دعا أقطاب الصوفية إلى التفاؤل والأمل فى الغد المشرق والحياة التى ملؤها السعادة والهناء، لأن ديننا الحنيف ليس دين تجهّم أو عبوس وإنما هو دين تفاؤل وسعادة وأمل
لكل أتباعه ومريديه، مشيرين إلى أن الصوفية خير من يبثون هذا الأمل والتفاؤل فى نفوس أتباعهم ومريديهم، ومنهجهم "تفاءلوا بالخير تجدوه".
جاء ذلك خلال فعاليات ليالي الوصال الرقمية 53 التى تنظمها مشيخة الطريقة القادرية البودشيشة، ومؤسسة الملتقى، بالتعاون مع مؤسسة الجمال، والتي بثت عبر المنصات الرقمية الرسمية لمؤسسة الملتقى.
توزّع برنامج هذا السمر العلمي والروحي بين المداخلات العلمية والوصلات الإنشادية، وشهادات حيّة لمريدي الطريقة من خارج المغرب، الذين أبرزوا من خلالها الأثر الايجابي للطريقة على حياتهم وتربيتهم، من بينها شهادة لقمان شايب- طبيب جراح من ستراتبورغ فرنسا- وأرموندو مونتويا جوردان- من دولة البيرو، طبيب أسنان ومختص في علم الأنثربولوجيا- وافتتحت بآيات بيّنات من الذكر الحكيم بصوت المقرئ علي السباعي من الولايات المتحدة الأمريكية، ليفسح المجال أمام أولى المداخلات العلمية، التي خصّصها د. عبدالرزاق التورابي- أستاذ التعليم العالي بجامعة محمد الخامس بالرباط- لعرض مختارات من كلام شيخ الطريقة مولاي د. جمال الدين، والتي تمحورت حول مجاهدة النفس لتحصيل التقوى من خلال العبارة الشهيرة التي يرددها شيخ الطريقة "جاهد تشاهد"، مبيّنا أن السلاح الأقوى لجهاد النفس هو الذكر الكثير المتواصل غير المنقطع، وأن هذه المجاهدة تورث المشاهدة لتجلّيات الحق سبحانه وتعالى، مذكّرا بقول أحد العلماء: "من لا مجاهدة له لا مشاهدة له".
أما المداخلة العلمية الثانية فكانت للدكتورة أسماء المصمودي- باحثة بالرابطة المحمدية للعلماء- حول موضوع: "مقوّمات الصحبة وشروط سلامتها في السلوك الروحي"، انطلاقا من نموذج صحابة رسول الله، الذين لم يكونوا لينالوا تلك المراتب السامية لولا صحبتهم لرسول الله واقتدائهم به، مستعرضة الشروط التي يجب أن تتحقق في الشيخ المربّي الدال على الله.
الفرح بالله
فيما كانت المداخلة العلمية الثالثة حيث قدم د. منير القادري- رئيس مؤسسة الملتقى ومدير المركز الأورومتوسطي لدراسة الإسلام اليوم- مداخلة حول موضوع "الفرح بالله وتجلّيّاته على المؤمنين في الدنيا والآخرة"، استهلها بتعريف الفرح، مبيّنا مصدره اللغوي من فرح يفرح الذي يدل على خلاف الحزن، واصطلاحا بأنه انفتاح القلب بما يتلذّذ به، وأن الفرح بالله هو أسمى أنواع نعيم القلوب وسرورها وهو عبادة قلبية عظيمة غفل عنها كثير من الناس، فيها شفاء الأرواح من آفاتها ودواء القلوب من أحزانها وبلسم النفوس من همومها وآلامها، تنشّط الجسد وتقوّيه وتخلّصه من آفات الملل والفتور، موردا مقولة ابن القيم: "والفرح بالدنو منه والزلفى لديه إلا على جسر من الذل والمسكنة وعلى هذا قام أمر المحبّة فلا سبيل إلى الوصول إلى المحبوب إلا بذلك".
وأبرز أن الفرح بالله هو سلوان المؤمنين في معترك الحياة وانشراح صدور العارفين وأحلى لذّات نفوس الصالحين، مشيرا إلى أن مقامه من أعلى المقامات التي يحبّها الله سبحانه، وأن "العبد متى أيقن أن له ربًّا وإلها ومدبّرا ورازقا وملكا قاهرا بيده كل شئ ولا يعجزه شئ اطمأنت نفسه واكتمل سروره وحبوره".
ونبّه إلى "أن من فتن الدنيا أن تجد أكثر الناس غافلون ولاهثون خلف أفراحها وملذّاتها منكرون لهذا الفرح الرباني، الذي يتمثّل في الفرح بالله وبرسول الله صلى الله عليه وسلم وبشريعته وبالقرآن، والصلاة والصيام والصدقة، فرح بأعمال الخير كلها"، مستشهدا بقوله تعالى في سورة الرعد (والذين آمنوا آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك) وقوله كذلك "يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربّكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين".
وشدد على أن الفرح الحقيقي هو أن نلقى الله تعالى ورسوله ونحن ننعم برضاهما، موردا قول الله تعالى في سورة يونس آية 58: "قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ"، مبيّنا أن "فضل الله هنا هو دينه الذي ارتضى لنا: الإسلام، ورحمتُه هي كتابه المبين: القرآن العظيم، وهذا قول جُمهورُ العلماء والمُفسِّرين.
وتابع د. القادري: حين يوقن المؤمن أن الله معه ينظُرُ إليه، ويسمَعُ كلامَه، ويُعينُه ويُؤيِّدُه، يصير سمعَه الذي يسمَعُ به، وبصَرَه الذي يُبصِرُ به، ويدَه التي يبطِشُ بها. فما أسعَدَ عيشَ هذا المُؤمن، وما أطيَبَ حياتَه، وما أقوَاه وأحرَاه بالنَّصر والتأييد ولو كادَتْه السماواتُ والأرضين ومَن فيهنَّ، وأن فرح المؤمن يكون حين يتواضع للناس صدقا لا تصنعا ولا تكلّفا ويرحمهم ويحسن إليهم ويسعى في حوائجهم ويعينهم على نوائب الدهر، وأن المؤمنة تفرح بحيائها وحشمتها وطاعتها لزوجها وتربيتها لأبنائها أحسن تربية، وأدائها لرسالتها الحقيقية في الحياة التي شرفها تعالى الله تعالى بها وهي كونها مدرّسة الأجيال ومربّية الرجال وصانعة القدوات، مذكّرا بقول الشاعر أحمد شوقى: "الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق".
ونوّه إلى أن المؤمن يفرح بنصر الله، مستدلا بقوله تعالى في سورة الروم (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) (4)، موضحا أن "المؤمنون الصالحون لهم أفراح لا تشبه أفراح التائهين الحائرين الهالكين في أودية الدنيا"، وأن "أفراحهم متّصلة بالله سبحانه وتعالى وبكل ما يرضي الله"، وقدّم أمثلة من حياة الصحابة رضي الله عنهم، كفرح أبي بكر رضي الله عنه بصحبة النبي في الهجرة وبكائه من شدة الفرح، وفرح كعب بن مالك رضي الله عنه الذي خرَّ ساجدا لله من شدة الفرح لما بشّروه بتوبة الله عليه، موردا قول رسول الله ووجهه يبرق بالفرح والسرور لهذا الصحابي: "أبشر بخير يوم يمر عليك منذ ولدتك أُمك".
وتطرّق د. القادري إلى بعض الأسباب التي تحقق الفرح بالله تعالى، ذكر منها الاستسلام لله تعالى، وحُسن الظن به وترك التدبير معه، موردا ما كتبه ابن عطاء الله السكندري لبعض إخوانه قائلا "وبعد فلا أرى شيئا أنفع لك من أمور أربعة: الاستسلام إلى الله تعالى والتضرّع إليه وحُسن الظن به وتجديد التوبة إليه ولو عدت إلى الذنب في اليوم سبعين مرة".
وأضاف: أن التدبير مع الله تعالى يعد من كبائر القلوب مستشهدا بقوله عزّ وجلّ: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ).
وأكد أن الإسلام هو الحنيفية السمحة، وأنه دين الأفراح والسرور، وأن الإسلام لم يدع إلى رهبانية قط ولا إلى ضيق ولا إلى حزن، ودعا إلى توقّع الخير منه سبحانه وتعالى والرضا بما قسم والتفاؤل والاستبشار وعدم اليأس، وأن من فرح بالله لم يجزع لمصيبة ولم يخضع لمخلوق ولم ينهزم لأول عارض. و أن الفرح بالله من أعلى منازل الإيمان وأبواب الإحسان لأنه ثمرة التربية الإيمانية على المحبّة والرضى واليقين والصبر وحسن الظن بالله، موردا الأثر المرفوع عن ابن مسعود رضي الله عنه "إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله وأن تحمدهم على رزق الله وأن تذمّهم على ما لم يؤتك الله وأن رزق الله لا يسوقه إليك حرص حريص ولا يردّه عنك كراهية كاره وأن الله بقسطه وعدله جعل الروح والفرح في الرضى واليقين وجعل الهم والحزن في الشك والسخط".
ودعا إلى تقاسم الفرح مع خلق الله كالأيتام والسائل والمحروم مستدلا بقول رسول الله "إن في الجنة دارا يقال لها دار الفرح لا يدخلها إلا من فرّح يتامى المؤمنين"، مؤكدا أن الفرح بالله يولّد لدى المؤمنين الرغبة في أن يتقاسموا الفرح مع كل المحرومين والمشرّدين والبائسين. وأن الصوفية قدّموا "النموذج الأمثل في الفرد الصالح والمصلح الذي يكون له الأثر الإيجابي على مجتمعه، فهو المحسن الصانع للتفاؤل والأمل والباعث للفرح بالله ونعمه في نفوس من حوله"، كما بيّن أن الطريقة القادرية البودشيشية "تعي أن إصلاح النفوس مرتبط ارتباطا وثيقا بالتربية على القيم الروحية التي تساهم بأن يصبح المسلم، ذلك الإنسان السبّاق، النافع محب الخير لخلق الله، ناشر للخير والفضيلة في محيطه، حامل لقيم الأخلاق الإنسانية السامية، يسهم ويساهم في نهضة وطنه وازدهاره والذود عن حماه".
وكانت المداخلة العلمية الرابعة للدكتور محمد بحطاط- أستاذ جامعي مختصص في الفيزياء بجامعة سانت إيتيان بفرنسا- خصصها للكلام عن مفهوم التوجّه في طريق التصوّف من خلال استعراض دلالات الكلمة في القرآن الكريم والسنّة النبوية، وارتباطاتها الاشتقاقاتية، وأكد على أن التوجّه من أهم المفاهيم داخل الطريقة القادرية البودشيشية، محددا إياه في قول شيخ الطريقة الدكتور جمال الدين:"التوجه يساوي المحبّة".
أما المداخلة العلمية الخامسة فتناول فيها "د. بلقاسم الجطاري" بالتحليل موضوع "مقترحات المسلمين لتجاوز أدواء العصر"، مبرزا قيمة هذه المقترحات وأثرها في السلامة من انعكاسات الأدواء والأزمات.
وباللغة الإنجليزية تناول "د. إدريس شاريي" قيم الرحمة واللطف في أقوال وأحوال الصوفية.
وتخللت هذه المداخلات وصلات من السماع والمديح لكل من المجموعة الرسمية للطريقة القادرية البودشيشية، ومجموعات الطريقة بكل من مدن الجديدة وتيزنيت وكلميم، ودولة ليبيا الشقيقة، ومشاركة فردية للمنشد مراد العطواني من برشلونة باسبانيا، بالإضافة لمجموعة برعومات الطريقة بمداغ.
وتم ختم أطوار هذا السمر الروحي بفقرة من كلام القوم خصصها إبراهيم بلمقدم- باحث ومؤطر بمركز أجيال للمواكبة والوقاية والتمنيع بالناظور، التابع للرابطة المحمدية للعلماء- للحديث عن مختارات من كلام الشيخ مولاي عبدالسلام بن مشيش.
اترك تعليق