كان الإمام البخاري رحمه الله تعالي ذا ذاكرة حافظة وذكاء متَّقد. وقد بدأ في طلب العلم والحديث النبوي وهو في سنّ صغيرة.
وتوضح كتب السيرة. منها فتح الباري: للإمام ابن حجر. وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي. أن الإمام ألف كتابه الجامع الصحيح المعروف بـصحيح البخاري بعد جلسة اجتمع فيها مع إسحاق بن راهويه رضي الله عنه. وقد ذكر هذه القصة الإمام البخاري بنفسه حيث قال: كنا عند إسحاق بن راهويه فقال لو جمعتم كتابًا مختصرًا لصحيح سنة رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم. قال: فوقع ذلك في قلبي. فأخذتُ في جمع الجامع الصحيح. وعن محمد بن سليمان بن فارس قال: سمعت البخاري يقول: رأيت النبي صلي الله عليه وآله وسلم وكأنني واقف بين يديه وبيدي مروحة أذُبُّ بها عنه. فسألت بعض المعبِّرين فقال لي: أنت تذب عنه الكذب. فهو الذي حملني علي إخراج الجامع الصحيح.
وللإمام البخاري قصة شهيرة تثبت مدي قوة حفظه وذكائه الشديد. حيث تحدَّاه عدد من أهل بغداد. وقلَّبوا عددًا من متون الأحاديث وأسانيدها. وسألوه فيها. وقد كان عددها مائةَ حديث. جعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر. وإسناد هذا المتن لمتن آخر. ودفعوا إلي عشرةِ أشخاص. إلي كل رجلي عشرة أحاديث. وأمروهم إذا حضروا المجلس أن يلقوا ذلك علي البخاري. وأخذوا الموعد للمجلس. فحضر المجلس جماعة أصحاب الحديث من الغرباء من أهل خراسان وغيرها ومن البغداديين. فلما اطمأنَّ المجلسُ بأهله انتدب إليه رجل من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث. فقال البخاري: لا أعرفه. فسأله عن آخر. فقال: لا أعرفه. فما زال يُلقي عليه واحدًا بعد واحد حتي فرغ من عشرته. والبخاري يقول: لا أعرفه.
فكان الفهماء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلي بعض ويقولون: الرجل فهم. ومن كان منهم غير ذلك يقضي علي البخاري بالعجز والتقصير وقلة الفهم.
ثم انتُدب رجل آخر من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة. فقال البخاري: لا أعرفه. فسأله عن آخر فقال: لا أعرفه. فسأله عن آخر فقال: لا أعرفه. فلم يزل يُلقي عليه واحدًا بعد آخر حتي فرغ من عشرته. والبخاري يقول: لا أعرفه.
ثم انتُدب إليه الثالث والرابع إلي تمام العشرة حتي فرغوا كلهم من الأحاديث المقلوبة. والبخاري لا يزيدهم علي: لا أعرفه.
فلما علم البخاري أنهم قد فرغوا التفت إلي الأول منهم. فقال: أما حديثك الأول فهو كذا. وحديثك الثاني فهو كذا. والثالث والرابع علي الولاء حتي أتي علي تمام العشرة. فردَّ كل متن إلي إسناده. وكل اسناد إلي متنه. وفعل بالآخرين مثل ذلك. ورد متون الأحاديث كلها إلي أسانيدها. وأسانيدها إلي متونها. فأقرَّ له الناس بالحفظ وأذعنوا له بالفضل.
اترك تعليق