رواية الإعتقاد هي أحدث إصدارات الكاتب السكندري الروائي أحمد أمين عضو اتحاد كتاب مصر بعد إصداراته الروائية الثلاث ( الأحق بالجنة )و (غسيل وسخ ) و ( ايام عائشة )
قال أحمد أمين فـ الفصل العاشر من روايته الإعتقاد .. سكتت الأرض ، غشيها صمت سرمدى ، لم يعد يسمع عليها إلا تلك الأنفاس العميقة المتعالية الصادرة من المتحابين . فى الغرفة المظلمة يشعل " جيجو " سيجارة يدخنها و هو مازال على السرير بجوارها ، يتصاعد الدخان فيعبق المشهد برائحة التبغ المحترق الممتزج برائحة عرق أجساد أنهكتها المعركة .
تقف " إيفلين " أمام نافذة غرفتها لتنتظر مجيئ " جيجو " من بعد إنتهائه من العمل ، يتكرر ما تراه فى كل ليلة . صديقته توصله بسيارتها . يبقيا معا حتى ينتهيا من تناول تلك السجارة الملفوفة ، يفتح باب السيارة ليقزف عقب السجارة ثم يغلقه ، و عندما يهم بالرحيل يودعها بقبلة طويلة ساخنة . تشعر الفتاة بالغيرة ، بوجع لا يداويه إلا مجيئه لحجرتها ليلقى بجسده جوارها . تنصاع لرغباته ، تهم لمحادثته عن علاقته بتلك الفتاة ، فتتراجع خشية أن تفقده . تتذكر ما قالته له " الحب هو أكثر مشاعرنا الغير مفهومة ، لأنه الإحساس الوحيد الذى لا يوجد ما يدعوا إليه أو يوجد ما يبرره . " و تتذكر ما قاله لها " الحب هو الشعور الذى يأبى إلا أن تستمتع به كافة جوارحنا
فى يوم عطلته يدعوها" جيجو " للسهر خارج المنزل ، تأتى فتاته بسيارتها ، يفتح الفتى ل" إيفلين " باب السيارة الخلفى ليجلسها و يجلس هو بجوار صديقته ، يصافحها ، ثم يقوم بتعريف كلا منهما إلى الأخرى . الفتاة التى إعتاد " جيجو " أن يعود من عمله بسيارتها تدعى " باترشا " . فتاة ذات بشرة برونزية و قامة متوسطة ، ترتدى سترة نحاسية اللون لامعة عارية الصدر و الأكتاف و بنطال أسود واسع من الشيفون المزركش . تتطلعها جيدا ، تتأمل شعرها الطويل المائل للحمرة ، و عيناها السوداوتان الغائرتان بأهدابهما الطويلة المهذبة ، و أنفها الرقيق المنحوت بعناية ، و شفتيها المكتنزتين المتلونتين بلون زهور " الجلاديليوس " الوردية . فيعتريها الإحباط و خيبة الأمل .
فى مشهد ألفته ، يميل " جيجو " بجزعه ناحية " باترشا " ، يضع يده اليسرى خلف مقعدها ، يقترب كلا منهما نحو الأخر ، فيقبلها هذه المرة على غير عادته قبلة سريعة خاطفة . تحاول " إيفلين " أن تتصطنع عدم الإكتراث لكنها تعجز عن التحكم فى أدائها الإنفعالى . تجاهد لتفهم سر غرام " جيجو " لها و فى نفس الوقت ل " باتريشا " . تتقمص شخصية عالم نفس لتغوص فى أعماقه . فتفشل كل أطاريحها التى وضعتها لتحليل مسلكه . تقتنع أن الكون بذاته من الممكن أن ينهار إذا تخاصم يوما مع مشاعرنا . و طالما إنها لم تتواجد لتمتلك أى من أسرار الحياة ، ف " جيجو " أيضا لم يتواجد ليمتلكه أحد .
تدير " باترشا " محرك السيارة ، تنطلق بهما بتهور ، تضغط على مفتاح المسجل فتصدر منه موسيقى صاخبة ، بصوت أجش يغنى المطرب ، يحاولون بصوت أعلى أن يرددوا خلفه كلمات الأغنية ، أصواتهم العالية تتبدد وسط ضوضاء عالم لم يعد قادر على الإستماع .
فى الطريق تقف السيارة فيركب بجوارها صديق أخر . شاب أشقر فى منتصف العشرينات يقدمه لها " جيجو " بإسم " ألكسندر " .
تتفحصه " إيفلين " بحذر . تراه شاب مديد القامة ، طويل الوجه و أحمر البشرة . بين الحين و الأخر يتساقط شعره الناعم على جبهته فتتوارى عينان بلون الزرقة التى تتلون بها السماء عند صفاءها . يرتدى بنطلون جينز ضيق و قميص أبيض رفعت أكمامه بعناية لتظهر ساعدين ربما كانتا ذات يوم لهركليز الذى إختبرته الألهة إثنى عشر إختبار و نجح فى إجتيازها .
سهرة لم تعتاد " إيفلين " التى قضت سنوات طويلة من عمرها وسط الراهبات فى الملجاء على مثلها . رقص و خمر و غناء و مجون ، و شباب رافض لكل شىء إلا أن يستمتع بتلك اللحظة من حياته . لو كانت مازالت فى الدير لإعتبرت فيما تفعله الأن خطيئة لا تغتفر . و لكنها لا ترى الأن فيما تفعله شىء أخر خلاف كونه حرية .
" تعتقد أن ...... الإنسان هو المخلوق الوحيد القادر ببراعة على أن يدافع عن الشىء و بذات البراعة يدافع عن نقيضه ، حتى و إن كان ذلك النقيض ضد قناعاته طالما توافق مع مصالحه . "
لم يضايق " جيجو " أن يرى " ألكسندر " يقبلها و هو يرقص معها . إعتقدت فى البداية أنها ربما لا تعنى له شىء ، بأن قلبه قد إستحوزت عليه فتاته الأخرى . لكنها عجزت عن فهم الأشياء كلها حينما رأيت " جيجو " لا يتحرك له ساكنا و هو يشاهد الفتاة و صديقه فى إحدى الغرف يتبادلان سويا صنوف الغرام .
يتقدم إليها " جيجو " بعدما خلع قميصه و بدى بصدر عارى ، يتمايل و هو ثمل من أثر السكر ممسكا فى إحدى يديه زجاجة خمر شبه فارغة و فى اليد الأخرى كأس ممتلىء يقدمه لها ، تأخذ الكأس من يده و تتناول منه رشفة واحدة . يلقى " جيجو " ما تبقى فى الزجاجة من خمر فى جوفه دفعة واحدة . تتابعه و هو يترنح بين رفاق من فاقدى الوعى . يجلس على الأرض ملقيا بجسده أسفل أريكة يجلس عليها بعض المغيبين ، يستند بظهره على أرجل لم تعد قادرة على حمل أجساد ذهب أصحابها إلى عوالم أخرى . ينكب برأسه على منضدة ترتفع قليلا على سطح الأرض ، فتكاد تصطدم بها ، يرفعها بصعوبة . يخط بقطعة معدنية رفيعة مستطيلة الشكل مخدر " الكوكايين " بعد فرده على رقعة صغيرة منها ، فتتسع فتحتى أنفه لتجاوب بشكل مختلف على أسئلة وجودية لم يعد كثيرون مقتنعون فى قرارة أنفسهم بكل الأجوبة التى طرحت لها .
بعد إنتهاء لقاء حميمى ، يلقى كلا منهما بجسده على سرير سيشهد لو الأشياء تمكنت أن تكلم أنها أحبته أكثر من نفسها . تمتد يد " جيجو " ناحية ملابسه المتناثرة على الأرض فيخرح من أحد جيوب معطفه علبة سجائر ، يخرج منها سيجارة منتفخة ، يشعلها ، تفوح رائحة " الحشيش " فتداعب حاسة الشم لديها ، بأنامل رشيقة تسحب السيجارة من فمه و تضعها بفيها ، يروق لها تدخينها . تنظر إلى وجهه ، تتفحصه بحنان أم تتأمل أحب أبنائها إليها . تنفخ عليه برفق أدخنة حبستها قدر إستطاعتها فى صدرها لتلامس قلبها قبل أن تلامسه . يبتسم " جيجو " السارح فى النظر إلى سقف الغرفة . تداعب " إيفلين " شعر صدره بأصابع يدها ، يرمقها بعيون زابلة مسترخية ثم يتحدث إليها و قد عاود يتابع تأمله ناحية السقف .
" جيجو " :
ــ دائما ما يحتوينا حيز ما , مكان ، زمن ، جسد , إمكانيات ، إعتقاد .
" إيفلين " بفتور :
ــ هكذا هى الحياة .
" جيجو " بنبرة المتهكم :
ــ حياة قاسية .
" إيفلين " و قد ألقت برأسها على صدره :
ــ لكنها رائعة بجوارك .
" جيجو " بإهتمام :
ــ الحياة الرائعة هى حياة الأثرياء لا حياتنا .
" إيفلين " :
ــ تريد أن تكون ثريا !
" جيجو " و قد تحول بجسده ناحيتها :
ــ ألا تريدين أنت أيضا .
" إيفلين " :
ــ بلى .
" جيجو " و قد تحول حديثه ليبدوا أكثر جدية :
ــ هناك مجانين يريدون أن يدفعوا لنا ثروة مقابل أن تصبحى راهبة .
" إيفلين " :
ــ و لماذا أنا تحديدا !
" جيجو " مسترسلا :
ــ خدمة ستسدينها إليهم ، ثم إنك لست غريبة على ذلك المجتمع و ذلك سيسهل من مهمتك .
" إيفلين " و قد قتلها الفضول :
ــ و أى خدمة تلك ؟
" جيجو "
ــ لا أعلم ، ربما ستسرقين شىء .
" إيفلين " بدهشة :
ــ أى شىء ؟
" جيجو " بصدق :
ــ لا أعرف ، المطلوب الأن هو موافقتك ، كل ما أعرفه أنك ستكونين راهبة بمجرد قبولك العرض و أن كل شىء سيكون ساعتها وافيا .
اترك تعليق