مصر
  • 29℃ القاهرة, مصر

رئيس مجلس الإدارة

طارق لطفى

رئيس التحرير

أحمد سليمان

لا تفهمونا غلط 

الاستنزاف وأكتوبر بطولات لا تموت


في زمن تتسارع فيه الأحداث وتتغير المفاهيم، تبقى السينما والدراما سلاحين لا يقلان أهمية عن البندقية، فالكلمة والصورة قادرتان على غرس ما لا تقدر عليه الندوات والمؤتمرات والبرامج  من مشاعر الانتماء والفخر والعزة. وإذا كانت الأمم العظمى قد بنت مجدها على روايات خيالية وأبطال من صنع الخيال، فإن مصر تمتلك بطولات حقيقية مكتوبة بدماء رجالها الأوفياء الذين سطروا أروع صفحات البطولة والفداء في حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر المجيدة.

ومن هنا تبرز الضرورة الملحة لإنتاج أعمال فنية جديدة تتناول بطولات الجيش المصري في تلك الملاحم الخالدة، وتعيد للأذهان تلك اللحظات التي صنعت تاريخ أمة بأكملها.


ونحن نحتفل هذه الأيام بشهر الانتصارات، أكتوبر المجيد، الذي يعيد إلى الأذهان ملحمة العبور وأمجاد الجيش المصري العظيم، تتجدد الحاجة إلى استحضار تلك البطولات الخالدة من خلال الفن والدراما، لتبقى في وجدان الأجيال القادمة حية لا يطويها النسيان. **وأجدد الدعوة إلى أهمية إنتاج دراما وطنية تعيد سرد بطولات جيشنا الباسل في حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر، وتوثّق قصص الفداء والتضحية التي سطرها أبطالنا بأرواحهم ودمائهم، حتى يعرف أبناء هذا الجيل معنى الوطن الحقيقي وكيف تُصان الكرامة المصرية بالنضال والإخلاص.


لقد شاهدنا بأعيننا كيف نجح فيلم الممر ومسلسل الاختيار في إعادة الوعي الوطني إلى الواجهة، وكيف أصبحت مشاهد التضحية والشجاعة حديث البيوت والشوارع والمدارس. لقد أيقظت هذه الأعمال روح الانتماء في نفوس الأجيال الجديدة، وذكّرت الجميع بأن مصر لم تبنَ بالكلمات وإنما بعرق رجال وقفوا في وجه الموت كي تظل رايتها مرفوعة. وإذا كانت تلك النجاحات قد أكدت شيئًا، فهو أن الجمهور المصري متعطش لمثل هذه الأعمال التي تجسد البطولات لا بالكلام، بل بالصورة الحية التي تنبض بالصدق والإخلاص.


ومما لا شك فيه أن الشؤون المعنوية تمتلك ملفات لا حصر لها عن بطولات الجنود والضباط خلال حرب الاستنزاف وأكتوبر، وهي ملفات قادرة على أن تمد السينما المصرية بكنوز لا تنضب من القصص الإنسانية والوطنية. غير أن الغريب أننا ما زلنا نشاهد أفلامًا أنتجت قبل أكثر من خمسين عامًا عن تلك الفترة، وكأن الزمن قد توقف عند تلك الأعمال. فهل يُعقل أن تبقى البطولات العظيمة حبيسة الأدراج بينما تغزو الشاشات أعمال غربية تتحدث عن أبطال خياليين لا وجود لهم إلا في عقول صناعهم؟


ولدينا في مصر كتاب وسيناريست عظماء قادرون على تحويل هذه البطولات إلى أعمال خالدة، وعلى رأسهم الكاتب الكبير محمد جلال عبد القوي الذي قدم العديد من الأعمال التي جمعت بين العمق الإنساني والصدق الوطني ولديه اعمالا تتحدث عن بطولات الجيش المصري وابطاله جاهزة للتصوير . أمثال هؤلاء يجب أن تُتاح لهم الفرصة ليكتبوا عن بطولاتنا قبل أن نفقدهم، فنجد أنفسنا أمام فراغ لا يسده أحد. فالأجيال القادمة بحاجة إلى من ينقل لها هذه الروح، إلى من يُظهر لها أن البطولة ليست مشهدًا في فيلم، بل نبضًا في قلب كل مصري خاصة وان البطولات حقيقة ومن واقع ملفات رسمية.


إن الحرب ليست مجرد مواجهة عسكرية، بل هي قضية وعي وفكر، وهي موضوع واحد بوجوه متعددة. والتاريخ السينمائي العالمي خير دليل على ذلك، فقد أنتجت هوليوود آلاف الأفلام عن الحرب العالمية الثانية، واستطاعت أن تحول مآسي الحرب إلى أساطير، حتى باتت تلك القصص جزءًا من وجدان الشعوب. في المقابل، لدينا في مصر مئات القصص الواقعية التي يمكن أن تلهب الخيال وتبث الفخر في النفوس، قصصًا عن رجال قاتلوا ببسالة، وآخرين سطروا أسماءهم بالنار والدم في معارك الدفاع عن الوطن.


خذ على سبيل المثال لا الحصر البطل صائد الدبابات و البطل محمود علي الجيزي، صف ضابط الصاعقة البحرية، الذي نفذ كمين جبل مريم عام 1968 ودمر سيارتين للعدو وقتل ستة من جنوده بينهم نائب قائد البحرية الإسرائيلية ونائب مدير الموساد. هذا البطل أجبر العدو على دفنه وتقديم التحية العسكرية له، وهي واقعة تفيض بالشرف والإجلال، فكيف لا تُخلّدها السينما المصرية في فيلم يعيد إليها الحياة؟ إن لدينا عشرات بل مئات القصص المشابهة التي لا يعرف عنها أحد شيئًا، وهي قادرة على أن تبني وعياً وطنياً أقوى من أي حملة إعلامية أو شعارات سياسية.


نحن في أمسّ الحاجة لأن يعرف شباب مصر معنى التضحية، أن يدركوا أن الوطن لا يُصان إلا بالدم والوفاء، وأن الحرية لم تكن منحة بل ثمرة كفاح طويل. هناك مؤامرات تُحاك ضد مصر من الخارج والداخل، ولا سبيل لمواجهتها إلا بتكاتف الشعب والجيش، وبغرس حب الوطن في القلوب منذ الصغر. والدراما هنا ليست ترفاً، بل وسيلة دفاع ناعمة تحمي العقول من التزييف، وتعيد للأمة وعيها الذي هو أول خطوط الدفاع عن الوجود ذاته.


ولعل قصة الطفل إسلام التي ذكرتها كثيرا وكنت مشاركا في نقلها والتعرف عليها خير دليل على قوة الدراما في بناء الوعي، ذلك الطفل الذي كتب رسالة إلى الله يتمنى فيها أن يصبح بطلاً مثل الشهيد أحمد المنسي. هذه الرسالة التي هزّت القلوب لم تكن لتُكتب لولا تأثير الدراما، لولا أن عملاً فنياً صادقاً نجح في أن يزرع في نفس طفل صغير حلماً أن يكون بطلاً من أجل وطنه. نحتاج أن يكون لدينا مائة مليون "إسلام"، نحتاج أن نزرع في كل قلب مصري حلم البطولة، وأن نعيد تعريف معنى الوطنية بأنها ليست مجرد شعور، بل مسؤولية يومية وحياة كاملة.


إننا نعيش في زمن تُشن فيه الحروب على العقول قبل الحدود، وفي مواجهة هذا الخطر لا يكفي السلاح وحده، بل لابد من سلاح الوعي الذي تصنعه الكلمة الصادقة والصورة المؤثرة. السينما والدراما ليستا مجرد وسائل ترفيه، بل هما أدوات لحماية الهوية وتحصين الانتماء.


وحولنا أمثلة كثيرة تبرهن على خطورة غياب الوعي وضياع روح الانتماء، فكم من أوطان كانت آمنة مستقرة ثم عصفت بها الفتن والصراعات الداخلية حتى انهارت مؤسساتها وضاعت هويتها، واندلعت الحروب الأهلية بين أبنائها. . رأينا كيف تفرّق أبناء الوطن الواحد تحت شعارات زائفة وشحنات كراهية مدروسة، وكيف تكالب على حكمها عليها أصحاب المصالح ومن يُقال إنهم مدسوسون عليها، صُنعوا في الخفاء بأيدي قوى خارجية لا تريد لهذه الشعوب أن تنهض أو تستقر. هؤلاء لم يحملوا السلاح وحده، بل حملوا الفكر المسموم الذي بثّوه بين الناس حتى أصبح الشك بديلاً عن الثقة، والانقسام بديلاً عن الوحدة. لذلك فإن حماية الوعي الوطني وغرس الانتماء ليست قضية ترف فكري، بل مسألة وجود وبقاء، لأن سقوط الوعي هو بداية سقوط الأوطان.

أخيرا 

وفي الختام، فإن إنتاج أفلام عن بطولات الجيش المصري في حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر ليس ترفًا ولا حنينًا إلى الماضي، بل هو واجب وطني وأخلاقي تجاه الأجيال القادمة. فهذه الأعمال هي التي تحفظ الذاكرة وتورث الكبرياء، وهي التي تروي للأبناء كيف انتصرت مصر حين آمنت بنفسها، وكيف صمد رجالها حين كان الوطن ينادي. وإذا كانت الأمم العظمى تصنع تاريخها من الخيال، فإن مصر قادرة أن تُعيد بناء وعيها من الحقيقة، من دماء أبنائها التي روت ترابها الطاهر. نحن نملك بطولات لا تُحصى، وأبطالاً لا يُنسون، وما علينا إلا أن نمنحهم الحياة من جديد على شاشة تتحدث بلسان الوطن، وتقول لكل من يشاهدها: هذه هي مصر.. وهؤلاء هم رجالها.

مصطفي البلك
[email protected]