في عالم يتسارع فيه إيقاع الأخبار، وتتغير فيه منصات النشر، تظل لبعض المؤسسات الصحفية روحٌ لا تذبل وريادةٌ لا تُنازع. ومن بين هذه القلاع الشامخة، تقف جريدة "المساء" كأعرق صحيفة مصرية، لم تكتفِ بتوثيق التاريخ، بل شاركت في صناعته على مر السنين. إنها ليست مجرد صحيفة يومية، بل هي "منبر الجماهير" الذي لا يزال صوته يتردد بصدق وقوة.
إن رسالة "المساء" تجاوزت حدود التغطية الإخبارية التقليدية، لتصبح مقياسًا حقيقيًا للإنجازات وكاشفًا جريئًا للوجاهة. يدها الممتدة تصل إلى قلب كل ما يؤرق المواطن المصري، لتضعه بوضوح على مائدة أصحاب القرار، مؤمنة بأن الحرف الصادق يستطيع أن يصنع قرارًا ويغير واقعًا.
بالنسبة لي، فإن العلاقة بـ"المساء" هي علاقة حياة وامتنان. فمنذ عام 1990، كنت على أولى درجات سلم الصحافة، و"المساء" هي من احتضنتني وصنعتني. أتذكر بوضوح أول خبر نُشر لي في مسيرتي، وكان في الصفحة الأولى على ثلاثة أعمدة، يحمل عنوان
"المؤبد لرئيس مدينة القنطرة شرق وأعوانه حاولوا إدخال شحنة مخدرات عبر قناة السويس". كان هذا الخبر هو خطوتي الأولى في بلاط صاحبة الجلالة، وشهدت بعدها تطورًا مستمرًا، لأصبح جزءًا من كتيبة المحافظات التي تملأ كل صفحات الجريدة بالحياة والواقع.
ولم تكتفِ "المساء" بذلك، بل منحتني الفرصة للمشاركة في عدد تاريخي إبان الاستعداد لافتتاح قناة السويس الجديدة. لقد كان العمل على هذا الحدث استثنائيًا، حين تم تكليفي بإنشاء باب يومي بعنوان "على شط القناة". كان هذا الباب مرآة نرصد فيها كل تفصيلة تحدث على أرض الواقع في هذا المشروع القومي العملاق، "مشروع القرن". عشنا عامًا كاملًا تحت رمال الصحراء الجرداء، نتابع العمل الدؤوب، حتى لحظة انطلاق المياه، لتتحول تلك الصحراء إلى شريان عالمي جديد للخير والرخاء. أن تشارك في صناعة عدد تاريخي "من الجلدة للجلدة وما قبلها" في مثل هذا الحدث، هو فخر لا يمحى.
ولم تغفل "المساء" قط عن توثيق أي جزء من ملحمة التنمية، فقد سجلت أخبارنا "أول ضربة فأس" في بناء مدينة الإسماعيلية الجديدة، وواكبناها خطوة بخطوة حتى تحولت إلى "درة المدائن شرق قناة السويس". كما كانت المساء حاضرة لتغطية مشروعات قومية حيوية أخرى، على رأسها أنفاق الإسماعيلية التي تعبر أسفل القناة، وهي مشروعات سيتحدث عنها الأحفاد وستبقى موثقة في كتب التاريخ بفضل هذا الجهد الصحفي الدؤوب.
وإلى جانب المشروعات العملاقة، خاضت المساء العديد من المعارك الصحفية الشريفة لصالح المواطن البسيط. فلقد كانت ولا تزال "صوت من لا صوت له"، ومحاميًا ومدافعًا عن حقوق البسطاء، تضع قضاياهم على طاولة المسؤولين دون تردد.
وبمناسبة احتفال "المساء" بمرور 69 عامًا على صدورها، وصدور العدد الخامس والعشرين بعد الألف، تظل الجريدة شامخة وعظيمة برجالها ونسائها، بشبابها وصحفييها المخضرمين. إن "المساء" لم تصنع صحفيين وحسب، بل هي مصنع للنجوم، سواء كانوا صحفيين، مواطنين، مسؤولين في الدولة، فنانين، أو رياضيين، تجعل من إنجازاتهم قيمة تُحتذى.
هكذا صنعتني "المساء"، وهكذا سأظل مدينًا لها بكل حياتي وتاريخي المهني. فكل عام و"المساء" شامخة عظيمة، صوتًا للوطن، ومنارة للحقيقة.