لقد خدعونا حقاً ! ولو عادت بيَّ الأيام ، فلن أترك بدوياً واحداً ، علي أرض سيناء ، يسير علي قدمين !! لقد أمدونا بمعلومات كاذبة مضللة ، فيما كانوا يمدون مخابراتهم ، بالمعلومات الصحيحة ، شديدة الخطورة ، بالغة الدقة ، عن جيش إسرائيل وقدراته ، ومواطن ضعفه . إنهم بدو سيناء !!!
هكذا كتب السفاح شارون ، الوزير والقائد الإسرائيلي الأشهر ، في مذكراته ، وأضاف : لم تغنِ عنا ، في الحرب شيئاً ، الأقمار الصناعية الأمريكية المتطورة ، فقد كانت عيون أبناء سيناء ، أقماراً صناعية ، أشد دقة ، وأكبر تأثيراً !
أبناء بادية سيناء ، مخلصون لوطنهم ، حتي النُخاع ، ومن أجله يحملون أرواحهم فوق أكفهم ، ويختارون الموت ؛ ليحيا هذا الوطن .
هؤلاءِ قومٌ ، شرفاءُ بالفطرة ، فرغم قسوة معيشتهم ، لم يستطع العدو إغراءهم ، ولم يتمكن من شراء ولائهم !
ومن بين هؤلاء ، يبزغ في سماء الوطنية ، نجم هذا البطل الخالد ، ضابط المخابرات المصري ، محمد اليماني ، ابن قبيلة البياضية ، بشمال سيناء ، وأول مَنْ تعلم ، وتخرج في الجامعة ، مع شقيقه سالم ، من أبناء البادية قاطبةً .
نجل عمدة سيناء ، وأسدها الجسور ، الشيخ محمود سالم اليماني ، الثائر دوماً ، ضد الإنجليز ، والمحفز الأكبر لأهل سيناء علي المقاومة ، حتي اضطرّوا في النهاية ، إلي نفيه لمحافظة الشرقية ، لتبدأ رحلته الجديدة مع الكفاح ، والتي بدأت بتعليم وتأهيل أبنائه ، مع الصعوبات والعراقيل ، ليواصلوا مسيرة الدفاع عن الوطن .
يصبح محمد اليماني ، ضابطاً احتياطياً ، في الوقت الأصعب ، من تاريخ مصر ، وهنا تتجلي عبقرية القيادة السياسية والعسكرية ، لتوظيفه ، وبما له من خلفية عسكرية واعدة ، من ناحية ، ومعرفة تامة كاملة ، بسيناء ، جبالها ، دروبها ، وديانها ، أهلها ، عاداتها ، كل ما فيها ، من ناحية أُخري .
هو الأنسب إذن ، وهي الفرصة الأعظم ، التي عاش يتمناها ، و يحلم بها ، وهو نداء والده الذي لا يبرح يفارق أذنيه .
محمد اليماني ، وخلال سنوات الاستنزاف ، يقوم بتجنيد وتدريب ، أبناء سيناء ، علي فنون التخابر والتخفي ، والاستطلاع والتصوير ، ونقل المعلومات ، وتحطيم المعدات التالفة وحرقها ، كي لا يستفيد منها العدو .
لم يبخل أبناء سيناء بعطاء ، إذ قاموا جميعاً ، ولا نستثني منهم أحداً ، ورغم ضيق حالهم ، بتجميع و تأمين و إعاشة جنود وضباط القوات المسلحة المصرية ، فى نقاط آمنة ، تمهيداً لنقلهم بمراكب الصيد إلى مدينة بورسعيد ، بعد عملياتهم الناجحة . هذه القوات ، من أبطال حرب الاستزاف ، والتى سعت للثأر لكرامة الوطن ، كانت نواة النصر العظيم لاحقاً ، وكان شعارهم النصر أو الشهادة .
محمد اليماني ، يوزع الأدوار ، ويضع خطط التستر ، ويناور بالتحركات ، مرةً من الشرق ، وثانيةً من الغرب ، مرةً ليلاً ، وثانيةً نهاراً ، كثيراً من رجال ، يقودون الإبل ، وأحياناً من سيدات وفتيات ، ترعي الأغنام ! المهام متنوعة ، والمؤونة قليلة ، والخطر عظيم ، والعدو غاشم ، والقلوب أشد عزيمة وصلابة من الحديد .
لقد تحول رجال اليماني جميعاً ، إلي رادارات بشرية ، جعلت من سيناء كتاباً مفتوحاً للقوات المصرية ، ومصدر توتر وقلق دائمين للعدو .
ماذا يحدث علي أرض سيناء ؟! وأني لهؤلاء البدو ، أن يُكبدوا إسرائيل ، هذا الكم المذهل ، من هذه الخسائر الفادحة ؟ وحتي انتهي الأمر بالعبور العظيم ، والنصر المبين ، يوم السادس من أكتوبر ؟!
فتشْ عن الوطنية المتأصلة فيهم ، وفتشْ عن داهية المخابرات ، محمد اليماني ، الذي أقضَّ مضْجع إسرائيل ، حتي باتت تطلبه ، حياً أو ميتاً ، وبأي مقابل !
محمد اليماني ، لم يكن يدير العمليات ، من غرب القناة ، بعيداً عن ساحة الحرب ، ولا حتي من مكتب آمن داخل سيناء نفسها ، إنما كان يقود العمليات بنفسه !
هو يومياً ، مشروع شهيد ، يذهب في ظلام الليل ، ليبدأ رحلته الجهادية ، ولا ينتظر الصباح ، فهو للموت دوماً ، أقرب منه للحياة .
ولذلك نال ثقة أهل سيناء جميعاً ، وكانوا يتسابقون للتطوع ، والانضمام إليه .
ونجح اليماني ، وبتوجيه من المخابرات الحربية المصرية ، في تشكيل قوات خاصة ، وتوظيف مهارات كل فرد ، علي حده ، واستغلالها في العمليات المختلفة ، بل واستحداث أساليب تجسس علي العدو ، لم تكن لتخطر علي بال أعظم قادتهم ، لقد دُربت الأبل نفسها علي بعضها !
في مؤتمر الحسنة الأشهر ، بوسط سيناء ، حيث المخطط الصهيونى الأكبر ، لتدويل سيناء ، الذى قادته رئيسة الوزراء الإسرائيلية ، جولدا مائير عام ١٩٦٨ إذ اجتمعت فيه مائير ، ووزير دفاعها ، موشي ديان ، مع قبائل سيناء ، بهدف فصل سيناء عن مصر ، وكانت تستهدف من ذلك المؤتمر ، إقناع أهالى سيناء ، بالتوقيع على وثيقة التدويل ! وتحريضهم علي الاستقلال وإعلان دولتهم ، وإلغاء تبعيتها لمصر ، متزرعة بروايتها المزعومة أن سيناء أصلاً دولة حدودية ، ضمتها مصر إليها !
ووعدت أمريكا وحلفاؤها ، بمساندة إسرائيل بقوة ، في حال موافقة أهل سيناء ، علي عملية التدويل هذه .
وكانت المفاجأة المدوية ، وأمام قادة إسرائيل ، ووكالات الأنباء العالمية ، التي نقلتها الطائرات ، من شتي بقاع المعمورة ، إلي ميدان الحدث ، تحدث الشيخ المجاهد سالم الهرش ، وبتنسيق كامل مع محمد اليماني ، الذي جاءته التعليمات صريحة ، بحتمية إفشال مؤتمر الحسنة ، وقلب السحر علي الساحر .
وتم تنفيذ الأوامر ، بدقة متناهية ، وقال الهرش : سيناء أرض مصرية ، وستبقي كذلك ، ومن يريد التفاوض بشأنها ، فليذهب إلي جمال عبد الناصر ، بالقاهرة !
وجاءت تصريحات الهرش ، أقوي من صفعات الأحذية علي الوجوه ، حتي كاد ديان أن يفتك به ، لولا براعة المخابرات الحربية والعامة المصريتين ، في إنقاذه ، وتهريبه إلي الأردن .
وقد ورد قدر كبير من معلومات هذا المؤتمر ، في كتاب بطولاتٌ علي رمالِ سيناءَ ، للمجاهدِ البطلِ ، محمد اليماني ، والكِتَابُ مُرخص ، ومُصرح به رسمياً من قبلِ المخابراتِ الحربيةِ المصريةِ ، ووزارة الدفاع ، وقام بتقديمه ، المشير محمد عبد الغني الجمسي ، نائب رئيس الوزراء ، وزير الدفاع ، والقائد العام الأسبق للقوات المسلحة ، وجاء في الكتاب ما يؤكد علي الدورِ البطوليِّ الرائع لمشايخ سيناء ، وكذلك الدور المخابراتيِّ المُذهل ، وبتواضع المقاتل ، لمهندسِ العملياتِ ، ابن بادية سَيناء ، محمد اليماني .
قال اللواء إبراهيم فؤاد نصار ، مدير المخابرات الحربية ، خلال حرب أكتوبر المجيدة : لولا الدور العظيم ، الذي قام به بدو سيناء ، وتعاونهم مع الجيش المصري ، ما استطعنا استعادة سيناء لاحقاً .
هو اليماني ، الحاصل علي تكريمات عديدة من الدولة المصرية ، كوسام الشجاعة ، ونوط الامتياز من الطبقة الأولي ، ويبقي التكريم الأكبر ، من الله جلت قدرته ، الذي أخبرنا ، كما أخبرنا أنبياؤه ورسله ، صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً ، عن فضل المجاهد ومنزلته عند ربه ، ومقامه الكريم ، في جنات النعيم .
محمد اليماني ، بطولة رائعة ، وعبقرية نادرة ، طويت صفحته في الدنيا برحيله ، لكنَّ صفحته مع الوطنية ، لم تطوَ بعد ، وستظل خالدة إلي أن يشاء الله .
هي سيرة ومسيرة ، واحد من المحبين لهذه الأرض الطيبة ، العاشقين لكل ذرة من ترابها الطاهر ، واحد من أعظم ضباط المخابرات الحربية في مصر كلها ..
قد ماتَ قومٌ وما ماتَت فضائلُهم .. وعاشَ قومٌ وهُم في الناسِ أمواتُ ..