الخبير الدولي و الأستاذ بجامعة حلوان و رئيس شعبة الميكانيكا
قبل أيام من دخول الحرب عامها الثالث، وبساعات عن انتهاء المهلة النهائية التي حددها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أعلنت حركة حماس موافقتها لما جاء في خطته للسلام، خاصة بالافراج عن جميع الرهائن الأحياء والأموات. علي الرغم من موافقة حماس "الـ مشروطة" في كثير من البنود المهمة المتعلقة بمستقبل الحركة وسلاحها، فان ترامب "رجل الاعمال" الساعي الي التقاط ما يهمه ردا إيجابيا على "حماس.. وما يهمه هنا لقطة "الافراج عن الرهائن".
الداخل الإسرائيلي، وأقصد هنا اليمين المتطرف، يعيش أزمة كبيرة، ويشعر أنه تعرض للخيانة من جانب ترامب، واعتبر أن رده الإيجابي هو بمثابة كمين تعرضوا له لأنه ينهي الحرب بدون استكمال المهمة المقدسة من وجهة نظرهم وهي القضاء علي حماس وإعادة احتلال القطاع، وتهجير ما تبقي من سكانه. وربما يلجأ نتنياهو لخيار أخير لو زادت ضغوط اليمين، هو الدعوة لانتخابات مبكرة وبذلك يعيد الكرة مرة أخري للشارع والمربع رقم صفر. زعيم المعارضة يائير لابيد أول من ردّ على إعلان ترامب، محاولا. قطع الطريق عن اليمين المتطرف وكتب على x "الرئيس ترامب مُحقّ في وجود فرصة غير مسبوقة هنا لإطلاق سراح الرهائن وإنهاء الحرب". وأضاف: "على إسرائيل أن تُعلن انضمامها إلى المفاوضات التي يقودها الرئيس لوضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل النهائية للصفقة. لقد أبلغتُ الإدارة الأمريكية أن نتنياهو يحظى بدعم سياسي لمواصلة هذه العملية". وجاء تعليقه بمثابة شبكة أمان للرئيس الوزراء الاسرائيلي.
نتنياهو، يعيش أسوأ كوابيس، وحاليا لا يمتلك خيار اللعب بعيدا عن ترامب الذي وصفه قبل أيام في البيت الأبيض انه أفضل صديق في التاريخ لدولة إسرائيل، وهو ما زال مصدوما من رد ترامب الايجابي، لانه اعتبر بيان "حماس" نعم بطعم لا.. وربما كان الأخير يعرف حجم تلك الصدمة علي رئيس الوزراء الإسرائيلي، لذلك اغلق عليه الطريق بتوجيه ما يشبه الامر ب "وقف القتال فورا" لمنح الحركة القدرة لجلب الرهائن من الانفاق المنتشرة تحت غزة. هذا في الواقع، يمثل سابقة ان تعارض الولايات المتحدة، ولأول مرة منذ عملية السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ مبدأ اسرائيل بضرورة التفاوض مع حماس تحت ضرب النار، حيث أصبح الطلب بمثابة تقييد لآلة القتل الاسرائيلية. والكرة الآن في ملعب تل ابيب.
والأكثر، أن ترامب برده الإيجابي نقل تلقائيا مسئولية إنجاح خطته على عاتق إسرائيل التي يقع عليها من الان توفير كل الظروف الممكنه لحركة حماس للبحث عن القتلى والرهائن. فضلا عما سبق فقد اعتبر ترامب الحركة المصنفة "إرهابية" لدي الإدارة الأمريكية، تسعي للسلام. هكذا قلب الرجل كل تحالفاته السابقة مع نتنياهو واستبق برؤيته الخاصة للصراع، كل الثوابت في العلاقات الامريكية -الإسرائيلية.
وبالنسبة لأهالي الرهائن، فان السؤال الذي يبحثون له عن إجابة هو، أن ما تم التوصل اليه الان ليس بجديد وطرح في السابق. مع ذلك، بدلًا من تهيئة الإسرائيليين لهذا الواقع، لماذا استمرت الحكومة في رفع راية الحرب حتى قضي على أكثر من ثلثي الرهائن؟!
في حقيقة الأمر فان الخطة تتبنى نهجًا مبتكرًا لمعالجة كلٍّ من المخاوف الإنسانية والتحديات الأمنية ضمن الإطار الشامل نفسه. على سبيل المثال، تُشير الخطة إلى أن المساعدات ستبدأ فورًا بالتدفق إلى غزة مرة أخرى، بمعدل يتناسب مع العدد اليومي للشاحنات التي دخلت القطاع خلال وقف إطلاق النار في يناير 2025. كما تُسلّط الخطة الضوء على ضرورة إعادة بناء البنية التحتية الحيوية - مثل محطات معالجة المياه والمستشفيات والمطابخ المجتمعية - وتحرص على التأكيد على أنه "لن يُجبر أحد على مغادرة غزة، وسيكون لمن يرغب في المغادرة حرية القيام بذلك وحرية العودة".
مع ذلك، يتضمن إطار ترامب أيضًا العديد من النقاط التحذيرية. فهو يحاول معالجة قضايا كثيرة دفعةً واحدة - بما في ذلك حوكمة ما بعد الحرب، وإعادة الإعمار، والتنمية الاقتصادية، والمساعدات. ولن يكون من الممكن إجراء محادثات حول إعادة الإعمار والإنعاش الاقتصادي إلا بعد استقرار الوضع على الأرض، ونزع سلاح حماس، وتلبية الاحتياجات الأساسية للمدنيين.
اذن الأيام القادمة ستكون حاسمة، والعبء الاكبر سيقع على عاتق المفاوضين الذي ينبغي عليهم تركيز جهودهم أولاً على التوصل إلى اتفاق يُنهي الحرب في غزة، ويضمن انسحاباً إسرائيلياً منسقاً من القطاع، ويُنشئ هيئة حكم مؤقتة، ويُعالج الاحتياجات الإنسانية العاجلة للمدنيين.
بمجرد معالجة هذه المخاوف العاجلة، يُمكن لصانعي السياسات البناء على النجاحات السابقة وصياغة اتفاقيات إضافية تُعالج قضايا أكبر وأكثر تعقيداً وطويلة الأمد، مثل إعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية. ففي نهاية المطاف، لا يُمكن إعادة إعمار غزة بينما يُعاني شعبها من الجوع والموت بسبب القتال الممنهج على مدار الساعة.
إذا كانت إدارة ترامب ملتزمة بلعب دور رئيسي في الإشراف على إعادة إعمار غزة بعد الحرب، فعليها أن تكون مستعدة لتخصيص سنوات من الموارد الدبلوماسية لهذه القضية. وعليها أيضًا أن تكون مستعدة لإجراء محادثات صعبة مع الإسرائيليين والفلسطينيين والشركاء العرب والحلفاء الأوروبيين على حد سواء إذا أرادت أن ترى جميع الأطراف ملتزمة بما اتفق عليه على المدى الطويل.
في حين لا شك أن السلطات الحاكمة في غزة، بما فيها السلطة الفلسطينية، ستحتاج إلى دعم من الولايات المتحدة والمجتمع الدولي لمساعدتها في التعافي بعد الحرب، يجب على واشنطن أيضًا أن تحرص على القيام بذلك بطريقة لا تُعتبر استغلالية. وعليها تنسيق مساعداتها بعناية مع الأردن ومصر، والاعتماد على الشركاء الإقليميين كلما أمكن. سيحافظ ذلك على مصداقية واشنطن كوسيط موثوق ومحايد في المناقشات المستقبلية حول قضايا أكبر مثل التجارة، وأمن الحدود، والدولة الفلسطينية.
لن تكون أي خطة "ما بعد" لقطاع غزة بعد الحرب مثالية أبدًا. أي اتفاق يُنهي الحرب في نهاية المطاف سيُغضب الإسرائيليين والفلسطينيين وشركائهم الغربيين بدرجات متفاوتة. أي اتفاق سيتطلب من حماس التفاوض كطرف فاعل حسن النية، وهو أمر غير مضمون بالتأكيد. مع ذلك، فإن تجاهل مسألة الحكم بعد الحرب هو أسوأ خيار ممكن، ورغم عيوب خطة ترامب، إلا أنه يُمكن استخدام جوانب منها لإنهاء هذا الصراع. والأهم من ذلك، أن أي خطة لا تُراعي حقوق الإنسان والمخاوف الأمنية لكل الأطراف من غير المُرجح أن تنجح.
لتحقيق أكبر قدر من النجاح، ينبغي على البيت الأبيض تقسيم طموحاته إلى خطتين - إحداهما تركز على إنهاء الحرب، وإعادة الرهائن إلى ديارهم، وتحقيق الاستقرار في غزة، والثانية على إعادة الإعمار على المدى الطويل.. إن التفكير في التخطيط لما بعد الحرب أصبح الآن أكثر أهمية من أي وقت مضى، ويظل حاسمًا لضمان الأمن على المدى الطويل.
فعليا اثبت الرجل القاطن في البيت الابيض أن السياسة قد تكون "حصان طروادة"، لكن الاقتصاد ولغة المال والأعمال هي "عقب أخيل" القادرة على تجاوز التحديات. وإذا كان طموحه الفوز بجائزة نوبل للسلام، فإن خطته تمثل قفزة كبيرة نحو وقف القتال في غزة، تقربه من تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط انطلاقًا من الاتفاق الإبراهيمي. وفي النهاية، تفتح المنطقة أبوابها لمشهد جديد سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا.