في قلب بكين، يقف مبنى حديث تحيطه أضواء ناعمة، لكن ما يجري بداخله يضرب خيال الطب التقليدي في الصميم. لا أصوات خطوات مسرعة للممرضين، ولا صفوف ممتدة من المرضى، ولا حتى طبيب يطالع ملفًّا ورقيًا. هنا، المرضى يواجهون شاشات ثلاثية الأبعاد، وأطباء بلا أجساد، يجيبون بصوت ثابت ودقة مذهلة، يطلبون الفحوصات في لحظة، ويرسلون التشخيص في لحظة أخرى. "مستشفى الوكلاء" الذي أطلقته جامعة تسينغهوا، ليس مجرد مشروع بحثي، بل منظومة متكاملة قادرة على التعامل مع عشرات الآلاف من الحالات يوميًا، بسرعة ودقة تفوق أي طاقم طبي بشري.
في مشهد يبدو وكأنه قادم من فيلم خيال علمي، لكنّه حقيقي تمامًا، أعلنت الصين عن إطلاق أول مستشفى افتراضي في العالم يعمل بالكامل بالذكاء الاصطناعي. ليس مجرد فكرة مبتكرة، بل واقع رقمي نابض بالحياة، حيث يتجول فيه أطباء افتراضيون يملكون القدرة على التشخيص والعلاج بدقة مذهلة، ويتعاملون مع آلاف المرضى في أيام معدودة.
من داخل جامعة تسينغهوا، خرج هذا الابتكار ليكسر كل القيود التقليدية للطب. هنا لا يوجد انتظار طويل أمام غرف العيادة، ولا حاجة لرحلات شاقة بحثًا عن استشارة متخصصة. كل شيء يحدث في بيئة افتراضية، حيث تتعاون شبكة من الأطباء الافتراضيين المدعومين بتقنية ثورية تُسمى MedAgent-Zero، قادرة على التعلم الذاتي وتحسين قراراتها الطبية مع كل تفاعل جديد.
الأرقام وحدها كفيلة بإثارة الدهشة: 42 طبيبًا افتراضيًا يمارسون 21 تخصصًا، يعالجون ما يصل إلى عشرة آلاف مريض خلال أيام، وهو إنجاز يحتاج الأطباء البشريون لأكثر من عامين لتحقيقه. الأدهى أن دقة تشخيصهم وصلت إلى 93.06% في اختبارات معيارية، متفوقين على كل التوقعات، خصوصًا في مجال أمراض الجهاز التنفسي.
هذه القفزة العلمية لا تبشر فقط بمستقبل أسرع وأكثر كفاءة للرعاية الصحية، بل تفتح الباب أمام ثورة حقيقية في التعليم الطبي، حيث يمكن تدريب الأطباء في أي مكان بالعالم دون تعريض حياة المرضى للخطر. كما تمنح الأمل لملايين يعيشون في مناطق نائية أو فقيرة، حيث يصبح الوصول إلى أفضل العقول الطبية ما هي إلا ضغطه زر.
ومع ذلك، فإن هذا الإنجاز المذهل يطرح أسئلة حاسمة: من يتحمل المسؤولية.. إذا أخطأ الطبيب الافتراضي؟ وهل يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يحل محل حدس وخبرة الإنسان، أم أنه سيظل أداة مكملة فقط؟
اليوم، ما بدأ كمحاكاة داخل أسوار جامعة صينية قد يكون غدًا صورة مألوفة في مستشفياتنا، حيث يقف الطبيب البشري جنبًا إلى جنب مع زميله الافتراضي، يتشاركان مهمة إنقاذ الأرواح… ربما نحن على أعتاب عصر لم نكن نتخيله إلا في الروايات، لكنه الآن يطرق أبواب الواقع بقوة.
فالانبهار مبرّر… لدقة التشخيص، وزمن الاستجابةالذي بات يُقاس بالثواني، وتكلفة تكاد تقترب من الصفر مقارنة بالمستشفيات التقليدية. لكن وسط هذا الإعجاب، يطل سؤال يثقل الأجواء: لماذا الآن؟ ولماذا الصين بالذات؟
هنا تعود بنا الذاكرة إلى المشهد الذي غيّر العالم قبل سنوات. في ووهان، المدينة التي لم يكن يعرفها الكثيرون، خرج فيروس أربك الدول العظمى، وأغلق الحدود، وأدخل مليارات البشر في عزلة لم يعرفها جيلنا من قبل. يومها، تضاربت الروايات: سوق مكتظ بالحيوانات الحية، أم مختبر أبحاث فقد السيطرة على ما في أنابيبه؟ لم تُحسم الإجابة، لكن المؤكد أن العالم أدرك درسًا واحدًا: من يملك القدرة على التحكم في الصحة، يملك مفاتيح القوة.
الصين التقطت هذا الدرس سريعًا. واليوم، وهي تعرض للعالم مستشفى رقميًا عابرًا للحدود، تقدم في العلن صورة "المُنقذ"، وفي الكواليس، تحجز مقعدًا متقدمًا في سباق السيطرة على أدوات الحياة والموت. هذه المنظومة قادرة على فحص بيانات صحية لمدن بأكملها في دقائق، وعلى رصد أنماط أمراض قبل أن تتحول إلى أوبئة، وعلى التدخل عن بُعد في علاج أي مريض في أي دولة.
لكن ماذا لو تغيّر المزاج السياسي؟ ماذا لو أصبحت هذه الخدمة أداة ضغط على الحكومات؟ في عالم تتشابك فيه السياسة بالتكنولوجيا، لا شيء مستبعد. فالطب، مثل الطاقة والاتصالات، قد يتحول إلى ورقة تفاوض، أو حتى سلاح ناعم قادر على ليّ ذراع أقوى الدول.
المشهد الحالي يوحي بثورة إنسانية، لكن في أروقة الاستخبارات، يقرأ الأمر بطريقة أخرى: قاعدة بيانات صحية عالمية تحت سيطرة بكين،
قدرة على الوصول الفوري لأي مريض في أي قارة، ومعرفة تفصيلية بالبنية الصحية لكل دولة… هذه ليست مجرد أرقام، بل مفاتيح تحرك المستقبل.
وبين التصفيق للإنجاز الطبي والخوف من نفوذه، يبقى العالم متأرجحًا. فبين ووهان التي أيقظت الرعب، وبكين التي تصنع أطباء من ضوء وبيانات، يولد سؤال جديد: هل نحن على أبواب عصر ذهبي للطب، أم على حافة زمن تصبح فيه صحتنا جزءًا من لعبة الشطرنج الكبرى، حيث تحرّك بكين القطع كما تشاء؟
لكن خلف الأضواء البراقة والشاشات الذكية، هناك ما لا يُعرض في نشرات الأخبار. تقارير مسرّبة تتحدث عن تجارب محاكاة لأزمات صحية عالمية، حيث تُغلق أنظمة المستشفى الرقمي فجأة عن دول معينة لاختبار قدرتها على الصمود. خرائط تفاعلية تتحرك أمام خبراء في غرف مغلقة، تُظهر نقاط ضعف أنظمة الصحة في قارات بأكملها. وحتى الآن، لا أحد يعرف إن كانت هذه المحاكاة جزءًا من الأبحاث… أم مناورات في معركة لم يُعلن عنها بعد.
العالم قد يظن أن الثورة القادمة ستكون في الفضاء أو في الذكاء الصناعي العسكري، لكن الحقيقة قد تكون أقرب إلى أجسادنا مما نتخيل. ربما، حين ندخل إلى مستشفى المستقبل، لن يكون السؤال: "ما مرضك؟" بل: "لمن ستصبح بياناتك…؟"