قطع حلوى تحاصر البنكرياس… والميزان يستغيث
حلاوة المولد… بين البركة والورطة
يأتي المولد النبوي الشريف كل عام، فيحمل معه نفحات روحانية، وأجواء احتفالية تملأ الشوارع.
أما حلاوة المولد… فلها حكاية أخرى تمامًا؛ فهي ليست مجرد سكر ولوز، بل هي أسطورة لها طقوس خاصة في كل بيت مصري.
إن جذور هذه العادة تعود إلى العصر الفاطمي، حين اختار الحكام أن يحتفلوا بالمولد على طريقتهم، وذلك عبر صناعة الحلوى وتوزيعها على الناس، حيث بدأت بعروس وحصان من السكر للزينة ثم الأكل، ولكن سرعان ما تحوّلت مع مرور السنين إلى قطع الملبن والفولية والسودانية التي تداهمنا اليوم. وهكذا وُلد تقليد جماعي استمر قرونًا طويلة، حتى غدا مؤامرة تبدو لطيفة لكنها خطيرة على الأسنان والبنكرياس في آن واحد.
فما إن تقترب من محلات "الحلاوة"، ستجد نفسك أمام واجهة تلمع كأنها معرض مجوهرات، لكن بدل الألماس والذهب هناك ألواح هائلة من الملبن وجوز الهند والحمصية والفولية والسودانية. البائع يقف كأنه صائغ، يزن لك قطعة ملبن كما لو كانت ياقوتة نادرة، أو يبتسم ابتسامة واثقة: "كيلو السودانية ب…". وهنا تبدأ الصدمة، إذ تكتشف أن الأسعار لم تعد مجرد حلاوة، بل كأنك تجدد رخصة محمّلة بالمخالفات، أو تسدد فاتورة كهرباء ملتهبة في عز الحر.
ومن داخل البيوت تبدأ المفاوضات المعتادة:
– الأم: "عايزين نجيب علبة صغيرة للبركة".
– الأب: "صغيرة إيه..!! دي أسعارها نار… نكتفي بالحمصية".
– الأطفال: "لااا… عايزين الملبن والسمسمية كمان!".
وتنتهي الجلسة – كالعادة – بعلبة متوسطة الحجم، محشوة بأنواع متفرقة، يدخل بها الأب إلى البيت متأففًا من الأسعار، بينما الأطفال يصفقون وكأنها غنيمة حرب.
كل نوع من الحلوى له شخصيته الخاصة:
– الملبن: الناعم المخادع، يُشبه صديقًا لطيفًا لكنه يورّطك دائمًا. من أول قضمة يلتصق بأسنانك كأنه ختم ملكي وقد لا يزول إلا بجراحة، ومع ذلك لا تقاومه.
– الفولية: منظمة ومحترمة، كل حبة فول مصطفة بجوار الأخرى في استعراض هندسي أنيق، لكنها تُخفي وراء هذا النظام قنبلة سكر تنفجر في البنكرياس بلا إنذار.
– السودانية: زعيمة العصابة؛ تبدأ بقطعة صغيرة بريئة، ثم فجأة تكتشف أنك ابتلعت نصف الكيلو وأنت أسيرها بلا مقاومة.
– السمسمية: تحاول التبرير دائمًا: "أنا صحية… فالسمسم مفيد للعظام". لكن بعد ثلاث قطع فقط، تجد نفسك أقرب لمريض يحتاج الدخول إلى غرفة الإنعاش.
– الحمصية: والتي، نظرًا لسمعتها السيئة، تُترك وحيدة حتى آخر الموسم، ثم لا تلبث أن تؤكل على استحياء "حتى لا تُرمى"! وهذا قد يجعلها تبدو مظلومة بعض الشيء.
ومع مرور السنين ظهرت أشكال جديدة تنضم إلى العرض؛ فلم يعد الأمر مقتصرًا على القطع التقليدية، بل دخلت بعض الأنواع الراقية كاللوز والبندق والفستق وعين الجمل، والتي وُضعت داخل الملبن والفولية وكأنها أحجار كريمة محشوة في قالب سكر. هذه الإضافات صنعت "علبًا فاخرة" مخصصة لشريحة معينة من المجتمع، ارتفعت أسعارها إلى مستويات أسطورية، حتى بات البعض يتندر بأن ثمنها يوازي قيمة شبكة عروس أو قسط سيارة صغيرة.
من هنا فقد ينتهي بك اليوم، وتبقى العلبة نصف ممتلئة، وتبدأ رحلة المساومة مع النفس:
– "سآخذ قطعة صغيرة فقط".
– "طيب… قطعة أخرى".
– "آخر واحدة".
وفجأة تجد نفسك أمام علبة فارغة، وأسنان متعبة، ومعدة مثقلة بالسكر، لتهمس في داخلك: "أهذا هو الاحتفال؟ أم فخ مُحكم؟". فيما تتضح المكيدة أكثر عندما تذهب في اليوم التالي لقياس وزنك، لتجد المؤشر قفز قفزة تاريخية، كأنك حضرت وليمة من ألف ليلة وليلة، بينما كل ما أكلته "شوية ملبن وفولية"! ثم يبدأ طبيب الأسنان هو الآخر احتفاله، إذ يجد عيادته مزدحمة بضحايا "التصاق الملبن" و"كسر الفولية"، وكأنها حرب عالمية ثالثة على ضروسك.
أما خبراء التغذية فينصحونك بحكمة مأثورة: "كُل باعتدال". لكن من يستطيع الاعتدال أمام كل هذا الإغراء؟ وبينما تحاول الهروب من العلبة، تجدها تلاحقك في كل مكان: ضيوف يزورونك فيقدمونها مجددًا، زملاء في العمل يوزعون قطعًا منها، حتى جدتك – التي تعاني من السكر، واحتمال كبير أنه لا توجد لديها أسنان – تصر أن تأكل قطعة صغيرة وهي تبتسم بفخر: "البركة في حلاوة المولد يا حبيبي".
والأعجب من ذلك أنّنا نُكرّر المشهد ذاته كل عام؛ فنعلن رفضنا للأسعار المشتعلة، ونشكو من آثار السكر على أجسادنا، ثم لا نلبث أن نقف أمام محال الحلوى من جديد، نساوم ونشتري ونأكل، وكأننا أسرى مختارون في حرب نعرف جميعًا تفاصيلها، ومع ذلك نقبل عليها طواعية. وربما لو تذكّرنا أن إحياء المولد النبوي لا ينبغي أن يقتصر على أكل قطع الملبن والفولية، بل يجب أن يكون بإقامة سنن النبي ﷺ، والسير على هديه، والاقتداء بسيرته العطرة، مما يجعل احتفالنا أعمق وأبقى أثرًا من مجرد أكل كميات هائلة من السكر بلا مبرر..!
وفي النهاية نكتشف أن الحكاية ليست مجرد سكر وسعرات، بل طقس جماعي يشبه صلاة غير مكتوبة، نشارك فيه جميعًا كذنب اسمه "التهام الحلاوة". ثم نجلس في هدوء بعد آخر قطعة – أو بالأصح في آخر المعركة – ونقول لأنفسنا:
"قد تكون الأسعار نارًا، والأسنان ضحايا، وإنسوليننا يعلن مقاومته، والبنكرياس بات في خطر داهم… لكن ومن غير حلاوة المولد هل يوجد احتفال..!!"