يبرز الوعي الثقافي في ظل التحولات العالمية المتسارعة، كعنصر رئيس في فهم العالم والتفاعل معه؛ فقد أصبح التعدد واقعًا لا يمكن تجاوزه يتجلى في تفاصيل الحياة اليومية، ويتغلغل في مختلف الفضاءات العامة والخاصة من المدرسة إلى سوق العمل ومن المؤسسات الرسمية إلى العلاقات العابرة للحدود، ومع تنامي التداخل الثقافي والانفتاح العالمي، تزداد الحاجة إلى تنمية حساسية ثقافية راقية، كقيمة جوهرية لبناء تواصل إنساني سليم، يقوم على أسس من الاحترام والتقدير والتفاهم المتبادل في عالم متنوع ومترابط.
فلم تعد المجتمعات اليوم كيانات منعزلة أو مكتفية بذاتها، بل أصبحت متشابكة ومترابطة على نحو غير مسبوق بفعل عوامل متعددة كالهجرة، والسفر، والتبادل التجاري، والإعلام، والتقنيات الرقمية خاصة منصات التواصل الاجتماعي التي اختزلت المسافات وفتحت آفاق التفاعل اليومي بين الثقافات وأوجد هذا التشابك المتسارع ضرورة أن يتحلى كل فرد بوعي ثقافي ناضج ومسؤول، يمكنه من إدراك الفروق الدقيقة بين الأنماط الثقافية، والتفاعل معها بتقدير واحترام، ورؤيتها كفرصة ثمينة للنمو الشخصي وتقوية التماسك الاجتماعي، وتوسيع أفق الانتماء الإنساني.
تشمل الحساسية الثقافية مستوى أعمق من الوعي الإنساني، يتجلى في التقدير الصادق لقيم الآخرين ومعتقداتهم وأنماط حياتهم، حتى وإن بدت لنا غريبة أو غير مألوفة، أو تعارضت مع ما نؤمن به من قيم راسخة، فهي لا تعني بالضرورة القبول أو التبني، ولكن تعني القدرة على التعاطف الحقيقي وفهم السياقات المركبة التي نشأت فيها تلك الاختلافات، والنظر إليها بوصفها ثمرة مسارات تاريخية طويلة من التكوينات الاجتماعية والدينية والسياسية، لا مجرد مظاهر سطحية، ويمنح امتلاك هذا النوع من الفهم العميق اتزانًا أخلاقيًا في مواقفنا، ويحررنا من النزعة الإقصائية والأحكام المسبقة أو المتعجلة، كما يعزز من قدرتنا على التفاعل الإيجابي والبناء في بيئات متعددة الخلفيات، ويسهم في ترسيخ قيم الاحترام المتبادل والتفاهم الإنساني، في زمن بات فيه الاختلاف هو القاعدة، والتنوع هو عنوان الواقع.
ومن المثير للتأمل أن الحساسية الثقافية لا تنعكس فقط على طريقة تعاملنا مع الآخر، بل تمتد في جوهرها لتطال وعي الفرد بذاته وثقافته، فحين يدرك الإنسان أن ما يراه بديهيًا أو طبيعيًا في سياق ثقافته قد يبدو غريبًا أو غير مفهوم في ثقافة مغايرة، يبدأ في اكتساب وعي نسبي بحدود مفاهيمه، ويتجه إلى مراجعة أفكاره ومواقفه من منطلق أكثر تواضعًا ونضجًا، وهذا التواضع الفكري يعد من أرقى ثمار الحساسية الثقافية، لأنه لا يزعزع الانتماء بل يعمقه ويحرره من الادعاء المطلق، ويفتح أمامنا أفقًا واسعًا للتعلم المستمر والتفاعل الإيجابي والبحث عن الجسور والمشتركات.
ويتضح أن الحساسية الثقافية، رغم ضرورتها الأخلاقية والإنسانية لا تخلو من التحديات، إذ قد يساء فهمها أحيانًا على أنها نوع من التنازل عن المبادئ أو التمييع القيمي أو فقدان الهوية، أو تتهم بأنها تبرر كل ممارسة بدعوى احترام التعدد الثقافي، لكن الواقع أن الحساسية الثقافية لا تقوم على الموافقة المطلقة لكل ما تطرحه الثقافات الأخرى، بل تعترف بحق الآخر في الاختلاف، مع الاحتفاظ بحقنا في التحليل والنقاش والقبول أو الرفض، شريطة أن يتم ذلك بروح إنسانية وبأسلوب يتسم بالاحترام واللياقة، فليس كل ما تطرحه الثقافات الأخرى معصومًا من النقد، ولا كل الممارسات خالية من لإشكالات، لكن ما يجب أن يبقى ثابتًا هو الوعي بأن التعامل مع التنوع يكون من موقع المشاركة في الإنسانية والانفتاح على الحوار والالتزام بقيم العدل والكرامة وتحافظ علي الهوية.
وتبدأ تنمية الحساسية الثقافية من مراحل التربية المبكرة، حيث يتعلم الأطفال أن الاختلاف ليس تهديدًا لهويتهم أو لقيمهم، بل هو فرصة للتعلم، والنمو وتوسيع الأفق، وهنا تبرز مسؤولية المؤسسات التعليمية في غرس هذا الوعي، من خلال مناهج تربوية ومضامين تعليمية تعزز التعدد الثقافي، وتكسر القوالب النمطية، وتنمي روح الانفتاح والاحترام المتبادل والقبول الواعي.
كذلك يسهم كلًا من الإعلام المسؤول والبيئة المجتمعية الواعية بدور تكاملي في ترسيخ هذا الحس، عبر تقديم نماذج تفاعلية وإنسانية تعكس ثراء التنوع بوصفه مؤكد للتماسك المجتمعي، وليس سببًا للتفرقة، ومن ثم تغدو هذه الحساسية مهارة حياتية أساسية، لا تقل أهمية عن إتقان اللغة أو والتمسك بالهوية، لأنها تجعل من الفرد إنسانًا متواضعًا، منفتحًا، قادرًا على الإصغاء والتعلم، ورؤية الاختلاف كنافذة نحو فهم أعمق للذات والآخر وتعلم منه ما يفدنا، وكلما زادت الحساسية الثقافية لدى الأفراد، كلما أصبح المجتمع أكثر تماسكًا، وأقدر على مواجهة تحديات التعايش المشترك وتحقيق العدالة الاجتماعية.
ونؤكد علي أن الحساسية الثقافية لم تعد ترفًا معرفيًا، بل ضرورة وجودية وتربوية، تسهم في صون الكرامة الإنسانية وضمان السلم الاجتماعي، كما أنها لا تبنى على الذوبان أو التنازل عن الذات، بل على وعي راسخ بالهوية، يدرك أن الانفتاح لا يعني التلاشي، وأن قبول الآخر لا يقتضي فقدان الأصل، بل يؤكد ويحرص عليه فالهوية الأصيلة الواعية، هي وحدها القادرة على التفاعل والتقدير دون انبهار، لأنها تنطلق من ذات واعية بمكانتها متماسكة بهويتها وقومتيها، ترى في التعدد إثراءً وفي الحوار وسيلة للفهم والنماء وتقريب وجهات النظر وتحقيق التكامل.
وجديرًا بالذكر أن الاستثمار في تنمية الحساسية الثقافية هو استثمار في بناء إنسان متوازن، منفتح، واثق بهويته، لا ينغلق دون الآخرين ولا ينسلخ عن جذوره، بل يلتقي معهم من موقع المشاركة الإنسانية والكرامة المشتركة، إنه إنسان متمسك بجذوره، منفتح بأفقه، يعترف بالتنوع دون أن يساوم على جوهره، فهذه الحساسية الراقية لا تلغي الخصوصية، ولا تذيب الهويات بل تحافظ عليهم وتصقلهم من الداخل لتكون أكثر نضجًا وثقة، وهكذا يبنى السلام الحقيقي القائم علي الوعي العميق الذي يجعل من كل اختلاف مرآة للفهم ومجالًا أوسع لبناء عالم أكثر عدلًا، وحرية، وإنسانية.
بقلم
أ.د/ مها عبد القادر
أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة - جامعة الأزهر