في عام 1998 قدم الفنان أحمد حلمي واحدا من أشهر برامج الأطفال على شاشات التليفزيون وهو برنامج "لعب عيال" الذي لفت نظري لسبب طريف وهو أنني كنت أقوم بنفس الحوارات عمليا مع الأطفال في القرية في فترة دراستي الجامعية بينما قدم البرنامج في النوادي ومع أطفال الطبقة الراقية, المهم أنني أجريت حينها مع حلمي حوارا تليفونيا قصيرا حول البرنامج حكى لي فيه كيف استطاع بصعوبة فيما يشبه المغامرة إقناع التليفزيونية سناء منصور رئيسة قناة "نايل تي في" في ذلك الوقت بفكرة البرنامج- حيث كان يعمل معدا في القناة حينذاك-, وهو موقف ساهم في توجهي للتركيز في تحرير صفحة " شاشة الطفل" في مجلة "شاشتي" منذ صدورها عام 1998 أيضا حتى كلفتني الناقدة الفنية الكبيرة خيرية البشلاوي رئيس التحرير بتقديم الصفحة بشكل أسبوعي وظللت أحررها حتى تم إغلاق المجلة عام 2013, ومن هنا جاء اهتمامي بإعلام وفنون الطفل بشكل عام وقنوات الأطفال بشكل خاص على مدى أكثر من عشرين عاما من عملي الصحفي.
والحقيقة أنني رصدت مفارقة غريبة يشهدها الواقع الإعلامي المصري الذي يفاخر في كل وقت بالريادة والسبق والتفوق على محيطه العربي, وهى حقيقة لاينكرها التاريخ وإن كانت تتعارض كثيرا مع الواقع الذي يقول أن أغلب دول العالم العربي تملك قنوات متخصصة موجهة للطفل ترعاها غالبا الجهات الرسمية باستثناء مصر! ليظل عقل الطفل المصري نهبا للعديد من القنوات الفضائية من الشرق والغرب والتي تتسلط على هويته ووجدانه دون أدنى التفات من الجهات المسئولة عن الإعلام العام أو الخاص لسد هذا النقص المعيب في المشهد الإعلامي المصري.
الواقع يقول أن التجربة العربية في إعلام الطفل بدأت مبكرا مع انطلاق البث الفضائي العربي حيث أنشأت شبكة ال art أول قناة عربية خاصة بالأطفال عام 1993 وإن غلب عليها في البداية أفلام رسوم متحركة وبرامج أجنبية مترجمة حتى بدأت في إنتاجها الخاص وهى قناة مشفرة كانت تحول الى مفتوحة ومجانية في الأجازة الصيفية ثم أغلقت عام 2008 لأسباب مالية, وفي عام 2004 أطلقت مجموعة mbc قناة mbc3 وهى من أشهر قنوات الأطفال الحالية وأكثرها جدلا بسبب المحتوى الأجنبي المكثف الذي تقدمه, ويجد تحفظا كبيرا لدى خبراء الطفل على مستوى العالم العربي بسبب الرسائل التى لا تتناسب مع هويتنا العربية والإسلامية في كثير من المواد التي تقدمها القناة.
إلى جانب ذلك يزدحم الفضاء العربي بالعديد من القنوات الفضائية الموجهة للأطفال من جنسيات وثقافات مختلفة ومنها قنوات شيعية مثل طه وهدهد اليمنيتان وهادي الباكستانية وهى الأخطر على عقول الاطفال, وهناك أيضا طيور العراق وأجيال السعودية وبراعم القطرية وسنابل وأشبال السودانيتان وطيور الجنة وكراميش الأردنيتان وجرجرة الجزائرية وسبيستون البحرانية وماجد ورسائل الإماراتيتان وليبيا كيدز وغيرها.
على أن التجرية المصرية في هذا المجال ليست أقل أهمية إذ بدأت مع إطلاق النايل سات وانشاء قنوات النيل المتخصصة عام 1998 حيث لم تغفل الرؤية الإعلامية المصرية عن تخصيص منصة إعلامية للصغار فكانت قناة النيل للأسرة والطفل التي تولت رئاستها الأولى التليفزيونية نجوى إبراهيم لكن التجربة لم يكتب لها الاستمرار كما كان مخططا وتحولت في النهاية إلى قناة "العائلة " دون أى تركيز على الطفل في برامجها، أما الفضائيات المصرية الخاصة الموجهة للأطفال فمنها ميكي وكوكي وكيدزانا وغيرها وإن توقف بعضها لأسباب مالية رغم أنها في الغالب تعتمد بشكل كبير على الإنتاج الأجنبي من الكارتون والبرامج ومنها ماهو امتداد لقنوات أجنبية بالفعل, باستثناء تجربة قناة "سكر" وهى تجربة انتاجية برأسمال مصري خالص وفريق غنائي مصري أيضا من مطربين وأطفال ومؤلفين وملحنين, وقد حققت نجاحا كبيرا عام 2013 لكنها أغلقت حسب المطرب إبراهيم فرج أحد أفراد فريقها الغنائي لأسباب مالية رغم أنها كانت تنافس قنوات الأطفال الغنائيةالعربية مثل كراميش وطيور الجنة بمحتوى مصري ومازالت كوادرها موجودة وتقدم بعض انتاجها على اليوتيوب.
قناة الأسرة والطفل حسب ما كان مخططا لها قناة موجهة للطفل بصورة متخصصة لكن المشروع لم يستمر كما كان يرغب مؤسسوه, وبدأت تنحرف عن مسارها المرسوم بالتدريج لتصبح أكثر اهتماما بالأسرة بشكل عام وتقل فيها بالتدريج المادة المقدمة للطفل بسبب إسناد مسئوليتها لغير متخصصين في فنون الطفل ولأسباب أخرى تصفها الفنانة شويكار خليفة أحد مؤسسي القناة والرئيس الأسبق لها بأسباب إدارية وفنية ومالية أعقبت الفترة التي تولت فيها رئاستها حيث كانت برامج الاطفال هي مهمتها الأساسية, وباعتبارها من رواد فن الرسوم المتحركة في العالم العربي لم تستعن خليفة بكارتون أو برامج أ طفال أجنبية أو حتى من انتاج التليفزيون للعرض على شاشة القناة إلا فيما ندر, واعتمدت علي انتاج خاص بها وبكم كبير حصلت من خلاله على جوائز دولية في أكثر من مهرجان.
والحقيقة أن هناك دهشة بالغة يشعر بها المتخصصون في فنون وإعلام الطفل من تراجع الإهتمام في مصر بشكل عام واختفاء برامجه في القناة التي أنشئت خصيصا لتكون قناة الدولة الرسمية الموجهة لأطفالنا وهى قناة الأسرة والطفل وأذكر أن الصديقة سهام ناصر المتخصصة في فنون وإعلام الطفل التي كانت مسئولة مهمة في القنوات المتخصصة طالبت أكثر من مرة باستلهام تجارب الكثير من الدول الأوربية المتقدمة مثل قناة "كيكا" الألمانية الرسمية الموجهة للطفل وقناتين للأطفال في أعرق المؤسسات الإعلامية في العالم وهى البي بي سي, وكذلك هولندا وغيرها وهى قنوات عامة ولها ميزانيات ضخمة وتحظى باهتمام كبير على كل المستويات ناهيك عن العديد من التجارب الناجحة في أغلب الدول العربية.
وفي ظل عالم الإعلانات الإستهلاكية ومنتجات الأطفال اللامتناهية فإن أي قناة للطفل لن تكون عبئا ماليا على أى مؤسسة تتصدي لإنشائها وسد هذا النقص الخطير في ثقافة أطفالنا حيث يمكن مع التسويق الإعلاني الجيد توفير التمويل اللازم والكافي لتقديم عمل إعلامي يتمتع بالإبهار والجاذبية, كما أن وجود القناة في حد ذاته سينشط قطاع انتاج الرسوم المتحركة في مصر الذي شهد تراجعا كبيرا في السنوات الأخيرة رغم تاريخنا العريق في هذا الفن, حيث يمكن أن تسهم القناة في امتصاص طاقات كم كبير من فناني الكارتون المصريين خصوصا من الشباب الذين يتخرج منهم كل عام عشرات الفنانين الذين يتجه أغلبهم إما للسفر للخارج او للعمل في مهن فنية أخرى.
بالتأكيد هناك أهمية بالغة لوجود قناة متخصصصة تقدم للطفل مادة نابعة من الثقافة المصرية وخطاب إعلامي فنى مناسب للطفل في بناء شخصيته بشكل كبير, يؤكد على عدم وجود إنفصال بين الثقافة التي يشاهدها وثقافته الشخصية التي يكتسبها من بيئته المحيطة, فالثقافة الأجنبية التي يكتسبها الاطفال من المحتوى الاجنبي –خصوصا الكارتون- الذي يتعرضون له من قنوات غير مصرية تساهم بشكل مباشر في الاضطرابات التي يعاني منها الأطفال فيما بعد- حسب علماء نفس-, لأنه في حالة عدم وجود متنفس إعلامي وفني - له ضوابط - يجذب الطفل لمتابعته تصبح الفرصة مواتية لتوحده مع العالم الإفتراضي الموجود في الموبايل, حيث يصنع له عالما خاصا به من أفلام اليوتيوب بعيدا عن أي رقابة مثل اعتقاده في وجود القوة الخارقة "السوبر هيرو" والتي تتعارض حتى مع معتقداتنا الدينية, ما من شأنه في مرحلة عمرية مبكرة لم يصل الطفل فيها بعد لمرحلة التمييز والتفكير المنظم أن يقضي على واحدة من أهم قدرات الطفل الأساسية, ويؤثر علي شخصيته سلبيا وبشكل مباشر فيصبح عدوانيا ومتواكلا لايحب الدراسة, بالإضافة إلى العديد من الأمراض النفسية الأخرى.
عدم وجود قناة أطفال مصرية خطر كبير لأنه يفقد المجتمع أجيالا كاملة لن تجد أمامها سوى ان تغرق في متاهات اليوتيوب, أو تتابع أعمالا فنية اودراما أجنبية غريبة, أو في أحسن الاحوال دراما الكبار التي لاتناسب تكوينهم العقلي او النفسي, ولذلك لابد أن يدرك أصحاب القرار أهمية وجود أو بالأحرى عودة هذه القناة حتى لا نترك إطفالنا نهبا لفضاء واسع ومحتوى أجنبي من الكارتون والبرامج التي لاتمت لثقافتنا ولا قيمنا الدينية بصلة, وتعمل أحيانا على تشويه تاريخ الوطن في عقول الأجيال الجديدة في حين أن لنا تاريخا عريقا في إنتاج الكارتون يمتد لمائة عام ولدينا كما هائلا من الإنتاج الجيد وكوادرا متميزة وخبرات كبيرة يمكنها القيام بالمهمة على أكمل وجه, ومن الضروري التخلي عن فكرة قناة العائلة واستعادة قناة الأسرة والطفل بكوادرها وإمكانياتها الموجودة بالفعل وتخصيصها كما كانت للطفل فقط, وهو قرار يمكن اتخاذه وتنفيذه بسهولة ولاعوائق إدارية في حال وجود إرادة من الهيئة الوطنية للإعلام للقيام بدورها في حماية النشء والحفاظ على هوية الأجيال القادمة.