العالم اليوم يقف على مفترق طرق، وفي كل الاتجاهات يبدو أن الطاقة المتجددة أصبحت هي الخيار الوحيد القادر على حماية المستقبل. لم تعد الطاقة النظيفة مجرد فكرة مثالية يتحدث عنها الخبراء، بل تحولت إلى واقع اقتصادي وسياسي يفرض نفسه على جميع الدول، الكبيرة منها والصغيرة. وفي هذا السياق، يبرز سؤال جوهري: هل يمكن لأي دولة أن تتأخر في هذا السباق دون أن تدفع ثمنًا باهظًا في السنوات القادمة؟ الواقع يقول لا.
لقد تغيّر مفهوم الطاقة عالميًا. لم يعد النفط والغاز هما اللاعبين الوحيدين، ولم تعد الدول تتعامل مع الكهرباء باعتبارها خدمة فقط، بل أصبحت جزءًا من أمنها القومي وقدرتها على النمو والاستثمار. ولعل أهم ما يميّز المرحلة الحالية هو أن التحول للطاقة المتجددة لم يعد مدفوعًا فقط بالاعتبارات البيئية، بل لأنه ببساطة أصبح أرخص وأكثر استقرارًا على المدى الطويل. التكنولوجيا تطورت، والتكلفة انخفضت، والدول أدركت أن الطاقة الشمسية والرياح والهيدروجين الأخضر هي وقود القرن الحادي والعشرين.
وفي وسط هذه التحولات، تظهر مصر كواحدة من الدول التي تمتلك فرصة حقيقية لتكون لاعبًا إقليميًا بارزًا في سوق الطاقة النظيفة. فالعوامل الطبيعية وحدها تمنح مصر ميزة لا تُشترى: شمس ساطعة معظم أيام السنة، ومساحات واسعة تصلح للرياح، وموقع جغرافي يجعلها على مسار التجارة العالمية. لكن الأهم من الظروف الطبيعية هو الإرادة التي بدأت بالفعل في تحويل هذه الإمكانات إلى مشروعات حقيقية على الأرض.
فهناك مشروعات ضخمة للطاقة الشمسية فى اسوان تعد مثالًا واضحًا على ما يمكن أن تفعله مصر التى تعمل الان بقوة التخطيط والطموح. هذا المشروع لم يعد مجرد محطة كهرباء، بل تحول إلى مركز عالمي للطاقة الشمسية يستقطب شركات أجنبية ويوفر فرص عمل حقيقية لأبناء أسوان. المشهد هناك يعكس ببساطة صورة مصر الجديدة: دولة تستثمر في المستقبل، لا في الماضي. والمثير أن التجربة شجعت الكثير من الشباب على التفكير في العمل بمجال الطاقة كقطاع اقتصادي واعد، وليس كمجرد قطاع خدمات حكومية.
وفي المقابل، تبدو مزارع الرياح في جبل الزيت قصة أخرى تحمل نفس الرسالة. عشرات التوربينات التي تدور بلا توقف ليست مجرد آلات، بل إعلان متجدد بأن مصر يمكنها إنتاج طاقة نظيفة على نطاق واسع. هذه المشروعات ليست فقط لتوليد الكهرباء، بل لبناء ثقة بين الدولة والمستثمرين، ولتأسيس قاعدة صناعية جديدة يمكن أن تتحول إلى مصدر تصدير للدول المحيطة.
ومن أكثر الملفات التي تستحق التوقف أمامها هو دخول مصر إلى مجال الهيدروجين الأخضر. هذا القطاع تحديدًا هو ما سيحدد مستقبل الطاقة العالمي خلال العقود القادمة. الدول الأوروبية تبحث عن شركاء لتصدير هذا النوع من الوقود النظيف، ومصر تمتلك كل مقومات الدخول في هذا السوق: طاقة شمسية ضخمة، رياح، موانئ، وشبكة كهرباء تتطور بسرعة. دخول مصر هذا المجال ليس ترفًا، بل خطوة استراتيجية تفتح الباب أمام صناعة ضخمة قد تغيّر شكل الاقتصاد المصري بالكامل.
ورغم كل هذه الخطوات الإيجابية، يبقى الطريق طويلًا. فالطاقة المتجددة تحتاج إلى تطوير مستمر للشبكات، وإلى تدريب العمالة، وإلى تشجيع أكبر للاستثمارات الخاصة. كما أن التحول الحقيقي يحتاج إلى أن تصبح الطاقة النظيفة جزءًا من ثقافة المجتمع، وليست مجرد مشروعات حكومية. فالمواطن البسيط يجب أن يشعر بأن الطاقة الشمسية يمكن أن توفر له فاتورة كهرباء أقل، وأن مستقبل أبنائه مرتبط بقطاع يفتح آلاف الوظائف الجديدة.
الحقيقة التي لا يمكن إنكارها أن العالم لن يعود إلى الوراء. عصر الطاقة التقليدية يقترب من نهايته، ليس لأن أحدًا يريد ذلك، بل لأن الاقتصاد نفسه أصبح ينتج قانونه الجديد. والدول التي لا تلحق بهذا التحول ستجد نفسها خارج اللعبة. أما الدول التي تستثمر بجدية اليوم، فستكون هي المستفيدة اقتصاديًا وسياسيًا خلال العشرين سنة القادمة.
مصر تقف الآن أمام فرصة تاريخية. وربما للمرة الأولى منذ عقود، نجد قطاعًا قادرًا على أن يحقق تنمية حقيقية ومضمونة ومستقبلية قطاع مرتبط بالعلم، يجذب المستثمرين، ويوفر وظائف، ويضع اسم مصر على خريطة العالم المستقبلية فى مجال. الطاقة المتجددة هذا ليس مجرد مشرع إنه باب جديد لمستقبل مختلف تمامًا.