هيرمس
    مصر
  • 29℃ القاهرة, مصر

رئيس مجلس الإدارة

طارق لطفى

رئيس التحرير

أحمد سليمان

الليلة الـ 83 من"فكر وذكر" البودشيشية: القيم الأخلاقية في التعليم أساس تحقيق التنمية

أكد د. منير القادري- رئيس مؤسسة الملتقى، مدير المركز الاورومتوسطي لدراسة الإسلام اليوم- اهمية التفكير في المنهجيات والآليات العملية التي من شأنها الحد من التدهور الأخلاقي الذي يشهده العالم اليوم في ظل الثورة التكنولوجية والعلمية غير المنضبطة بوازع أخلاقي، موضحا أن سمتها الغالبة تتمثل في كونها منظومة من القيم المادية الفاسدة غير الإنسانية التي تفرز انحطاطا أخلاقيا واجتماعيا غير مسبوقين.


جاء ذلك خلال مشاركته في النسخة 83 من ليالي الوصال الرقمية، التي تنظمها مشيخة الطريقة القادرية البودشيشية، ومؤسسة الملتقى، بشراكة مع مؤسسة الجمال، بمداخلة حول موضوع  ""القيم الأخلاقية في التعليم ودورها في التنمية".

أشار د.القادري الى أن أزمة القيم عالمية يعيشها الغرب الذي حاول مراجعتها بالبحوث والدراسات، ولم يفلح في تحقيق المأمول لاعتماده على المبادئ العلمانية التي تؤمن فقط بالعقلانية والمنفعة ولإبعاده القيم الدينية.

مضيفا: أن العالم الإسلامي يعيش هذه الازمة بحدة أقل، نظرا لعدم التزامه وتشبّثه بقيمه الإسلامية الصحيحة. وأنه "رغم حضور القيم في شتى أوجه الحياة في المجتمعات الإسلامية وحتى ضمن المناهج والبرامج التعليمية، فوجودها بدون اعتمادها أساسا للتربية كعدم وجودها، لأن كل إصلاح لا يجعل من الأخلاق منصة الانطلاق، ومحطة الوصول والانعتاق، هو في الحقيقة ليس بإصلاح لأنه لا يصلح إنسانا، ولا يؤسس بنيانا؛ دون الأخذ بالتربية الأخلاقية للإنسان وهي المعول عليها في كل بناء و كيان" .

وقدَّم د. القادرى نماذج على الإصلاحات في مجال التعليم على مستوى العالم، كالإصلاح الجذري الذي قامت به فنلندا بإلغاء تعدد المواد واستبدالها بالموضوعات المتكاملة التي تغطي جميع جوانب الحياة العملية والإنسانية، وتهدف إلى تحضير الطالب لسوق العمل، والتجربة اليابانية التي انطلقت 2018 بإلزام الطلاب بدراسة الأخلاق  لمواجهة تراجع دور الأخلاق والقيم في المدرسة والمجتمع الياباني، وفي هذا الخضم اورد مقولة للكاتب والمفكر الأمريكي وليام إيفانز  William Evans,1998)) : "في الغرب اعتقدنا أن العلم والتكنولوجيا يمكن أن تحل جميع مشكلات العالم عن طريق قوة المعرفة، لكن التربية الحديثة تجاهلت تطوير الإبداع البشري والقيم الروحية."

وبيَّن أن ضعف أثر التربية الأخلاقية على سلوك الأفراد في مجتمعاتنا، وتجلّيات الفصل بين ما هو تعليمي وما هو تربوي يتجلى في انتشار بعض الظواهر كالعنف المدرسي، تعاطي المخدرات والمتاجرة بها داخل وخارج المؤسسات التعليمية، الى جانب التفسخ الأخلاقي داخل وأمام أبواب هذه المؤسسات، موضحا أن التّغيير في المجتمعاتِ والأمم يسيرُ حسب سنّةٍ إلهية كونية لا تتبدّل مستشهدا بقوله تعالى في الآية 11 من سورة الرعد: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ).

وأبرز أن ميدانُ التربية والتعليمِ يعد من أهمِّ الميادين أثرا في تنشِئَةِ الأجيال الذين هم قاعِدةُ بناءِ المجتمعات والدّوَل، باعتبار المنظومات التربوية مسارا من مسارات التغيير المجتمعي الإيجابي والقاطرة الأمامية للتنمية المجتمعية الشاملة والمستدامة، موردا مقولة”د. فيلبس كومبس”Philip H. Coombs في كتابه “الأزمة التربوية العالمية” la crise mondiale de l'education : "إننا أمام أزمة تربوية كبيرة تتمثل في قصور المناهج الحالية وعجزها عن بناء منظومة تربوية مجتمعية أخلاقية".

اوضح ان التعليم اليوم عاجز عن تخريج الأجيال المؤهلة التي تمتلك المعرفة والوعي، وأنه لا يحقق التوازن بين قدرات المتعلم المادية ومتطلباته الأخلاقية والقيمية.

وتابع: أن التعليم المعاصر ينتج افرادا يشكلون خطرا حقيقيا على انفسهم وعلى الناس من حولهم، لانهم لا يعيرون أي اهتمام للجانب الأخلاقي، مبيّنا أن التربية بدون علم تخلف وانتكاس، والتعليم بدون التربية انحراف والتباس؛ وأكد ان الله تعالى جمع بينهما فجعل التربية أساس التعليم، مستدلا بقوله: {وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ‌وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ}، وقوله ايضا عن مهمة رسوله الكريم: {يَتۡلُواْ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِنَا وَيُزَكِّيكُمۡ ‌وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ ‌وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمۡ تَكُونُواْ تَعۡلَمُونَ}.

 وذكَّر القادري بقول الشاطبي: ”والشريعة كلها إنما هي تخلّق بمكارم الأخلاق، ولهذا قال الرسول: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، مستنتجا أن العلم غير المسدَّد بالتربية، وغير المستند إلى الأخلاق، مؤهل صاحبه لاستعماله في غير محلّه، وامكانية توظيفه في عكس ما يهدف إليه العلم نفسه، من تخريب وتدمير.

ودعا د. القادرى، الى العناية بمنظومة القيم وايلائها مرتبة الصدارة في العمل التربوي التعليمي في إطار صياغة مناهج التربية الإسلامية والأخلاقية، وذلك من خلال العمل على إعادة ترتيب منظومة القيم للأجيال القادمة في المجتمعات العربية والإسلامية على أسس أخلاقية إنسانية، والعمل على تثبيت مبدأ التربية باعتماد النموذج والقدوة الصالحة، مشددا على حاجتنا اليوم أكثر إلى نماذج في السلوك يَحْتَذِي بها المتعلم في ظل الفضاء الإعلامي المفتوح ووسائل الإتصال.

وأضاف: ان المعلِّم يستحق رتبة القدوة عندما يكون سلوكُه صورة لتطبيق مباشر ودائم لأفعال نموذج حي متصل السند إلى رسول الله، إضافة الى  العمل على ترسيخ مبدأ العلم النافع الذي يكسب الطلبة القيم والاتجاهات الإيجابية لتشكيل الإنسان الصالح في المجتمع.

وأوضح أن واقعُ الأمة يقتضِي تغذيةَ المناعةِ وتحصينَ الأجيال حذرًا من أخطار محدِقة بالعقيدة والفِكر والسلوك، داعيا القائمين على التربيةِ والتعليم إلى تقييمَ المسارِ التربويّ، مضيفا أن الإهمالُ في تقويم السلوك أعظمُ خطرًا وأشدُّ فتكًا من الإهمال في تقويمِ المعارف والعلوم؛ ذلك أنّ السلوكَ المنحرِف يتجاوز ضررُه الفردَ إلى المجتمع كلِّه، وأشار الى قول أمّ سفيان الثوريّ "يا بنيّ: خذ هذه عشرة دراهم، وتعلّم عشرةَ أحاديث، فإذا وجدتها تُغيِّر في جلستِك ومِشيتك وكلامك مع الناس فأقبِل عليه، وأنا أعينُك بمِغزلي هذا، وإلاّ فاتركه، فإني أخشَى أن يكونَ وبالاً عليك يومَ القيامة".

وشدَّد على ان التّربية التي تؤسَّس لقِيَم ومبادئ ومستقبل الأمّةٍ، لا يمكنها أن تستعيرَ مناهجَها التعليميّة من الأمّم الأخرى، وأن التقدم وإصلاح العباد؛ رهين بازدواجية حسن التربية وجودة التعليم؛ ووصفهما بـ"جناحي طير" لا يمكن الاستغناء عن أحدهما بالآخر، وقوله: "إنما تضيع الأمم بقلَّة التربية وسوء التعليم؛ فالتعليم وحده قد ينتج الفساد؛ لكن مع التربية يسمو بالعباد؛ فلا تكفي قلة التربية مع كثرة التعليم؛ فكيف بقلّة التربية وسوء التعليم؟ وهنا يظهر لنا جلي العلاقة والتكامل بين التعلّم كبابٍ من أبواب طلب العلم والمعرفة والحكمة وبين التربية على القيم الروحية والاحسانية ومكارم الأخلاق، كباب من أبواب طلب الكملات المحمدية".

وعزز د. القادري محاضرته بما ذهب إليه الباحث جنيفر جيدلي من جامعة سيدني Jennifer M. Gidley  at University of Technology Sydney في بحث قدمه تحت عنوان «تعليم للجميع أم تعليم للحكمة»، أكد فيه أن "ما يحتاج إليه العالم الآن هو نظم تعليمية متماسكة على مستوى كل من المدرسة والمجتمع، تساندها نظم معرفية اخلاقية، ترسي دعائم التشبع بروح الحوار والتسامح وقبول الآخر ونبذ العنف والكراهية والتعصب والصدام مع الآخر".

ونادى د. القادري بتضافر الجهود بين إدارة المدرسة، المدرس، الأسرة، مؤسسات المجتمع ومجالس التربية الصوفية، موضحا ان "التكامل في العمل يقودنا إلى التوافق، ويخلصنا من الأفكار غير السليمة، ويبعدنا عن السلوكات غير المقبولة، فنسلم من ثقافة الآخر التي لا تنسجم مع تربيتنا وثقافتنا، حينئذ نبني شخصية واضحة تخلو من التناقضات".

وأضاف: العلاقة بين القيم والتربية متبادلة ذات تأثير وتأثر. والتعليم يعتبر من أهم المهن التي تتطلب أسسا ومبادئ يعتمد عليها في وضع مناهجه وتأدية رسالته، وهو طريق التنمية في الحياة، لما له من المخرجات العلمية الفاعلة في جوانب شتى مما هو ضروري لدفع عجلة التنمية، مبينا أن الأخلاق عنوان صلاح الأمم والمجتمعات ومعيار فلاح الشعوب والأفراد.

وشدَّد على أن أي أمة ترغب في التقدم والنمو يجب ان تصب جهودها وخططها المستقبلية على تربية الإنسان. وبيَّن أن التربية على مكارم الأخلاق تستلزم مصاحبة الأخيار والصادقين، وأهل الأخلاق الفاضلة والتدرج في مسالك السالكين إلى حضرة رب العالمين، موضحا أن الشيخ المربّي الدال على الله، المتخلق بأخلاق رسول الله، هو القدوة، يأخذ عنه المريد الأخلاق عمليا، فتصبح سلوكا وحالا، وهذا هو أثر الأخوة الصادقة، والرفقة الحسنة، مستدلا بقوله تعالى في الآية 119 من سورة التوبة: "يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّٰدِقِينَ".

وسلَّط الضوء على تأكيد الطرق الصوفية منذ نشأتها، على ثمرات صحبة الشيخ العارف بالله في تهذيب النفوس، وأن التصوف مدرسة تسعى إلى تقديم رؤية شمولية للتربية المتكاملة تعتمد التربية على القيم الروحية والاخلاقية أساسا لبناء شخصية الإنسان المتكامل جسدياً وعقلياً وروحيا انفعالياً ووجدانياً، وجعله شخصا مبدعاً ومتكاملاً في استثمار ما اكتسبه من علم ومعرفة لخيره ولخير المجتمع.

موضحا ان الصالح العام لبلادنا ومستقبل الأمة الإسلامية والبشرية جمعاء، يقتضي أن تتضافر جهود جميع الفاعلين من طرق الصوفية ومؤسسات عمومية ومعاهد وجامعات وخبراء  من أجل هدف واحد هو إعداد جيل قادر على رفع تحديات المستقبل.

وختم د. القادري مداخلته بالتأكيد على اهمية المبادرات والورشات الكبرى الرامية إلى بلورة النموذج التنموي الجديد الذي يهدف إلى تحديث المنظومة التعليمية والتربوية وتعزيز المشاركة الفاعلة والرؤية التشاركية بين كافة الفاعلين في هذا القطاع إلى جانب الشباب، وضمان إدماجهم ومشاركتهم الفاعلة في المشروع التنموي الجديد بطموح مشترك من أجل مستقبل مزدهر ومنفتح.





تابع بوابة الجمهورية اون لاين علي

تابع بوابة الجمهورية اون لاين علي جوجل نيوز جوجل نيوز

يمكنك مشاركة الخبر علي صفحات التواصل

اترك تعليق