محللة سياسية إماراتية
في الركن الغربي للولايات المتحدة، حيث تنكسر الشمس على سواحل المحيط الهادئ وتتقاطع خطوط السيليكون مع أنفاس هوليوود، تقف كاليفورنيا ـ لا كولاية فحسب، بل كفكرة نقيضة لكل ما يمثله دونالد ترامب.
هنا، لا يدور الصراع على قانون أو مرسوم، بل على روح أميركا نفسها: هل هي بلاد التنوع والانفتاح أم مشروع أمة تُعاد صياغتها من رحم الخوف؟
منذ ظهوره السياسي، لم تكن العلاقة بين ترامب الجمهوري وكاليفورنيا الديمقراطية سوى عنوان دائم للتجاذب الحاد. فبينما يسعى الرئيس إلى إعادة تشكيل الدولة الفيدرالية وفق تصور عمودي يعلو فيه المركز وتخفت فيه أصوات الولايات، ظلت كاليفورنيا تُلوّح بوثيقة استقلالها القانوني، مستندة إلى دستور يضمن لها سلطات تنفيذية وتشريعية واسعة. لم تكن الخصومة تكتيكاً انتخابياً، بل كانت بنيةً سياسية متجذرة، يتغذى كل طرف فيها من نفي الآخر.
وفي لحظة سياسية مشحونة، تتفجّر أزمة دستورية تُعيد إلى الواجهة السؤال حول الفيدرالية وحدود السلطة. لم يعد الأمر مقتصرًا على تنافس بين الحزبين، ولا خلافًا حول السياسات، بل مشهد تصادمي بين المركز والطرف، بين الرئاسة والولاية.
كاليفورنيا، التي باتت تمثّل روح المعارضة المؤسساتية الأكثر رسوخًا في وجه إدارة دونالد ترامب.
لم يكن تدخّل ترامب الأخير مجرد تلويح بالقوة، بل فعلٌ متكامل. إذ أمر بنشر قوات فيدرالية داخل أراضيها من دون الحصول على إذن حاكمها، غافين نيوسوم، في تحدٍّ مباشر للعرف الدستوري، وخرقٍ واضح للقانون الفيدرالي الذي يُلزم التنسيق مع حكومات الولايات في مسائل الأمن الداخلي. هذه الخطوة، بما تحمله من أبعاد سياسية ورمزية، أعادت إلى الأذهان أشباح الماضي الأميركي: لحظات التدخل القسري، وتمردات الولايات، والانقسامات التي كادت تعصف بالاتحاد.
كاليفورنيا ليست مجرد ولاية كبرى، بل نموذج لفكرة الفيدرالية كما حلم بها الآباء المؤسسون: التعددية، الحكم الذاتي، والتوازن الدقيق بين المركز والأطراف. واليوم، تبدو كاليفورنيا مصمّمة على الدفاع عن هذا الإرث. فغافين نيوسوم لا يكتفي بدور المعارض، بل يتقدّم كفاعل سياسي يُعيد تأطير العلاقة بين الحاكم والرئيس، كأنما يعيد كتابة نظرية السلطة الفيدرالية بمنطق جديد.
لكن السؤال الأعمق يتجاوز الحادثة بعينها: ماذا يعني أن تستخدم السلطة التنفيذية أدوات الدولة لتجاوز المؤسسات؟ وهل ما يحدث هو تعبير عن أزمة مؤقتة في العلاقة بين ترامب وكاليفورنيا، أم مظهر من مظاهر أزمة أشمل تضرب جوهر الفيدرالية الأميركية؟
تاريخ الولايات المتحدة لم يخلُ من التوترات بين البيت الأبيض والولايات، لكن ما يميّز اللحظة الراهنة هو أن المواجهة لم تعد ذات طابع إداري أو تقني، بل صارت صراعًا مفتوحًا على تعريف السلطة ذاتها. في هذا السياق، تتحوّل كاليفورنيا من خصم سياسي إلى رأس حربة في مقاومة مؤسساتية، قد تشكّل نموذجًا لولايات أخرى بدأت تعبّر عن ضيقها من تغوّل المركز.
وإذا كان ترامب قد قرر خوض معركته ضد هذه الولاية بالحديد والنار، فهل يُدرك أن خصمه ليس مجرد حاكم ديمقراطي، بل تراث دستوري يقف على ضفة المقابل؟ وهل يمكن لفعل رمزي كهذا أن يمرّ من دون أن يترك ندبة في الوعي الفيدرالي الأميركي؟
وما بدأ كخلاف قانوني بين واشنطن وساكرامنتو، ما لبث أن تمدّد إلى شوارع أميركا، حيث خرج عشرات الآلاف في مظاهرات عارمة عمّت الساحل والداخل على حد سواء، في يوم أطلق عليه منظموه "لا ملوك بعد اليوم" (No Kings Day). في لوس أنجلوس وحدها، احتشد نحو ثلاثين ألفًا؛ وفي سان فرانسيسكو وشيكاغو ونيويورك، تكرّرت المشاهد ذاتها: وجوه شابة ترفع لافتات تتحدى السلطة المركزية، وأصوات تهتف باسم الدستور لا باسم الزعيم. تمددت الاحتجاجات إلى أكثر من عشرين ولاية، وبلغ عدد المشاركين، وفق تقديرات منظمات مدنية، قرابة النصف مليون متظاهر. لم تكن المظاهرات فوضوية، بل منظمة، مؤدلجة، وذات رسائل محددة: الرفض الواضح لهيمنة واشنطن، والدفاع عن استقلالية القرار المحلي، والتحذير من استسهال عسكرة الخلاف السياسي.
بهذا المعنى، تحوّلت كاليفورنيا من جغرافيا الرفض إلى مركز تعبئة وطنية، ومن ساحة مواجهة محلية إلى ساحة استنهاض فيدرالي، كأن البلاد كلّها بدأت تستشعر أن ما يحدث في الغرب قد لا يبقى هناك طويلاً.
في لحظة تتعاظم فيها الاستقطابات، وتتهاوى فيها الوساطات، يصبح من المشروع أن نسأل: هل تظل الولايات «متحدة» تحت سقف واحد، حين يشعر بعضها بأن القانون لم يعد متساويًا على الجميع؟
إن ما يحدث في كاليفورنيا ليس مجرد فصل جديد من فصول النزاع بين اليمين واليسار، بل اختبار حاسم لمتانة البنية الدستورية الأميركية.
وفي هذا الاختبار، لا تكون النتيجة فوز طرف على آخر، بل نجاة الاتحاد نفسه من هوة الانقسام.