في بداية مايو الماضي أعلنت الهيئة الوطنية للإعلام برئاسة الكاتب الصحفي أحمد المسلماني عن تشكيل اللجنة العليا لمنتدى القاهرة للإعلام الذي عقد اجتماعه التأسيسي الأول في مدينة الإنتاج وضم عددا كبيرا من الشخصيات ذات الصلة بمجال الإعلام المرئي غالبا تمهيدا لعقد عدة دورات في مبنى ماسبيرو لمناقشة القضايا الاستراتيجية التي تهم مستقبل الإعلام المصري والعربي، وسبل التعاون بين القطاعين العام والخاص، بالإضافة إلى محاور حول الإعلام الرقمي، تأثير الذكاء الاصطناعي، وتطوير المحتوى الوطني في إطار مساعي الدولة لإعادة الاعتبار للمؤسسات الإعلامية الوطنية، وإحياء دور ماسبيرو كمركز للتأثير والحوار الإعلامي في المنطقة.
الطريف أن الهيئة لم تهنأ " بمنتداها" الذي كان مقررا أن تنطلق أعماله نهاية العام الحالي بعد صدور قرار رئيس الوزراء بتشكيل "اللجنة الرئيسية لتطوير الإعلام المصري" التي ربما ألغى إنشاؤها- عمليا- فكرة المنتدى الذي لم يبدأ عمله أصلا خاصة مع وجود أغلب أعضائه في اللجنة الجديدة التي تضم 65 عضوا سواء بصفاتهم الوظيفية أو الأكاديمية أو خبراتهم العملية والمهنية, كما تغطي اللجنة مساحة الإعلام بصورة أشمل لأنها تشمل مناقشة تطوير كافة وسائل الأعلام المرئي والمسموع والمكتوب والإلكتروني, ولذلك أقترح تطوير فكرة المنتدي ليصبح ذي صبغة إقليمية بضم شخصيات عربية ليمكن أن يعوض إلى حد ما غياب جانب الندوات التي كان اتحاد الإذاعة والتليفزيون ينظمها على هامش مهرجان القاهرة للإعلام الذي توقفت دوراته عقب ثورة 2011.
وفي الواقع أن حكاية " لجان التطوير" ليست جديدة لكنها تعود إلى تسعينيات القرن الماضي مع التوسع والتطور الذي شهدته الساحة الإعلامية عقب إنطلاق البث الفضائي وعصر الإنترنت الجماهيري- الذي دشن بدايات الصحافة الإلكترونية أيضا- وأن تركز العمل في تلك المرحلة على تطوير البنية الإساسية للإعلام المصري ومواكبة التوسع والانتشار والمنافسة مع وسائل الإعلام في المنطقة العربية التي " شدت حيلها" بدعم مالي كبير وهو الدور الذي قام به بامتياز الوزير الأسبق صفوت الشريف رغم اختلاف البعض معه في فكرة الاهتمام بالكم على حساب الكيف وإن رأى البعض أنها كانت ضرورة مرحلية كان لابد أن يعقبها مراجعة واهتمام بضبط هذا الكم من القنوات والإذاعات الذي فاق المطلوب بكثير وأدى إلى حالة من الترهل الذي أصاب الحالة الإعلامية المصرية في مواجهة الإبهار الذي طبع وميز أداء الصورة الإعلامية المنافسة.
وبالفعل شهدت السنوات الأولى من الألفية الجديدة اتجاها واضحا نحو الاهتمام بتنظيم العمل الإعلامي ومن ثم تطويره فكرا واداء وتفاعلا مع المجتمع ولتحقيق ذلك انطلقت "حكاية" اللجان التي توسعت في عهد الوزير الأسبق أنس الفقي بداية من محاولات وخطط تطوير قطاع الأخبار " المتعددة" وإن لم تسفر عن شيء ملموس, ثم لجان تطوير البنية الإعلامية والتشريعات المحلية، ومحاولات إعادة هيكلة اتحاد الإذاعة والتليفزيون, ومشروع إنشاء الجهاز القومي للإعلام، مما استلزم بالضرورة تشكيل لجان وفرق عمل متخصصة لإعداد الدراسات والمشروعات المتعلقة بذلك, إلى جانب الدراسات الخاصة بـ"تحرير الإعلام" والسياسات الإعلامية المستقبلية، لجنة صياغة "قانون البث الفضائي", و"مبادئ تنظيم البث والاستقبال الفضائي والإذاعي والتليفزيوني في المنطقة العربية" التي اعتمدها مجلس وزراء الإعلام العرب وغيرها من اللجان.
السنوات الأخيرة وفي إطار خطة التطوير الشاملة للهيئة الوطنية للإعلام، تم تشكيل عدة لجان داخلية عام 2017 ركزت على الجوانب الإدارية والبرامجية والهيكلية من أهمها لجنة التطوير المؤسسي والهيكلي برئاسة الإذاعي الراحل حمدي الكنيسي بهدف معالجة الترهل الإداري والبيروقراطية وتحديث اللوائح القديمة, لجنة الاقتراحات ورصد حقوق المشاهد برئاسة المخرج مجدي أبو عميرة التي اختصت بتلقي مقترحات العاملين لتطوير الأداء الفني والهندسي والبرامجي، مثل مقترحات تطوير الرعاية الطبية، أو مقترحات لإنتاج درامي جديد, لجنة تطوير الأداء الإذاعي التي اختصت فقط بالعمل على تطوير المحتوى الإذاعي, بالإضافة إلى لجان حكومية عليا لتطوير الإعلام ولجان الداخلية في الهيئة، ثم لجان على مستوى أعلى لمناقشة استراتيجيات وخطط تطوير الإعلام بشكل عام حتى وصلنا للإعلان الأخير عن اللجنة الرئيسية لتطوير الإعلام المصري التي ضمت 65 من اللشخصيات العامة والخبراء والمسؤولين.
وفي اعتقادي أن اللجنة الجديدة لا تختلف كثيرا عن سابقاتها وهى امتداد لنفس الطريقة في علاج الأزمة التي يواجهها الإعلام المصري عن طريق تشكيل اللجان بشكل عام بدليل أن عددا كبيرا من أعضائها هم نفس أعضاء اللجان السابقة منذ سنة " قوم وأقعد" كما يقول المثل الصعيدي, ومنهم من لم يقدم شيئا يذكر طوال مشاركاته "المزمنة" في لجان الإعلام اللانهائية ! رغم وجود الكثير منهم في أماكن صنع القرار, وإن كان ذلك لايعني أن ننكر أهمية الخبرات التي تراكمت لدي الكثير منهم نتيجة المشاركة السابقة في لجان تطوير أو حوارات نقاشية أكسبتهم قدرة كبيرة على فهم المشكلات والتحديات وهو مبرر مقبول لاختيارهم للانضمام للجنة الحالية, لكن في نفس الوقت فإن اتساع حجم اللجنة ووصول عدد أعضائها إلى 65 عضوا يحول من وجهة نظر الكثيرين- من الخبراء أنفسهم- دون جودة الأداء وتركيز الأفكار والحلول حتى وإن كان القصد من هذا الحجم هو أنه لأول مرة تشمل اللجنة كل عناصر الإعلام المرئي والمسموع والمقروء والإلكتروني, لكن ذلك يدفع للتساؤل أيضا عن مصير الجلسات التي عقدها المجلس الأعلى للصحافة مؤخرا وعلى مدى أيام عديدة وبإشراف عدد من أعضاء اللجنة الجديدة أنفسهم لطرح الأفكار حول تطوير العمل الصحفي في مصر.
وبعيدا عن "تلال" الأفكار وعشرات المقالات ووجهات النظر المتطابقة أو المتباينة, والدراسات التي تناولت "حكاية" تطوير الإعلام المصري منذ سنوات طويلة دون تنفيذ على طريقة المثل العربي "نسمع جعجعة ولانرى طحينا" فإن وجهة نظري المتواضعة تتلخص في الحاجة إلى "إرادة التنفيذ" للأفكار والمشروعات المطروحة التي يمكن بكل سهولة أن يسأل عنها أغلب الخبراء "أصحاب الأقدمية" في لجان ماسبيرو وفي مقدمتهم د. حسين أمين أستاذ الإعلام الشهير ورئيس مركز كمال أدهم للصحافة وعضو اللجنة الجديدة واللجان القديمة أيضا, وهو أكثر من قام بتقديم الرؤى والأفكار والدراسات والتصورات للتطوير ودعم المنتج الإعلامي الوطني- منها ما كان بتكليفات رسمية-, ودون الحاجة لسنوات أخرى تضيع في جلسات ومناقشات لن تفضي لأكثر مما أفضت إليه الدراسات واللجان السابقة من نفس الأعضاء والوجوه على أن تتركز الجهود في التنفيذ والتطبيق العملي.
بيت القصيد في إصلاح الحال هو التخلي عن تجاهل ماسبيرو ودعمه بكل الطرق وإعادة الحياة إلى شاشاته وشبكاته الإذاعية بمختلف أنواع الدعم وعلى سبيل المثال لماذا لا يعود بث مباريات الدوري والكاس إلى قناة النيل للرياضة حتى إلى جانب قناة أون سبورت, ولماذا لايتم استغلال الإمكانيات اللوجستية الضخمة التي تملكها الهيئة الوطنية للإعلام من استديوهات ووحدات فنية أخرى في مدينة الإنتاج وصوت القاهرة إلى جانب استديوهات ماسبيرو العريقة بطريقة أكثر فائدة ولو من خلال إسناد الأمر إلى شركات تسويق متخصصة, لكن قبل ذلك يجب الاهتمام بتحسين جودة شاشات قنوات التليفزيون التي أصبح أغلبها في أدنى درجات الجودة أو "الريزيوليشن" مقارنة بأقل القنوات وأرخصها, الغريب هو الإصرار على بث القنوات بهذه الرداءة رغم أنها تبث من خلال النايل سات الذي يحمل للمشاهد كل القنوات ذات المستوى المبهر في الجودة والوضوح ونظرة واحدة إلى قناة نايل سينما مثلا تغنى عن أي كلام.
ماسبيرو الذي كان يضم عشرات الآلاف من العاملين لم يعد عصيا على الإصلاح مع تراجع حجة العمالة الزائدة بعد تفريغ المبنى من آلاف العاملين به سواء بالنقل أو بالوصول لسن التقاعد وهو ما كان أقرب لفكرة التليفزيوني عصام الأمير إبان رئاسته لاتحاد الإذاعة والتليفزيون لتقليل العمالة في المبني لأقل عدد ممكن حيث تناقصت الأعداد بصورة كبيرة وهو تناقص يتم بصورة متواصلة مع وقف التعيينات الجديدة في المبنى.
ماسبيرو يحتاج للإرادة والرغبة القوية في التغيير أكثر من احتياجه للجان التطوير التي لا تنتهي.