في خطوة إنسانية وسياسية بارزة، نجحت مصر صباح أول أمس الخميس في إدخال قافلة مساعدات إنسانية إلى قطاع غزة، مكوّنة من 166 شاحنة، تلتها 180 شاحنة أخرى تسلمها الأهالي، رغم استمرار إغلاق المعابر من الجانب الذي تسيطر عليه إسرائيل.
وقد جاء هذا الإنجاز بعد تكثيف الجهود الدبلوماسية المصرية وممارسة ضغوط مباشرة على سلطات الاحتلال، بالتوازي مع حشد دعم المجتمع الدولي لصالح القضية الفلسطينية. ويكفي للدلالة على أثر هذه الجهود، أن تعلن فرنسا – في اليوم ذاته – اعترافها الرسمي بدولة فلسطين.
هذا التحرك المصري ليس جديدًا ولا مفاجئًا، إذ لطالما كانت القاهرة في قلب كل ما يتعلّق بالقضية الفلسطينية، تقدم الدعم بأشكاله كافة، سواء من خلال المساعدات المباشرة أو الوساطات السياسية أو الأدوار الخفية التي تمارسها وفق مقتضيات المرحلة، حفاظًا على التوازنات الدقيقة في الإقليم، وتجنبًا لتدهور الأوضاع نحو مواجهة شاملة لا تخدم أحدًا.
لقد اختارت مصر، بوعيٍ استراتيجي، أن تؤخر ما هو محتوم – إن أمكن – وأن تسعى إلى تجنيب المنطقة أهوال الحروب، وهي تدرك تمامًا أن اندلاع صراع إقليمي مفتوح سيحوّل كثيرًا من البلدان إلى نسخ مكررة من غزة.
ومع ذلك، فإن مصر لا تتخاذل، ولا تتهرّب من مسؤوليتها التاريخية، بل تواصل دورها كداعم رئيسي للأشقاء، مدفوعة بوعي سياسي، وعمق حضاري، وواجب ديني وإنساني.
*مصر... قدر لا يتغيّر*
ليست هذه المواقف مرتبطة بحاكم دون غيره أو بنظام دون آخر، بل هي انعكاس لهوية مصر ورسالتها في محيطها العربي والإسلامي. فالدور المصري ليس تفضّلًا ولا مِنّة، بل هو التزام نابع من مكانة اختصها الله بها، وذكرها في كتابه العزيز.
قال تعالى:
*{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}* [يوسف: 99]
وقال سبحانه:
*"وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا"* [يونس: 87]
وقد نالت مصر شرفًا لا تضاهيه مكانة أخرى، إذ تجلّى الله سبحانه وتعالى على أرضها، وتحدث إلى نبيّه موسى عليه السلام عند جبل الطور في سيناء. إنها أرض الرسالات والأنبياء، وكنانة الله في أرضه، وحصن العرب والمسلمين في الأزمات.
*دور لا يُشترى ولا يُباع*
لن تتوقّف مصر عن أداء دورها، سواء كان ظاهرًا للجميع أو خلف الستار. هي لا تبحث عن مقابل، ولا تنتظر شكرًا، فدورها هذا ليس خاضعًا لحسابات المصالح الضيقة، بل هو قدرها، ومهمتها التي كتبها الله لها.
ومع استمرار العدوان على غزة وتدهور الأوضاع الإنسانية، تبقى مصر – رسميًا وشعبيًا – حائط الصد الأول، وجسر العون الأخير. ومثلما كانت عبر التاريخ... ستبقى، صوتًا للعقل، ويدًا للسلام، وسندًا لا يُنكَر في وجه الظلم والغطرسة.
مسؤولية تاريخية لا تسقط
مصر لا تبحث عن شكر أو مقابل، بل تؤدي دورها كدولة محورية، وقدرها أن تبقى – كما كانت – قلب الأمة النابض، ودرعها المنيع، وملاذها في الشدائد.
وفي زمن عزّت فيه المواقف، تظل مصر واقفة على الجبهة، لا تساوم على مبادئها، ولا تخشى في الحق لومة لائم.
فمصر... إذا حضرت، اطمأن العرب، وإذا غابت، فُقد الاتزان.