في عمق التجربة الإنسانية، تظل الحقيقة كامنة كجوهر مخبوء لا ينكشف بسهولة؛ لحظة تتجاوز الزمان والمكان، فيغدو العقل بوابة، والروح مرآة. هناك يبدأ الوعي رحلته نحو صفاء لا يعرف الزخرفة، بحثًا عن معنى يتخطى حدود الواقع.
وأحيانًا لا نحتاج إلى العالم من حولنا بقدر ما نحتاج إلى العالم بداخلنا؛ هناك، في صمت الروح، تتجلى الحقيقة بلا رتوش، ويولد الجمال كنداء خفي يقودنا نحو معنى أعمق للحياة.
وحين يرهقنا ضجيج الحياة، ويمتلئ القلب بارتباك التفاصيل، تلوح للحظة نادرة نافذة داخلية تكشف عن جوهر صافٍ لا يعرف الزخرفة ولا الأقنعة. في تلك اللحظة، ينكشف للروح ما عجز عنه العقل، وتدرك أن الحقيقة ليست فكرة تُدرك بالمنطق وحده، بل تجربة تُعاش بالوجدان. إنها رحلة صامتة إلى أعماق النفس، حيث يتجلّى الجمال كمرآة للحقيقة، وتتعانق الرؤيا مع الإحساس، فيغدو الإنسان كائنًا جديدًا يولد من رحم التأمل، باحثًا عن المعنى في كل ما حوله.
والحياة فى جوهرها، ودون تشذيب، وزخرف من قول، هى الحقيقة المفقودة، التى تظهر شيئا فشيئا، للعقل، دون ألوان، إلا لون الحقيقة المجردة فتتوهج الروح فى عالم صاف، بلا زخرفة أو رتوش، أو إنتقاء. تفسح المجال لتُظهر، ما نسميه بالتجارب، تفاصيل خافية عن العقل، فتعبّر حينئذ، الحياة ذاتها، عن نفسها، بكل مافيها، بصورة واضحة، غثا وسمينا، فلا يشطح الفكر، ولا يندفع، إلا سعيا وراء حقيقة، بلا رتوش. . هى الحقيقة المفقودة، دوما. . غائبة فى معين عميق، ودرب طويل. ومنذ ذلك الحين، الذى يقف الإنسان على هذا، وتظهر له تلك الحقيقة، يشعر فعلا أنه على قيد الحياة، متلألئا كالجوهر، متفجرا وهج فكره، متدفقا ذهنه. يعبر العواصف والدوامات. لا يجمح به جامح، إلى مخمل حريرى، فيستكين، ولا إلى لا معقول شائك، فيتوه، فى خضمّ كينونته. وبكل معنى الكلمة، يبدأ الإنسان، وسط تأثير فراغ الحياة من هذا الجوهر، ليعى ويدرك لب الحقيقة. الأمر أشبه برؤيا كشفية له، ليس لها علاقة أو صلة، بمكان أو زمان، ولا حدود، إلا أن عين العقل، وبصيرة تمسك بها، تأويلا وتفسيرا. دون شك، إن الأفق العقلى الذى يحدّ الأمر، لا يكون فى متناول كل إنسان، فهى قدرات خاصة، الأصل فيها هبة إلهية، وعطاء ربانى. وغريب الأمر، إن ثورة العقل هذه على نفسه، هى الأخرى أشبه بمعجزة مؤقتة بقدرها، وثيقة الصلة بتلك الرؤية الغيبية، التى تجعل الإنسان، ربما يسخر من كل شئ مرّ عليه من قبل، لإنه لم يعٍ الحكمة، آنذاك، وهو فى حقيقته كان أمرا، يفسح له طريقا، إلى الحقيقة. ولكل شئ حقيقة، وشيئا فشيئا، يمدّ العقل به ومعه، بخطوة إلى الأمام. يجاهد كل شئ، دون أن يدرك، أن هذا فعلا ما يحدث فى زمان محدد، أومكان معين. ولا يحدّه العقل، فى حينه. ولولا هذا، ما إجتاز العقل آفاقا، ولضاعت أفكار، إلى آخر الأبد.
قليل من البشر، من يحيا هذه التجارب العميقة. تختارهم لها الأقدار، ويختارهم القدر، لها. مثل الوقوع على قطعة أثرية مطلسمة، لا تكتشف سرها أبدا، إلا إذا انفصلت عن الواقع لتغوص فى تاريخ غير مرئى، وتتمعن أبعادا غير منظورة، وكل شئ لازال، فى مكانه، أمام ناظريك. حينئذ، فقط، يُضاف سطر جديد لتاريخ البشرية، عبر الروح، يُعلى من قيمته المسطورة، فى بطن الزمن، كيفية إكتشافه، وإستعادة ما فقد منه، جوهرا نفيسا، فى مسيرة الإنسان، خلال حياته. وحتى لو لعبت الصدفة القدرية، دورها فى الوقوف على فكرة أو إبداع، أو إكتشاف، فلو لم يكن هناك مثل هذه النظرة الكاشفة، بعين العقل وراء الأفق، ما تقدمت البشرية، ولما قرأ إنسان شيئا، يحمل من إبداع، من قبل. والواقع المتراكم من تجارب الحياة، ليس وحده كافيا، دون هذه النظرة الثاقبة، تعزوها روح خيال خلاق مبدع. لذا، وقطعا لهذا السبب، فإن العلماء والمفكرين والأدباء الحقيقيين، ندرة وأشد من الندرة، نفسها. فالألوان وحدها فى يد الفنان أو الرسام، ليست كافية أبدا، دون روح محلقة بعينى العقل، والخيال. وهنا فقط، لا ينفصل كلاهما، لا العقل، ولا الروح، عن بعضهما. وفلسفة الجمال لها دور كبير، فى هذا التذوق. وفى الأدب، هذا الأمر قلما نصادفه، وهو فقط، الذى يؤثر، فى النفس، كما تؤثر تماما الحقيقة التاريخية، التى لاشك فيها أبدا، مغادرة بنا، إلى جهة أوسع من العالم نفسه، سالخين جلد الزمن، فيحيا الإنسان الجمال، لا أن يتذوقه فقط.. يترك نقطة زمنية، إلى بقاع أخرى رحبة، فيصل إلى جوهر ما يحمله الزمن، نفسه، من حقيقة وحيدة، بعين العقل، ولكنه يعيشها جمالا بعد جمال. تنظر بها الروح، وتقرأها غاصّة فى كل فريد وفذّ، تحررا من الجسد. هى خطوات، بعد خطوات. صفاء من بعد نشاز. بشكل أفضل كثيرا جدا، مما نتخيل أى شئ يحوى حقيقة، فى غير ذلك. والأدب، وإن حمل أسئلة من قبيل، كيف نكتب، ولمن نكتب، وماذا نكتب، وكينونة الكتابة ذاتها، إلا أنه يحمل من ذلك كثيرا. وربما هذا هو السبب الأساسي الذى جعل "جان بول سارتر" يؤلف كتابا كاملا عنوانه (ما الأدب). هى دائرة عملاقة، من الجمال والفكر والإحساس، وكلما تقدمت خطوة وتوغلت داخلها، لم ترغب فى الخروج منها، بعيدا عن كل شئ، بحثا وراء حقيقة لكل شئ، بعينى العقل والخيال..
وابحارا في عالم الفن والفلسفة، والكون والفضاء والنظر دائماً إلى السماء.. واعماق النفس في أدب دوستويفسكي، ورسائل كافكا وكامو ورسائل لا تصل،.. وروح جميلة غامرة بالحياة.. قليل من البشر حقا في هذا العالم، من يحمل بوصلة هذا الإبحار.. بل هم خليط من كل الأزمان والعصور، يحيون جدليات الإغريق.. ويمنحون بالصمت للحياة معنى، تلك المعاني والأفكار العصية على التعريف المتحررة من قيود الزمن والمكان.. ذلك العالم العظيم من الجمال المدهش الذي ينتفض ويولد من رحم التأمل والتفكر في جماليات الحياة بكل انواعها الذاخرة.. الأمر الذي يفتح مجالات للشعور أو البحث حتى عن النسيان المستحيل لذكريات مضت.. وليس كما قال ألبير كامو ( ليس هناك ألم عظيم ولا ندم ولا ذكريات.. كل شيء ينسى حتى الحب العظيم..) فكل طرق النسيان ومنها التأمل في الجماليات التي لا تؤدي حتما إلى النسيان بل ربما انتهت بالتذكر..
ولكل روح طريقها للسعادة أو التعاسة وتعمق الفنان أو الاديب في اغوار النفس البشرية ضرورة حتمية لوصف ما لايمكن وصفه على الحافة بين الممكن والمحال كرحلة في جنبات تناقضات النفس البشرية في قوتها وضعفها وآلامها ومعاناتها وإخفاقاتها.
وعلم الجمال يُعنى بالنظريات الفلسفية التي تفسّر تطوّر وتبدّل النظرة إلى علم الجمال، فالإنسان يحكم بالجمال على ما يحبه ويعجبه سواء في الحياة أو في الطبيعة، ولكن هذه الأحكام تتحول بفعل الإبداع إلى تعبير ينطوي على إدراك خاص بفعل شعور وانفعال وخيال، "تتحول إلى حدس يُنتج لغةً من الكلمات أو الأصوات أو الصور الجميلة." وبمعنى آخر يبحث علم الجمال أو فلسفة الفن في التعبير الجميل عما يدركه الإنسان،
وهذا العلم يتصل بالعديد من العلوم الإنسانية كالنقد الأدبي والفني، وأيضاً بتاريخ الفنون وعلم النفس والاجتماع، كما يتصل بالفلسفة التي قدّمت النظريات والرؤى الأساسية للجمال، فلا تكاد تخلو فلسفة أي من الفلاسفة الكبار في التاريخ البشري من تأمّل في هذا الموضوع المهمّ لحياة البشر.
ومن هنا إذا لم يرَ الكاتب الجمال ويتوغل فى تفاصيله فليس بكاتب أو أديب ولن يكون، بدون هذه القيم الجمالية حينما لا يتعايش فيها، أو تحيا بوجدانه.. واعرض من حين لآخر مجموعات من اللوحات أو مجموعة من الصور كجماليات من فترات زمنية وأماكن مختلفة، من أرشيفى.. فيها ما تراه العين وما لا تراه، إلا بفكر وغوص فى الماضى.. ولا يمكن أن ينطق القلم إلا إذا كان وراءه إحساس بالفكرة ومعناها.. والجمال منبع كل شعور.. وهو ليس فقط فى الطبيعة، إنما فى كل شئ فى الحياة، والوجود من حولك.. هذا مما لا يعطيه لك إلا لمس الجمال، الذى يكون فطرة، ثم متعة وحياة. وتأمل مع سلوك النفس والروح إليه كل طريق، بكل ما فى الكلمة من معنى.. حاول أن تصف مبنى، مصنعا، محطة،.. شارعا أو ميدانا،.. إمرأة أو رجلا.. أو تجمعا بشريا، وغير ذلك مما تراه فى هذه الصور. غص فى عمق الماضى فيما وراء الصورة. إختر تفصيلا ما ثم حاول أن تنظر وراءه. هكذا، أنت لن تصبغ الأدب بالحياة، أو تنقل الحياة إلى الأدب، إلا إذا أحسست بالحياة والجمال،.. بهما معا.. وهكذا الألم، والحب، وغيرها من مشاعر إنسانية عميقة، لن تقدر أن تعبر عنها أبدا، ولن تشعر بها حينما تقرأ، إلا إذا رأيت عمق النفس، وحنايا الروح...
ومن غريب الإبحار في عالم الجمال خضت تجربة أسميتيها لنفسي ( ذاكرة البحر) حاولت أن أستعيض أو أستبدل بناء قصة ما بلوحات فنية من صور مختلفة ولفنانين مختلفين وكان موضوعها البحر كرواية بلغة جديدة تشكلت من أكثر من مائتى لوحة زيتية لعشرات الفنانين العالميين... عمل إبداعى للغة جديدة من نوعها أعتقد أننى صاحبها.. يمكننى أن أستعيض عن أى لوحة بعبارة أو فقرة، كروح من السماء تأتينى،..لا أعرف حقا، كل هذه المعانى التى تأتينى حينما يأسرنى عمل فنى.. فى كل لحظة، أتعلم كثيرا من الفن بكل صوره وأشكاله.. يعطيك هدوء النفس وعواصف الوجدان والشعور الدائم بالمعانى الحية... يجعل الأفكار أمامك ويعطيك الصوت والحركة وكل شئ.. أكتشفت كثيرا أننى ما زلت لم أكتب شيئا، ليس له قيمة، أو تأثير.. لو لم أشعر بهذا الإحساس.. ولا يزال الكثير لأمضى نحوه، لتمسك به قبضة العقل والروح، فكرا وأدبا وفنا.. وما أجمل القصّ، وما أقوى الإيهام، والتعبير، لهذه اللغة، التى تتباين معانيها وتتوارد، بشكل مذهل.. تسمعك ما فى العالم من حياة، وتندهش لكثرة مدلالوتها، وإرهاصاتها.. إن العلاقة بين الألوان والفراغ أو فضاء اللوحة والعناصر التى تتوزع عليها.. كل شئ يجعلك تتسائل ماذا قصد الفنان هنا، فى هذا اللون، أو هذا التكوين.. تستنطق الصمت فتهدر المعانى، فى الروح.. تود لتعرف، فيما كان يفكر، وبم كان يشعر، حينما أبدع هذا.. الحياة والموت والكون وكل تفاصيل الحياة.، وكل معنى يمكن أن تجده، حينما ترى وتقرأ الصورة، بهذا الشكل، فتذهب بك إلى عالم آخر .. بعض هذه اللوحات يرجع عمره لأكثر من مائتى سنة، والبعض الآخر من القرن العشرين.. فترات تغطى تاريخ الفن.. ويتباين نوع المدرسة الفنية الذى ينتمى إليه الفنان بعمله.. من الكلاسيكية.. التعبيرية.. الرمزية.. إلى الإنطباعية.. وهكذا، لو تضافرت هذه الخلفيات والإنطباعات عن الفنان والعمل وموضوع اللوحة.. مع الربط والتنامى فى الخط الدرامى، للتشكيل ككل.. أو الموضوع الذى عبّرت عنه اللوحات.. تجد هذه اللغة الجديدة... تتناول المكان والزمان والشخوص، لرواية يمكن قراءتها وتذوقها.. لكن للأسف ليس كل فرد قادر، على هذه القراءة الجديدة، وقد يفشل فى ذلك،... والعمل يلقى تبعية المضمون والرؤى المتنوعة، على ثقافة القارئ والمتذوق للفن والجمال.. وربما هذا أفضل كثيرا، لإنعاش الفكر والتأمل.. فللفن بكل أنواعه، أهمية كبيرة فى تكوين وتشكيل وجدان الأديب، كالفنون التشكيلية، والموسيقى، وغيرها من فنون.. بل هو كذلك حتما، مما له بالغ الأثر والقوة فى الإلهام والخيال، ووهب معين لا ينضب من الأفكار، للكاتب والأديب.. وبلا ريب هى من جماليات الفن وعلاقتها بكينونة الأدب، وفحواه.
وحين يكتشف الإنسان هذا الصفاء العميق، لا يعود ينظر إلى الحياة كما كانت من قبل؛ فكل تجربة تصبح مرآة، وكل لحظة تصير بوابة إلى جوهر أكبر. هناك فقط، يدرك أن الجمال ليس زينة عابرة، بل طريق داخلي يقوده إلى ذاته، إلى حقيقة لا تموت، وإلى حياة تُعاش بمعناها الكامل.
وفي آخر الطريق، لا يبقى سوى ذلك الوميض العابر في الروح؛ إشراقة لا يحدّها زمان ولا مكان، تهمس للإنسان أن الحقيقة ليست ما يراه بعينيه، بل ما يسكن في أعماقه. هناك، بين الصمت والدهشة، يبدأ العالم من جديد.
وعند حدود اللحظة الأخيرة، يتداخل الجمال مع الروح كما يتداخل العطر مع النسيم؛ لا يُرى، لكنه يملأ القلب حضورًا لا يُمحى. هناك فقط، يفهم الإنسان أن الحياة ليست بحثًا عن معنى بعيد، بل هي حب متجدد للحقيقة الكامنة في كل تفصيلة، وفي كل ومضة صفاء تعانق القلب.
وعندما يلمس الإنسان هذا الجوهر، يدرك أن ما يراه ليس سوى أطياف عابرة، وأن الحقيقة التي يفتش عنها لا تُمسك بالكلمات بل تُعاش بالتجربة. عندها فقط، يغدو الوجود دائرة أوسع من الإدراك، ويصير الجمال طريقًا إلى كشفٍ لا ينتهي.