ثمة ما هو أشد من ظلم الناس، وأفدح من خيبة الحياة، وأثقل من رحيل الأحبة: أن يجهل المرء نفسه. أن يعيش طويلاً في زحام الأصوات والوجوه، ثم يكتشف أنه لم يجلس يومًا مع ذاته، ولم ينظر إليها إلا من خلال عيون الآخرين.
الناس تهرب. تهرب من الألم، من العجز، من الذكرى، من الحقيقة، لكنها حين تهرب من ذاتها، ترتكب أقسى أنواع الخيانة. ذاك أن النفس، حين تُهمل، لا تموت، بل تتحوّل إلى ظلٍ باهتٍ يطارد صاحبه، يظهر له في لحظات الوحدة، في سكون الليل، في سطرٍ يقرأه، أو وجهٍ يشبهه في المرآة.
لماذا نُكثر من مراقبة الآخرين ونهرب من النظر إلى أنفسنا؟ لأن الداخل موحش. لأن المواجهة تكشف المستور، وتخلع الأقنعة، وتفضح هشاشة ما نظنه صلابة. النفس لا تكذب، ولا تُجامل، ولا تُخدع بالمظاهر. هي تعرف كم مرة خُذلنا وصمتنا، وكم مرة خنّا ما آمنا به، وكم مرة لبسنا وجهًا ليس لنا لننال رضا من لا يستحق.
في زمن الشاشات الساطعة، والموسيقى التي لا تتوقف، والثرثرة اللا متناهية، صار الهروب من الذات صناعة. صار لكل إنسان قناع، ولكل قناع ساحة. لم نعد نبحث عن الصدق، بل عن طريقة لنتفادى به مواجهة أنفسنا. ننجو بالانشغال، وننجرف في الضجيج، حتى لا نسمع صدى أرواحنا وهي تصرخ من الإهمال.
لكن الذين خُلّدوا، ما خُلّدوا بكثرة الكلام، بل بقلة التزييف.
أعظم الخلق سيدنا محمد ﷺ حين آوى إلى غار غار حراء، لم يهرب من قريش، بل ذهب ليُنصت لما خفت صوته في زحام القوم، فخرج من الغار بنورٍ غيّر العالم
سقراط، حين قبِل الموت على التنازل عن الحق، لم يكن بطلًا مسرحيًا، بل روحًا واجهت نفسها فانتصرَت لها.. ومالك بن نبي، في عزلته الفكرية، لم يكن نكرة، بل روحًا سامقة تجاهلتها الأمة ثم عادت تُبجّله بعد موته.
الخوف من النفس ليس جبنًا فحسب، بل ضياع الطريق. إذ كيف يسير المرء دون بوصلة، ودون أن يعرف من هو، وما الذي يريده، وما الذي يخشاه؟ نحن نُحاسب في قبورنا لا بما رآه الناس، بل بما علمته نفوسنا عنّا. والنجاة، في حقيقتها، ليست من ظلم الآخرين، بل من ظلم الذات.
ولذلك، فإن أكثر الوجوه التي تراها منمّقة قد تكون أشدها تمزقًا من الداخل. لأن من يُكثر من تزيين مظهره، قد يفعل ذلك ليُخفي خرابًا في أعماقه. ومن يُغرق نفسه في مدح الناس، قد يكون فارغًا من المعنى.
الهاربون من أنفسهم قد يحققون نجاحًا، وقد يحصدون التصفيق، لكنهم ينامون على وسائد من الشوك ، وسائد مثقلة بالأسئلة التي لم يجرؤوا على طرحها. أما الذين واجهوا أنفسهم، فربما عاشوا وحدهم، وربما عارضهم الجميع، لكنهم حين يغلقون أبواب الليل، يشعرون بالطمأنينة، لأنهم لم يخونوا الروح التي بين جنبيهم.
الصمت الصادق مع النفس أصعب من ألف حوار مع الناس. لكنه وحده الكفيل بأن يُعيد الإنسان إلى طريقه. فالخلاص، لا في العزلة، ولا في التصوف، ولا في التمرد، بل في أن تعرف من أنت، وتصدق مع نفسك، وتنقذها من كذبك عليها.
فاللهم لا تجعلنا من الهاربين من أنفسهم، بل من العارفين بك، المستظلين بنورك، الصادقين مع ذواتهم، حتى إذا حان الرحيل، رحلوا وفي صدورهم سلام، لا رياء فيه، ولا خديعة.