هيرمس
    مصر
  • 29℃ القاهرة, مصر

رئيس مجلس الإدارة

طارق لطفى

رئيس التحرير

أحمد سليمان

ليس اتفاقًا وإنما إقرارُ زعامةٍ !

 

بهذا التوقيع التاريخي على اتفاق إنهاء حرب غزة، (الإثنين 13/10/2025م)، من بلد السلام والفداء والتضحية والتراب الطاهر، شرم الشيخ، وفي حضور قادة الدول الوازنة في هذا العالم، انتصرت مصر؛ فتم لها كامل ما أرادته ورأته حقًّا وعدلًا وقانونًا وإنسانيةِ. بهذا التوقيع التاريخي، والذي ينهي عامين من الإبادة الجماعية كانت فيهما مصر، وحدها، الصخرة الصلدة التي تحطمت عليها آمال وأطماع أحد أبشع وأشرس القوى الإمبريالية عبر التاريخ. منذ اللحظات الأولى لتلك المجزرة أعلنت مصر، رسميًّا وشعبيًّا، وفي وضوح لا لبس فيه رفضها القاطع لتهجير الفلسطينيين من أرضهم وتصفية قضيتهم للأبد، وأطلقتها صرخةً مدوية بأن هذا ظلمٌ تاريخي، ومحالٌ أن تشارك فيه. وتحملت وحدها تبعات ذلك لا سيّما اقتصاديًّا، بل أخذت على عاتقها وحدها إعداد خطةٍ -باتت عربية- تسابق فيها الزمن وعدوًّا غشومًا مترصدًا، حتى استوت؛ فكانت متكاملة المعالم، جليّة الملامح، دقيقة التفاصيل، لإعادة إعمار غزة دون خروجٍ لفلسطينيّ واحد منها. يأتي توقيع اليوم، لا ليُنهي تلك المجزرة الحاصلة، ووقف التهجير، وإعادة الإعمار وحسب وإنما ليؤكد ويُقرّ لمصر -وليست في حاجةٍ إلى إقرارٍ- ليس بزعامة المنطقة، ورمّانة ميزانها وحسب وإنما كإحدى القوى الوازنة والفاعلة في العالم بأسره.

بهذا التوقيع التاريخي، وإستراتيجيًّا، أنهت مصر مخططًا كان الترويج له رسميّا -على لسان نتنياهو وحتى ترامب نفسه- في المحافل الدولية، وعبر منصات الأمم المتحدة نفسها، أمرًا مألوفًا وعاديًّا، حتى ترسّخ لدى الجميع أن تفويت ذلك أو تجاوزه، وعدم حدوثه واقعًا، مستحيلًا رابعًا. بهذا التوقيع التاريخي أشهدت مصرُ الدول لاسيما الداعمة لإسرائيل سياسيًّا وعسكريًّا حتى تاريخه على أنفسها، حتى إنه لَيقطع الطريق عليها مستقبلًا في مواصلة ما كانت عليه قبله دعمًا لها وحمايةً. فإنها إن فعلت وخالفت ما كانت علية شاهدة تعرّت أمام التاريخ وشعوبها.

هذا التوقيع التاريخي، وفيما أرى، أُرغِمت عليه أمريكا لعزلتها الدولية؛ إذ باتت في وادٍ ضد وقف الحرب؛ تجلت في استخدامها حق النقض الفيتو منفردةً مراتٍ عديدة، والعالم في آخر مع وقفها الفوري. ولضغوطٍ داخلية؛ آخرها أمس في رسالة لأكبر نقابة للمعلمين فيها، والبالغ عدد أعضائها نحو ثلاثة ملايين، إذ أرسلت إليهم خريطة لكامل فلسطين دون ذكر لإسرائيل. توقيع أُرغِمت عليه إسرائيل هي الأخرى لضغوطٍ داخلية أبرزها وظاهرها من عائلات الرهائن، وقناعة عارمة لدى الإسرائيليين بفشل العملية العسكرية في غزة دون تحقيق أهدافها. ولعزلتها الدولية، وخسارتها في ذلك إستراتيجيًّا، والتي تجلت -وفي ترجمةٍ واقعيةٍ وعمليةٍ- في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة (23 سبتمبر  2025م)، حيث الاعتراف الكاسح بدولة فلسطين من دولٍ وازنةٍ مثل بريطانيا وفرنسا وكندا وأستراليا وغيرها، وحيث قاعة الأمم المتحدة والتي كادت أن تخلو من الوفود أثناء إلقاء نتنياهو كلمته رفضًا له ولجرائمه في غزة، فضلًا عن إدانته من قِبل الجنائية الدولية ومذكرة التوقيف التي تلاحقه جراء ذلك. 

وأيًّا ما كانت وُجهة أمريكا وإسرائيل في قبول الاتفاق، وبعيدًا عن تبريرهما في ذلك، إلا أنهما -وفيما أرى أيضًا- قد أُرغِما عليه، وأن الأمر قد صدر لنتنياهو بالتوقف الآن، والآن بمعناها الحرفي والزمني، الآن، لأبعادٍ إستراتيجية بعضها ظاهرٌ ومعلومٌ، وكما ذُكر. وبعضها مفاده: نقطة ومن أول السطر؛ إذ لا يمكننا المضي قُدمًا فيما خططنا له وهدفنا إليه في ظل تلك العقبة الكؤود، مصر، والتي حالت وتحول دون بلوغ ذلك. فلنتوقف هنا، ونستعد لجولةٍ أخرى ربما تكون الحاسمة والقاصمة، دون كللٍ منّا أو مللٍ في تذليل تلك العقبة بالضغوط تارةً، وبالأسافين أخرى، وبالترغيب ثالثةً. ليكون السؤال: هل تعي مصر ذلك؟! قولًا واحدًا: نعم، تعي كل ذلك ويزيد؛ لذا أشهدتهم على أنفسهم، وأشهدت عليهم شعوبهم وحلفاءهم، والعالم أجمع، والقانون الدولي، والأمم المتحدة، وحتى الفيفا نفسها. تدرك مصر يقينًا أن ترامب أوقف الحرب، وضمن ذلك لأمدٍ بعيدٍ في توقيعٍ رسمي، كان العالم بأسره شاهدًا عليه. لكنه لم يضمن تغيير العقيدة الإسرائيلية الإمبريالية التوسعية (إسرائيل الكبرى، من النهر إلى البحر). وأنّى له ذلك؟! كل ذلك ويزيد تعيه مصر جيدًا، وتدركه يقينًا، ورِهانُها دومًا على وعي شعبها، وترابطه وتماسكه، لاسيما إزاء تلك المخططات التي باتت معلنة، رسميًّا وشعبيّّا وإعلاميًّا. وأملُها في إدراك أمتها العربية والإسلامية لخطر تلك المخططات، ومن ثَمّ ترتيب البيت العربي والإسلامي، واستنهاضه لمجابهة ذلك ومواجهته في صلابةٍ وشجاعة. تعي مصر ذلك كله، وفي إحدى يديها أغصانُ الزيتون، واصبع الأخرى على الزّناد.

وفي الأخير، أدت مصرُ ما عليها في أمانةٍ وشرفٍ، وعزيمةٍ لا تفتُر وﻻ تلين، وشجاعة ﻻ حدّ لها وﻻ نظير، نُصرةً لله، وللضعيف المظلوم، ورفعةً لأمّتها، وذودًا عن أمنها القومي؛ كل ذلك دون مَنٍّ منها على أحدٍ أو أذى. ولعل في عودة مئات الألوف من الفلسطينيين إلى أرضهم شمال غزة فرحين، فور الإعلان عن وقف الحرب، والتوصل لاتفاقٍ في ذلك، وفي منطقةٍ كان الرجوع إليها محرمًا ومستحيلًا، يحملون أعلام مصر بأيديهم، وألسنتهم تلهج باسمها، وعبارات الامتنان والتقدير لها، وفي تلك الفرحة التي ملأت عيون الأطفال والنساء والشيوخ بوقف نزفِ الحياة، وتلك الفرحة التي كان عليها هذا الغزاوي عندما شاهد، ولأول مرة منذ أكثر من عامين، عودة سوق غزة الرئيسي، ورؤيته لصنوفٍ من الفواكه والطعام لطالما اشتهتها نفسه، إلا دليل نُبل وإخاء وفروسية من مصر تجاه أشقائها وعروبتها. تلك الفرحةُ مقصدُ مصرَ وقِبلتُها دون سواها. حفظ الله مصر أرضًا وشعبًا وجيشًا وقائدًا.