هيرمس
    مصر
  • 29℃ القاهرة, مصر

رئيس مجلس الإدارة

طارق لطفى

رئيس التحرير

أحمد سليمان

لا تفهمونا غلط 

«من قلب النوبة إلى العالم.. هل تبدأ العالمية من الجذور؟»

فيلم ضي.. سيرة أهل الضي


 

أثناء تصوير مسلسل حنين وحنان للفنان العالمي الراحل عمر الشريف عام 2007 داخل مدينة الإنتاج الإعلامي، حيث كنت أعمل مستشارًا إعلاميًا للمدينة آنذاك، دار بيني وبينه حوارا لا أنساه. سألته كيف يمكن للسينما المصرية أن تصل إلى العالمية ؟ ، فابتسم وقال جملة ظلت عالقة في ذهني حتى اليوم: العالمية الحقيقية تبدأ من المحلية، فكل ما يخرج من جذور الأرض يحمل طاقة الصدق، والسينما المصرية حين تعود إلى جذورها وتستعيد ثقتها بذاتها، ستصبح جزءًا أصيلًا من الخريطة السينمائية العالمية، لا كمجرد ضيف بل كصوت إنساني مميز يحمل روح مصر إلى العالم.

تذكرت هذا الحديث وأنا أشاهد فيلم ضي.. سيرة أهل الضي، الذي شعرت أنه يحقق تلك المعادلة الصعبة التي تحدث عنها عمر الشريف. الفيلم يستلهم بيئته المحلية ليصنع منها خطابًا إنسانيًا عالميًا. ينطلق من عمق صعيد مصر، من النوبة تحديدًا، ليحمل روح المكان في تفاصيله البصرية واللغوية والموسيقية. المخرج كريم الشناوي والمؤلف هيثم دبور قدما عملًا يتجاوز حدود الحكاية عن طفل مصاب بمرض المهق، ليصبح رحلة إنسانية عن النور الكامن في المهمشين والمنبوذين، وعن الحلم كقوة خلاص والموسيقى كطريق نحو الحرية.

يحكي الفيلم قصة الطفل النوبي ضي الذي يعاني من حساسية تجاه الضوء ويواجه قسوة المجتمع وتنمره، لكنه يمتلك صوتًا غنائيًا جميلًا يدفعه لمحاولة الخروج من عزلته. ومن هذه الحكاية البسيطة ظاهريًا، ينسج الفيلم تأملًا عميقًا حول الصراع بين النور والعتمة، بين الإنسان ومجتمعه، بين الجسد الذي يقيد والروح التي تحرر.

برع المخرج كريم الشناوي في تحويل المكان إلى كائن حي يتنفس داخل الكادر، فالنوبة هنا ليست خلفية، بل روح الفيلم وبطله الخفي. الكاميرا تتعامل مع الضوء بوصفه قدرًا، ومع الظلال كملاذ، فتتنقل برهافة بين قسوة الشمس على جسد ضي المصاب بالمهق وبين البيوت الطينية التي تحتضنه من وهجها. في هذا التناقض، تتشكل لغة بصرية قائمة على الصراع بين النور الذي يكشف ويؤذي، والعتمة التي تخفي وتحمي. الألوان ليست مجرد تدرجات جمالية، بل رموز محملة بالمعنى، فالأبيض الذي يفترض أن يكون لون الطهارة والانعتاق، يتحول إلى لون العزلة والاختلاف، إلى عبء بصري واجتماعي يحمله ضي على جلده. يتجسد ذلك بوضوح في المشهد الذي ترفض فيه نفسه ارتداء الجلابية البيضاء التي تختارها له أمه، وكأنه يرفض رمزيًا القالب الذي يريد المجتمع أن يحصره فيه، لون النقاء المفترض الذي صار بالنسبة له لون الوجع والنبذ بسبب لون بشرته التي تجلب له التنمر وتجعل مدير مدرسته يرفض وجوده . يتكرر هذا الرمز في مشاهد لاحقة حين يتصالح ضي تدريجيًا مع اللون، ويقبل ارتداءه في النهاية، لا استسلامًا، بل تحررًا، كأن الأبيض يتحول من رمز للنبذ إلى راية للقبول، ومن لون للمعاناة إلى لون للنور الداخلي. أما الأسود، فليس ظلامًا في هذا الفيلم، بل دفء واحتواء، ظل يحتضن الجسد المرهق من الضوء القاسي. بهذه اللغة البصرية المتقنة، ينجح الشناوي في منح الفيلم عمقًا فلسفيًا وشاعريًا دون أن يفقد واقعيته، ليجعل من الضوء نفسه شخصية درامية تتصارع مع الإنسان وتكشف حقيقته في آن واحد.

ويبدو أن المخرج كان واعيًا تمامًا لأهمية الإيقاع الهادئ الذي يمنح المشاهد مساحة للتأمل والتذوق البصري، فالفيلم يتحرك بنَفَسٍ شاعري يجعل من كل لقطة لوحة فنية قائمة بذاتها. تتهادى الكاميرا بين حركة الطبيعة المتغيرة كأنها نبض الأرض، وبين انعكاس الضوء على وجوه الممثلين بما يكشف مكنون شعورهم، وتلتقط المراكب الصغيرة على صفحة النيل وهي تمخر الماء برقة وطمأنينة، ثم تنتقل إلى تفاصيل الأقمشة المزركشة التي ترتديها نساء النوبة، وإلى أيديهن وهي تصنع الحُلي التقليدية ببراعة تجمع بين الحرفة والجمال والرقي، في مشاهد لا تأتي كاستعراض جمالي للبيئة بقدر ما تنبع من صميم الحدث الدرامي. يتجلى ذلك في مشهد ليلي أخت ضي وهي تنسج قلادة يدوية فتغزل معها حلمه الصغير، ثم في لحظة مؤثرة حين تضطر إلى بيع خلخالها الفضي لشراء تذاكر القطار، فيتحول الزخرف الشعبي إلى شاهد على التضحية والحب. لا يسعى الإخراج هنا إلى الزينة البصرية، بل إلى جعل البيئة ناطقة بمعانيها، حاضرة في الفعل والمشاعر، لتصبح الكاميرا مرآة صديقة للطبيعة والوجدان، تنصت أكثر مما تتكلم، وتشهد على صمتٍ يفيض بالحياة..

في الأداء التمثيلي، كان الطفل بدر محمد مفاجأة فنية، إذ قدم دور ضي بصدق داخلي لافت، بنظراته أكثر من كلماته، حتى جعل المشاهد ينسى أنه يمثل. كما أضافت الفنانة حنين سعد في دور الأخت ليلي بعدًا إنسانيًا مؤثرًا، تجسد من خلاله التحول من الغيرة والرفض إلى الإيمان والحب، لتصبح الأخت سندًا للبطولة وأحد رموز التحول في مسار الحلم.

أما الفنانة السودانية إسلام مبارك، فقدمت واحدة من أكثر الشخصيات ثراءً في الفيلم، أداءً ممتلئًا بالتناقضات يعكس جوهر الإنسان النوبي بين الحنان والخوف، وبين القوة والهشاشة. في ملامحها تختبئ ذاكرة المكان، وفي أدائها يتجسد الصراع بين القبول والرفض. شخصيتها تمثل المرأة التي تحتمل القسوة ولا تفقد القدرة على الحلم، فتصبح مرآة للمجتمع النوبي الممتد بين الألم والبهاء. أداؤها المتزن والعميق جعل الشخصية تجسيدًا لمعنى الامتداد الإنساني بين شمال النيل وجنوبه، لتصبح جسرًا بين المحلية والإنسانية الواسعة، وهو ما يجعلها محورًا من محاور العالمية في هذا الفيلم.

ويظهر الفنان صبري فواز في أحد أكثر أدواره تعقيدًا، بدور التاجر صاحب الصندل النيلي، الذي يجسد التناقض بين الاستغلال والرحمة. هو رجل أنهكته الحياة بين الطمع والضمير، يتحول في لحظة إلى طوق نجاة لوالدة ضي حين تجد في صندله وسيلة للوصول إلى القاهرة، لكنه يظل وجهًا آخر للمجتمع الذي يساوم على الألم الإنساني. صبري فواز يؤدي الدور بصمت لافت، نظراته تختصر الحيرة والتردد والفرح وهو يستمع لضي وهو يغني تناقضات الشخصية ، فيتحول إلى رمز لسلطة المال والضعف الإنساني في آن.

وتقدم أسيل عمران في دور صابرين واحدة من أصدق الشخصيات النسائية في الفيلم. معلمة الموسيقى التي ترى في ضي النور الخفي وتقرر أن تكون له الحلم والسند. رغم ما تتعرض له من قسوة وإهانات تصل إلى الضرب والإلقاء في النيل، تظل ثابتة على إيمانها بقدرة الفن على إنقاذ الإنسان. صابرين تمثل الجانب المضيء من التجربة الإنسانية، تلك التي تؤمن بأن الفن طريق الخلاص. أداؤها يجمع بين الرقة والقوة، يجعل المشاهد يصدق أنها وُجدت لتكون جسر الأمان بين الطفل والعالم، وهي التي جعلت والدة ضي تدرك في النهاية أن الحماية لا تعني العزلة، وأن النور لا يولد إلا حين نؤمن بالآخر.

محمد منير في الفيلم ليس مجرد صوت أو رمز غنائي، بل حضور وجداني حقيقي يجمع بين ملامح المكان وروح الإنسان. وجوده يربط بين الجذور والآفاق، بين المحلية والعالمية، ويمنح الفيلم عمقًا إنسانيًا لا يمكن تجاهله. هو الحكيم الذي يرى في ضي امتدادًا لأحلام البسطاء، وصوته يصبح المعادل الفني لرحلة النور داخل الظلمة.

ويأتي حضور الفنان محمد ممدوح كلمسة إنسانية دافئة في قلب الحكاية. دوره وإن كان صغيرًا في المساحة إلا أنه عميق في الأثر، يمثل اليد التي تساعد ضي على العبور نحو حلمه. يجسد شخصية تتسم بالصدق الداخلي والرحمة، يعتمد على النظرات ولغة الجسد أكثر من الحوار، فيمنح الفيلم لحظة إنسانية خالصة تؤكد أن الوصول إلى النور يحتاج إلى أيادٍ كثيرة تعمل في الظل وهو الحب الذي تبحث عنه وتنتظره صابرين .

كما قدمت الإعلامية لميس الحديدي مفاجأة تمثيلية مميزة في شخصية المذيعة التي تمنح ضي فرصته الحقيقية للظهور. تقابله عند بوابة مدينة الإنتاج الإعلامي وتأخذه لتعرض موهبته في برنامجها، ليغني الأغنية النوبية التي حلمت والدته أن يسمعها الناس. لميس الحديدي هنا ليست مجرد حضور إعلامي بل رمز للأمل والعوض، إذ أتاحت للبطل أن يحقق حلمه الذي حُرم منه. أداؤها البسيط والعفوي منح الفيلم صدقًا واقعيًا مضاعفًا، وجعل مشهد الغناء الأخير ذروة وجدانية تختصر الحلم والأم والرحلة كلها في لحظة انتصار.
أما الموسيقى في الفيلم، فهي روح أخرى موازية للصورة رسمت ملامحها . لم تكن مجرد خلفية صوتية بل شريك درامي كامل، تربط بين الداخل النفسي للشخصيات والعالم الخارجي. الأغاني التي أداها محمد منير جاءت كصوت الأرض والروح، تعبّر عن الانتماء والتمرد والتمسك بالهوية، وتمتد كخيط إنساني بين الحلم والواقع. الموسيقى التصويرية كانت مرافقة للإيقاع البصري، تتصاعد مع التوتر وتهدأ في لحظات التأمل، لتخلق حالة وجدانية من الانسجام التام بين الصورة والصوت. أما الأغنية الدعائية التي غناها منير من كلمات مصطفى حدوتة وألحان إيهاب عبد الواحد وتوزيع يوفل وستيفن سدراك، فجاءت تلخيصًا لرحلة البطل. تقول كلماتها: جوايا اكتشاف لو كله خاف أنا مش هخاف من بين آلاف كل اللي شاف قال ده اكتشاف من يومي على لوني والناس دي صعب يغيروني. وهي كلمات تختصر رحلة ضي من الخوف إلى الإيمان بالنور الداخلي، وتجعل الموسيقى ضمير الحكاية وصوتها الإنساني العابر للحدود.
لكن رغم كل هذا الثراء البصري والإنساني، يواجه الفيلم بعض الملاحظات الدرامية، أبرزها السرعة غير المبررة في تصاعد الأحداث في الثلث الأخير، والاعتماد الزائد على المصادفات التي تُضعف منطق السرد. بعض التحولات تبدو مفاجئة أو متعجلة، كأن الفيلم يخشى الإطالة فيغلق دوائره بسرعة، مما يُفقد بعض المواقف عمقها المحتمل. كذلك، هناك ميل واضح إلى تغليب العاطفة على المنطق في بعض المشاهد، ما جعل بعض النقاد يرون أنه فيلم يلعب على وتر التعاطف أكثر من كونه يقدم تحليلًا دراميًا محكمًا. ومع ذلك، فإن الصدق الإنساني الذي يملأ العمل يجعل هذه الملاحظات قابلة للتجاوز، لأن الفيلم لا يسعى للإبهار بقدر ما يسعى للمس القلب.

واخيرا

فيلم ضي.. سيرة أهل الضي ليس حكاية طفل يواجه التنمر فحسب، بل مرآة لمجتمع يتعلم أن يرى النور في المختلف، وأن يهزم الخوف بالإيمان والحلم. إنه رحلة الإنسان في بحثه عن ذاته، في مقاومته للجهل ومحاولته اكتشاف الضوء الكامن داخله. ينجح الفيلم في التعبير عن بيئته النوبية بصدق وعمق، دون أن يقع في فخ الزخرفة الفولكلورية، ليقدّم المحلية لا كقيد، بل كجسر يصلنا إلى العالم، تمامًا كما قال عمر الشريف: «العالمية تبدأ من الجذور».

وجمال ضي انه يطارد الصدق، وهذا الصدق هو ما يمنحه بعده الإنساني الرحب. إنه عمل مخلص لبيئته، نابض بوجدان ناسه، يجمع بين الحلم والألم، بين البساطة والعمق. ورغم ما قد يعتريه من هنّات درامية، يبقى تجربة فنية وإنسانية نادرة تذكّرنا بأن الضوء الحقيقي لا يأتي من الخارج، بل يولد من داخل الإنسان، ومن تراب الأرض التي أنجبته وهذا كان محور التحول في شخصية بطل الفيلم .
سؤال يطرحه  الفيلم في كل لقطة ونغمة وإيماءة. ف من قلب النوبة إلى العالم.. هل تبدأ العالمية من الجذور؟ فالعالمية لا تتحقق بتقليد الآخر، بل بالتعبير الصادق عن الذات. الفيلم ينطلق من أرضه، من ملامح ناسه ولهجتهم وأحلامهم البسيطة، ليصنع عملاً ينبض بروح المكان ووجعه وبهائه في آنٍ واحد. والسينما التي تخرج من عمق المحلية قادرة على أن تخاطب العالم، لأنها تنبع من جوهر الإنسان، لا من قوالب مصطنعة. وربما هنا تكمن الإجابة التي يهمس بها " ضي" نعم، يمكن للفن المصري أن يصل إلى العالمية، حين يؤمن أن الجذور ليست قيودًا، بل هي ما تمنح الضوء ثباته وهو يشق طريقه نحو الأفق.

مصطفي البلك
[email protected]