هل وجدتم مجتمعًا عفيًّا في أخلاقه، ناهضًا في تعليمه، متماسكًا في علاقاته مرتعًا للشائعات وترويج الضلالات وإثارة الجدل حول تفاهات الأمور أو إشكاليات ما أنزل الله بها من سلطان..؟!
ما أبلغ الأوزاعي حين قال: "إذا أراد الله بقوم شراً ألزمهم الجدل، ومنعهم العمل"..تُرى ما جدوى إثارة قضايا مفتعلة لا فائدة منها، مثل إثارة قضايا الميراث كما جرى أخيرًا على إحدى الفضائيات ثم خرج الأزهر ليقطع ألسنة الجدل حول قضايا قطعية الثبوت والدلالة بنص القرآن..؟!
ماذا تستفيد أمة تعاني صراعات وجود من إثارة قضايا جدلية عبثية من تلك العينة، أو نشر أخبار من عينة الممثل إياه الذي ظهر مرتديًا بدلة رقص، أو غيرها من الإشكاليات الغريبة على مجتمعاتنا وأخلاقنا..؟!
الأمر الذي يطرح سؤالًا: ماذا حدث لأخلاق هؤلاء من مثيري الفتن الذين يغرقون المجتمع في قضايا جدلية تلهي الناس عن واجبات الوقت، وأهمها بالقطع نصرة المستضعفين في غزة ومنع اليمين الإسرائيلي من دفع المنطقة لحافة الهاوية..؟!
وما أصدق الشاعر حين قال "إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو أخلاقهم ذهبت ذهبوا" ..فالفارق بين الحضارات الخالدة وما عداها من نتاج بشري انتهى إلى زاوية النسيان هو فارق أخلاقي..فحضارة المصريين القدماء أو حضارة العرب والمسلمين حين تقلب النظر فيها تجدها تنتصر للأخلاق وتنحاز لإنسانية الإنسان وتعلي قيم الحق والخير والجمال ..فعاشت قرونا وسادت عصوراً طويلة ألهمت الأوروبيين وأخرجتهم من ظلمات العصور الوسطى إلى المدنية الحديثة التي تخلت للأسف عن جانبها الخلقي والروحي فآلت أحوال العالم إلى ما نحن فيه اليوم من صراعات وأوبئة ومظالم يندى لها الجبين وحرب إبادة في غزة باتت بكل أسف مألوفة لا تثير حمية ولا تستصرخ ضمائر ماتت..!!
فهل حافظت أمة العرب على أخلاقها النبيلة ..أم فرطت في مقومات قوتها ووحدتها فطمع فيها كل من هبّ ودبّ..فلا نحن حافظنا على قيم تراثنا وما فيه من دعوة لإعمال العقل وتجديد الفكر والتزام روح ديننا الحنيف، ولا نحن وقفنا على سر التقدم الغربي في العلوم ومنتجات التكنولوجيا؛ ومن ثم فنحن في أمس الحاجة لثورة أخلاقية تتوازى مع ما تشهده مصر اليوم من ثورة بناء وتعمير وأمن واستقرار مهد لقيام جمهورية جديدة على أسس ديمقراطية ومدنية واجتماعية وصحية وسياسية وتعليمية وتصنيعية تواكب ما وصل إليه العالم من تقدم وازدهار مبني على العلم والمعرفة.
ما أحوجنا لثورة أخلاقية تهدم السلبيات بشتى صورها وتبني على أنقاضها منظومة خلقية إيجابية تعلي قيم الحق والخير والجمال والعدل واحترام الآخر والتسامح..وهي القيم التي تربعت بهآ أمتنا على عرش العالم يوما، وكانت سببا في خيريتها التي امتدحها الله من فوق سبع سماوات حين قال تعالى :"كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله".
ما نراه اليوم في مجتمعاتنا من حوادث عنف وجرائم بشعة تزداد وتيرتها وتتصاعد حدتها، وهي بالمناسبة غريبة ودخيلة علينا وتتوجع لها الضمائر السوية.. فمنذ متى كانت الأمهات يقتلن أولادهن أو يقتل الأزواج زوجاتهم أو تقتل الزوجات أزواجهن.. وأين الرباط المقدس الذي جعله الله بينهم من مودة ورحمة تشيِّدان أساساً متينًا لا تستقيم علاقتهما بينهما إلا به..ثم استشرت تلك الجرائم حتى وصلت للمؤسسة التعليمية والشارع وما نراه من سباب وتنابز بألفاظ بذيئة تخترق مسامعنا وتؤذي مشاعرنا سواء في التعاملات اليومية أو على مواقع التواصل الاجتماعي..؟!
ما تكشفه أرقام الحوادث من دلالات خطيرة وروائح كريهة طفحت بعد يناير 2011 لتنذر بتردٍ أخلاقي وفساد متراكم من سنوات طويلة تضافرت له عوامل عديدة أسهمت في انتشاره واستفحاله.
نحن في حاجة لاستنفار المجتمع ضد فساد الأخلاق ودق أجراس الخطر ومراجعة حقيقة إيماننا وتديننا الذي صار شكلياً لا روح فيه ولا أثر له ولا إخلاص ولا فعالية..فخيرية هذه الأمة تنهض على ساقين هما الأمر بالمعروف والفضائل والنهى عن المنكرات مع الإيمان بالله..يقول الله تعالى:" كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله" (آل عمران: 110).
فهل تناهينا عن الشر والغل والحقد والقتل والعنف والدمار والغيبة والنميمة ..لم نعد نتواصى بالحق والصبر.
الأخلاق أعظم أركان الدين قاطبة؛ فهي منصة إطلاق لقيم الخير والجمال والحق..فهل تحققت تلك القيم في مجتمعاتنا أم أنها ابتليت تارة بالاستعمار والاحتلال البغيض وتارة بالاستبداد المقيت..وتارة أخرى بالدواعش الجدد وجماعات العنف والتكفير التي عاثت في الديار فسادا؛ً فخربت العمران وسفكت الدماء وأزهقت الأرواح وشوهت حتى صورة الدين الحنيف الذي ادعت الانتماء إليه زوراً وبهتاناً.
لماذا وصلت أخلاقنا لحافة التطرف في رد الفعل وانعدام الضمير وربما الحقد الدفين..أين وازع الدين والفطرة السوية..لماذا تراجعنا إنسانياً إلى هذا الوضع المخيف..من المسئول عما وصلنا إليه..أين ذهب الحب والطيبة وجبر الخواطر..؟! هل هو غياب الأسرة أم ضعف الدور التربوي للمؤسسة التعليمية..وتراجع أدوار المؤسسات الدينية والثقافية والإعلام وخصوصاً الأعمال الفنية درامية كانت أم سينمائية التي تنشر سلوكيات العنف والعري والاستهلاك النهم والتواكل والفهلوة والاستخفاف بالضمير والقيم الموروثة والتقاليد الأصيلة لمجتمعنا..أم لغياب الرادع القانوني لجرائم الفضاء الإلكتروني الذي تحول لساحات ومنصات تشهير واستباحة للأعراض وانتهاك للخصوصيات وبث الأكاذيب والتطاول .. أم لكل هذه العوامل مجتمعة؟!
كثيرة هي سقطات مجتمعنا، وقد شاركت فيها للأسف وسائل التواصل الاجتماعي وبعض وسائل إعلام تحولت من وسائل لنشر الوعي إلى أدوات هدم لم يتم توظيفها في جنى ثمار العلم والمعرفة واستسلمنا لغواية الفضاء الإلكتروني وضجيج التوك شو ومسلسلات روجت للعنف والقتل وتعاطي المخدرات و العري وفساد الأخلاق والفهلوة والخيانة والتكاسل والشعوذة والدجل ..وهو ما آن له أن يتوقف لنجد مواطناً صالحاً تنهض على أكتافه الجمهورية الجديدة بقوة وثبات.
صناع الدراما يتحملون بالتأكيد جزءاً من المسئولية بما قدموه من مسلسلات هابطة وأعمال تافهة تفوق الأعمال الهادفة عدداَ..ومن ثم فلم تحدث الأخيرة تأثيرها المرجو في معالجة الجهل والأمية، وتحض على الإيجابية والمشاركة العامة وكان طبيعياً- والحال هكذا- أن تهتز منظومة القيم وتتراجع الأخلاق..وهو ما أدركه الرئيس السيسي منذ اللحظة الأولى لتوليه مقاليد الحكم فنبه لخطورته، وطالب بأن يكون الفن والثقافة والإعلام والأزهر أدوات تنوير وتوعية..وهو ما وجد صداه فيما قررته الهيئة الوطنية للإعلام بعودة الدولة للإنتاج الدرامي..وهي خطوة محمودة نتمنى أن تستمر حتى تستقيم أحوال الدراما!
وهنا يثور سؤال: هل نحن بخير إذا استمر منحنى تدهور الأخلاق في تصاعد.. وما يمنعنا من الرجوع لروح ديننا وما دعانا إليه رسولنا القائل: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق..فهل انتهينا عما نهانا الله عنه..؟!
ديننا الكريم شأنه شأن رسالات السماء كافة يحضنا على فعل الخيرات واجتناب المنكرات، رافضاً أي انحراف في الفكر أو فساد في السلوك أو التصور..ورغم سمو هذه الدعوة وما قدمته للبشرية من نماذج فذة أيام ازدهار حضارة الإسلام لكن أمتنا اليوم مبتلاة دون غيرها بالإرهاب وجماعاته والتطرف وتنظيماته والإهمال والفساد والتخلف والأمية والمرض حتى باتت وتلك مفارقة عجيبة أكثر بقاع الأرض هشاشة وانقساماً وتدهوراً في الإنتاج وانخراطاً في الخرافة والتواكل والكسل رغم ما تملكه مقومات وموارد بشرية وطبيعية لا محدودة..وهي آفات يأباها ديننا ولا يرضاها لأتباعه.
ما يحدث يجعل السؤال ضرورياً: لماذا تراجع دورنا الحضاري وتداعت علينا الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها لا من قلة ولا عن فقر في الموارد بل عن كثرة كغثاء السيل كما وصفها رسول الإسلام.
مكارم الأخلاق هي مدارات الأديان كلها وغايتها وليس أدل على ذلك من قول رسولنا الكريم "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" فالدين المعاملة، وما انتشر الإسلام إلا بحسن الخلق وحسن المعاملة..ولولا تلك الأخلاق الحميدة لتحولت مجتمعاتنا إلى غابة ينهش القوي فيها الضعيف إشباعا للحاجات المادية والغرائز بلا ضمير ولا عقل ..وما أحسب تخلفنا عن ركب التطور ومسارات التقدم ورسالات التاريخ إلا بتخلينا عن روح الدين ومكارم الأخلاق وإهمال رسالتنا الحضارية المتميزة التي امتازت عن حضارة الغرب المادية بروح الإنسانية ونبل التكافل والتعايش الآمن العادل وقد تسنى لأمتنا بهذه السمات أن تنقل مجتمعاتنا ومن ورائها البشرية جمعاء من طور البداوة إلى مصاف الحضارة ونور العلم وسمو الخلق حتى حفظت أمة الإسلام بأخلاقها الرفيعة للإنسانية وجودها الحضاري وأخرجتها من ظلام العصور الوسطى وغياهب الجهل وظلمات التخلف إلى نور المعرفة والتمدين اللذين تدين بهما أوروبا اليوم للإسلام وأهله شاء من شاء وأبى من أبى.
ما نحن فيه من تراجع أخلاقي يرجع في جانب منه إلى غياب القدوة الحسنة في المجتمع ..كما يرجع إلى تهافت الأعمال الفنية وابتذالها..وادعاء صناعها أنها لا تصنع الواقع بل هي انعكاس له، وأن ناقل الكفر ليس بكافر وهو قول حق أريد به باطل؛ فليس كل ما يُعرف يقال أو ينشر بين عوام الناس ..وأن تسليط الضوء على أي سلوكيات منحرفة يزيدها انتشاراً ويعطي لأصحابها مزيداً من الجرأة على ارتكابها جهاراً نهاراً دون خجل أو مواربة..فهل من وظائف الفن الجاد استثارة الغرائز و جر المجتمع للعنف والرذيلة وتهوينها في عيون النشء والصغار حتى يألفوها ولا يجدوا عيباً في تقليدها ..وهنا لا يمكننا تبرئة الأعمال الفنية والمسلسلات الهابطة ولا مواقع التنابز الاجتماعي و برامج التو شو التي طفح بعضها بالجدل والتشهير والابتزاز والانتهازية بعد أحداث يناير 2011 !!
للأسف يسود اعتقاد خاطيء أن فرائض الإسلام مقصورة على الصلاة والصوم والزكاة والحج وصلة الرحم وبر الوالدين ..وتناسوا أن الدين المعاملة..فهل نحسن تلك المعاملة بالفعل في حياتنا اليومية؟!
**