طارئة ومعالجتها.
كذلك نعمل على رفع مستوى الوعي العام بألا تؤخذ الفتوى إلا من المتخصصين الثقات وفي إطار المؤسسات المعتمدة؛وقد رحبت الدولة المصرية بهذا التوجه وأقرَّت تشريعات تجرِّم ممارسة الإفتاء في الفضاء العام لغير المرخَّص لهم، في محاولة لضبط هذا الانفلات.
11-لماذا يضع الغرب دومًا مصر والإسلام تحت المجهر؟
-نظرة بعض الدوائر الغربية إلى مصر والإسلام نظرة تاريخية معقدة، وفيها جانب من التوجس وسوء الفهم تغذَّى عبر عقود طويلة.
فالغرب – إعلامًا ومراكز أبحاث – يضع العالم الإسلامي تحت المجهر ربما لأسباب متنوعة:أولًا، هناك إرث تاريخي من الصور النمطية منذ الحروب الصليبية والاستعمار، رسَّخت في الذهنية الغربية تصوّرات مشوَّهة عن الشرق المسلم باعتباره “آخر” مختلفًا وربما مهددًا.
ثانيًا، لا يمكن إنكار أن الأحداث الإرهابية التي نفذتها جماعات تدعي الانتساب للإسلام أعطت ذريعة للبعض في الغرب لتسليط أضواء مكبرة على كل ما يتعلق بالإسلام، وأحيانًا بشكل غير منصف يربط دين بأكمله بتصرفات قلة منحرفة.
ثالثًا، بالنسبة لمصر تحديدًا، فهي دولة محورية في العالم الإسلامي والشرق الأوسط؛ موقعها الجيوسياسي ودورها الريادي فكريًّا ودينيًّا يجعلها في بؤرة الاهتمام العالمي.
فالبعض في الغرب يراقب مصر ليقيس نبض العالم الإسلامي كله، فمصر تمثل عندهم “عينة” مؤثرة؛أيضًا لا نغفل أن هناك تيارات غربية متشددة أو ذات أجندات سياسية تتعمد تسليط المجهر على أي خطأ أو مشكلة في الدول الإسلامية لتبرير مواقفها.
كذلك البعض يضع الإسلام تحت المجهر بحجة الخوف على قيمه الغربية من “الأسلمة” أو التأثر بثقافة المهاجرين المسلمين،ومع كل ما سبق، يجب أن نذكر أن الغرب ليس كتلة واحدة في نظرتها؛ فهناك أيضًا أصوات منصفة وباحثون موضوعيون يعرفون قيمة مصر الحضارية وسماحة الإسلام وينقلون صورة إيجابية،ودورنا هو الاستمرار في العمل والتوضيح بلا كلل.
12-هل وُضِعت مخرجات وتوصيات مؤتمرات الإفتاء السابقة في حيِّز التنفيذ؟
بالطبع، بعض التوصيات خاصة بأوضاع دولية عامة قد تتطلب تنسيقًا على مستوى الدول وحوارًا ممتدًا، وهذه نعمل عليها عبر الدبلوماسية الإفتائية إذا صح التعبير، من خلال التواصل مع المنظمات الدولية ومؤسسات الإفتاء العالمية لتحقيقها.
فمؤتمرات الإفتاء العالمية التي نظمتها الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم منذ تأسيسها عام 2015 لم تكن يومًا مجرد لقاءات خطابية عابرة، بل حرصنا كل الحرص على أن تتحول توصياتها ومخرجاتها إلى مشاريع عمل وبرامج واقعية؛ويمكنني التأكيد بثقة أن جزءًا كبيرًا من توصيات المؤتمرات السابقة وُضع موضع التنفيذ بالفعل على أرض الواقع، سواء داخل مصر أو بالتنسيق مع دور الإفتاء حول العالم.
سأعطي بعض الأمثلة للتوضيح: في مؤتمر عام 2016 – مثلًا – كانت إحدى التوصيات إنشاء مرصد عالمي للفتاوى التكفيرية لمتابعة خطاب التطرف، وعلى إثرها أنشأت دار الإفتاء المصرية مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة الذي يعمل منذ سنوات بفاعلية ويصدر تقارير وتحليلات معتمدة عالميًّا.
أيضًا في مؤتمر 2018 خرجنا بتوصية ضرورة إنشاء أكاديمية لتأهيل المفتين، وها نحن اليوم قد شارفت أكاديمية دار الإفتاء على الاكتمال كصرح تدريبي أكاديمي يستقطب طلبة العلم من أنحاء العالم.
وفي مؤتمر 2019 الذي عُقد في مكة المكرمة بالتعاون مع رابطة العالم الإسلامي، تم تبنّي وثيقة لتعزيز التنسيق بين دور الإفتاء وإرساء معايير مشتركة للفتوى الرشيدة؛ هذه الوثيقة تلتزم بها اليوم ستّون هيئة إفتائية من أعضاء الأمانة العامة، وأصبحت بمثابة دستور أخلاقي يوجه عملنا المشترك، وتتم متابعة تطبيق بنودها عبر اجتماعات دورية.
أيضًا إحدى ثمرات ذلك المؤتمر أننا رأينا عددًا من دور الإفتاء خصوصًا في أوروبا وأفريقيا تُنشئ إدارات مختصة لرصد خطاب الكراهية في مجتمعها والتعامل معه بالفتوى والتوعية، مما يدل على تفاعل الدول الأعضاء مع التوصيات. لا ننسى كذلك أن الأمانة العامة منذ إنشائها وضعت سلسلة المواثيق الإفتائية الدولية، بدأتها بـ«إعلان القاهرة 2015» ثم أصدرنا حتى الآن ثمانية مواثيق في كل مؤتمر سنوي تغطي جوانب مختلفة.
المهم أن لا شيء مما نتفق عليه في مؤتمراتنا يضيع سدى بإذن الله، بل نثابر لترجمته إلى واقع، إيمانًا منا بأن المؤتمر الحقيقي يبدأ بعد انتهاء جلساته، أي عند مرحلة العمل والتطبيق في الميدان.
13-في رأيكم كيف تعود ثمار مثل تلك المؤتمرات بالنفع على الجمهور العام؟
-قد يبدو للبعض أن مؤتمرات الإفتاء بشعاراتها الأكاديمية ومناقشاتها المتخصصة أمرٌ يخص العلماء وحدهم، لكن الحقيقة أن ثمار هذه المؤتمرات تصل بشكل غير مباشر بل ومباشر أحيانًا إلى الجمهور العام وتنعكس إيجابًا على حياته اليومية.
ومن تلك المنافع ما ينتج عن المؤتمرات من تطوير للعمل الإفتائي نفسه، كذلك، توصيات المؤتمرات كثيرًا ما تتضمن معالجات لقضايا اجتماعية وعملية تهم الجمهور؛ مثل قضايا الأسرة، والشباب، والصحة النفسية، والمواطنة، والسلام المجتمعي.
أيضًا لا ننسى أن الجمهور يتابع جانبًا من هذه المؤتمرات عبر الإعلام، فكثير من المحاضرات والنقاشات تُنقل في الصحف والقنوات، وبالتالي يحصل تثقيف ديني عام للمجتمع حول القضايا المستجدة وكيفية تناولها شرعيًا.
كذلك منافع المؤتمرات تظهر في توحيد الخطاب الديني الذي يصل لعامة الناس؛ وتعطي رسالة للجمهور أن علماءهم مجتمعون لأجل مصالحهم، يعملون على إيجاد حلول لمشكلاتهم المعاصرة، وهذا يعزز الثقة بين الناس والمؤسسة الدينية.
فالنفع الأكبر للجمهور هو تعزيز استقرار المجتمع؛ وحماية العقول من التشتت وحماية المجتمع من الفتن، مما ينعكس في حياته اليومية مزيدًا من الطمأنينة والتلاحم.
14-ماذا عن خطط دار الإفتاء المصرية المقبلة؟
باختصار، خطط دار الإفتاء المقبلة شاملة ومتكاملة، تهدف إلى ترسيخ ريادة المؤسسة في الداخل والخارج.
وسنعمل على الجمع بين تأصيل العلم الشرعي وتحديث الوسائل، وبين خدمة المواطن المصري وخدمة المسلم أينما كان. غايتنا الأسمى أن نظل كما عهدنا الناس: حصنًا أمينًا يحمي الفكر الإسلامي الصحيح، ويدًا حانية تقدم العون والمشورة، ومنارة هدى تضيء درب الحائرين، بما يدعم استقرار وطننا ومجتمعاتنا ويصون شبابنا من التطرف ويعرّف العالم بسماحة ديننا واعتدال منهجنا.
ونحن بإذن الله ماضون على هذا الطريق بخطى ثابتة وعزيمة صادقة، مستمدين العون والتوفيق من الله تعالى، ثم بدعم قيادتنا الرشيدة وثقة شعبنا الكريم. نسأل الله أن تحقق هذه الخطط أهدافها، وأن تظل دار الإفتاء حصنًا للإسلام الوسطي ومنبرًا للسلام والتسامح في العالم أجمع.
اترك تعليق