ترامب يهدي بريطانيا سيفًا مقلدًا، مدّعيًا الأصالة.
أن تهدي شيئًا مزيفًا لكنه مطابقٌ للأصل، فذلك ليس مجرد فعلٍ مادي، بل إقرارٌ ضمني بأن الصورة أهم من الجوهر، وبأن الانعكاس يغلب الحقيقة.
إنّ النسخة المقلّدة تُرضي العين، لكنها تُحرّك في النفس معنى أعمق: إنها تحاكي الأصالة دون أن تمتلك روحها، تلمع مثلها… لكنها لا تملك تاريخها.
ولأن المفارقات أحيانًا تكتب نفسها، فقد كان المُهدى إليه ملكًا تستند مملكته إلى أكثر من ألف عامٍ من التقاليد والأصالة، رجلًا يملك في قصوره الأصل من كل شيء: التيجان، والسيوف، والرموز التي قامت عليها شرعية الحكم وهيبة العرش. ومع ذلك، جاءته الهدية من زعيمٍ يرى أن البريق يمكن أن يكون بديلًا للحقيقة، وأن النسخة — ما دامت تلمع بما يكفي وتحاكي الأصل — تصلح أن تُقدَّم لملكٍ يعرف جيدًا قيمة الأصل.
تبدأ الحكاية عندما تقدّمت إدارة ترامب بطلب رسمي إلى مكتبة دوايت أيزنهاور الرئاسية في ولاية كانساس، للحصول على سيف تاريخي يعود إلى الجنرال والرئيس الأمريكي الراحل أيزنهاور — بطل الحرب العالمية الثانية — لاستخدامه كهديةٍ دبلوماسية للملك تشارلز، في لفتة وُصفت بأنها تحمل رمزية الاحترام المتبادل بين الحليفين القديمين: الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.
غير أن الطلب قوبل بالرفض الصريح من مدير المكتبة، تود آرينجتون، الذي اعتبر أن القطعة الأثرية ملك للشعب الأمريكي، ولا يجوز نقلها أو إهداؤها بأي ظرفٍ من الظروف، مستندًا إلى قوانين الأرشيف الوطني التي تُعامل مقتنيات الرؤساء السابقين باعتبارها تراثًا عامًا لا يجوز التصرف فيه.
لكن، كما هي عادة ترامب، لم يتقبّل الرفض بهدوء. فبعد شدٍّ وجذبٍ بين مكتبه وإدارة الأرشيف، تم تجاوز العقبة بطريقةٍ تبدو دبلوماسية لكنها فجّرت العاصفة لاحقًا؛ إذ صُنعت نسخةٌ مطابقة للسيف الأصلي — طبق الأصل في الشكل والوزن والنقوش — ليُقدّمها ترامب بنفسه إلى الملك تشارلز في لقائهما الرسمي.
الهدية وصلت إلى القصر الملكي، والابتسامات التقطتها الكاميرات، فيما تجاهلت البروتوكولات البريطانية التلميح إلى أن السيف المُهدى لم يكن سوى تقليدٍ فني للسيف التاريخي الأصلي.
لاحقًا، عندما بدأت التسريبات تخرج إلى الصحافة الأمريكية، تبيّن أن القصة لم تنتهِ عند حدود “هديةٍ دبلوماسية”، بل تسببت بإقالة — أو استقالة — مدير مكتبة أيزنهاور نفسه.
آرينجتون، الذي رفض تسليم القطعة الأصلية، تلقّى — بحسب روايته — إنذارًا بالاستقالة أو الفصل، فاختار المغادرة. وعلى الجانب الآخر، التزم الأرشيف الوطني الصمت، مكتفيًا ببيانٍ مقتضبٍ تحدّث عن “تغييراتٍ إداريةٍ داخلية”، فيما رأى مراقبون أن ما جرى يعكس صراعًا بين الالتزام المؤسسي والنزعة الفردية في اتخاذ القرار، وهي السمة التي ميّزت فترة ترامب السياسية.
انقسم الإعلام الأمريكي في تفسير الحادثة، بين من رآها محاولةً من ترامب لاسترضاء القصر البريطاني واستعادة بريقه الدولي عبر لفتةٍ رمزية — حتى لو كانت مزيفة في مادتها — ومن اعتبرها استمرارًا لأسلوب الرجل الذي يتعامل مع الرموز والحقائق بمنطق الاستعراض: المهم أن يُذكر اسمه في العناوين، أما التفاصيل فليتكفل بها الجدل.
لكن خلف مشهد الهدية المقلّدة، يختبئ معنى نفسي وسياسي بالغ الدقة.
فالهدية، في علم النفس الاجتماعي، ليست مجرّد تبادلٍ مادي، بل رمزٌ للنية والمكانة بين المُهدي والمُهدى إليه. إن تقديم تقليدٍ بدل الأصل يحمل — في اللاوعي — رسالةً مزدوجة: رغبة في الظهور والاحتفاء، لكن دون استعدادٍ حقيقي للتضحية بشيءٍ ثمين. وكأن المانح يقول: “أقدّم لك الصورة… لا الجوهر.”
وهو ما ينسجم تمامًا مع الصورة الذهنية لترامب: رجل يعيش في عالم الرموز اللامعة والديكور الصاخب، أكثر مما يعيش في عمق المعنى أو القيمة.
أما من الناحية البروتوكولية، فالأمر لا يقلّ دلالة. فالهدايا بين القادة تخضع لحسابات دقيقة تعبّر عن احترام متبادل، وتُختار بعناية لتكون ذات رمزيةٍ ثقافية أو تاريخية. إهداء نسخةٍ مقلّدة لملكٍ يحمل إرث عائلةٍ عمرها قرون يمكن أن يُفسَّر على أنه استخفاف بالبروتوكول الملكي، أو على الأقل قلّة اكتراثٍ بتقاليد الدبلوماسية التي تولي التفاصيل قدسيةً خاصة. ومع ذلك، فإن القصر البريطاني تعمّد تجاهل الإحراج، مفضّلًا التفسير الإيجابي على التصعيد، في إشارةٍ ذكية إلى مرونة الدبلوماسية البريطانية التي تتعامل مع الخطأ بلياقة تفوق الرد المباشر.
والمفارقة الرمزية هنا أن الولايات المتحدة، باعتبارها اتحادًا من ولاياتٍ حديثة التكوين لا تملك تاريخًا حضاريًا ممتدًا كغيرها من الإمبراطوريات القديمة، تُعدّ من أكثر الدول حرصًا على الحفاظ على مقتنياتها ورموزها القليلة باعتبارها جزءًا من هويتها الوطنية. فكل وثيقةٍ أو تذكارٍ أو قطعةٍ تاريخية تُعامل هناك كجزءٍ من الذاكرة الأمريكية التي تُبنى بالقانون لا بالعراقة. لذلك، حين تُقدِّم دولة حديثة كهذه نسخة مقلّدة إلى مملكةٍ عريقة مثل بريطانيا، فإن المشهد يتجاوز الخطأ البروتوكولي ليعكس أسلوبًا في التفكير يقوم على منطق الصفقة لا الرمز، وعلى المظهر لا القيمة.
إنه منطق ترامب التجاري الذي يرى في اللمعان المؤقت بديلًا كافيًا عن الأصالة، حتى في أكثر المواقف التي تتطلب احترام التاريخ والرمز.
وعند مقارنة هذه الحادثة بهداياه السابقة، يتّضح النمط نفسه. فالرئيس الأمريكي معروف بحبّه للرموز المبالغ فيها: سيوف ذهبية، مجسّمات ضخمة، وأحيانًا هدايا شخصية مطلية بالذهب. كما تلقّى من حكّامٍ عربٍ في آخر زياراته للشرق الأوسط سيارات فارهة وسيوفًا مرصّعة ولوحات تحمل صوره، بينما كانت ردوده على ذلك بهدايا رمزية أقل بكثير من قيمة ما تلقّاه، في مشهد يبعث على التأمل بين التفاخر بما يُقدَّم له والاستخفاف بما يُقدّمه بالمقابل.
كان يُفضّل دائمًا الهدايا التي تعزّز صورته الشخصية على تلك التي تحمل قيمةً تراثية أو حضارية، وكأن “الرمز” بالنسبة له مجرد خلفيةٍ للمشهد لا أكثر.
وهنا يظهر الوجه الحقيقي للقصة: أن “السيف المزيف” ليس حادثًا عرضيًا، بل تجسيدٌ لأسلوب ترامب نفسه في السياسة والحياة — تقديم نسخةٍ لامعة من كل شيء تُثير الإعجاب لحظة، لكنها تترك وراءها سؤالًا حول الأصل والحقيقة. فالهدايا، مثل القرارات السياسية، تكشف معدن أصحابها: بعضهم يعطي ما يملك ليُعبّر عن المعنى، وآخرون يكتفون بأن يمنحوا انعكاسًا لما يريدون أن يبدوا عليه.
في النهاية، بقي السيف الحقيقي في مكانه، آمنًا خلف الزجاج في كانساس، بينما واصل ترامب تقديم نسخته الخاصة من التاريخ — نسخةٌ تلمع من الخارج، لكنها تثير دائمًا السؤال نفسه في الداخل:
هل ما نراه أصيل فعلًا… أم مجرد تقليدٍ متقنٍ آخر من صناعة ترامب؟