" ما تخافوش على مصر، خافوا من اللي يفكر يعاديها .. ما تخافوش على مصر خافوا ع اللي يجي عليها ،واللي عادوا مصر شافوا شر من يعاديها ، أصل ناسها ولاد حلال، مصر على رأي اللي قال ربنا اللي حاميه" وقفتُ طويلاً أمام كلمات أغنية الفنان المصري الاماراتي حسين الجسمي ، فلم تكن كلمات تتردد مع كل محنة، بالفعل ليست مجرد أغنية، بل عقيدة متجذرة في قلوب المصريين. تمر الأيام والأحداث، ويظل هذا الشعب يبهر العالم بقدرته على تجاوز الصعاب مهما اشتدت. لم تكن كارثة حريق سنترال رمسيس مجرد حادث عابر، بل اختبار قاسٍ، كشف معادن الرجال، وأعاد رسم ملامح العزيمة المصرية، التي لا تعرف الانكسار.
عندما اندلعت ألسنة اللهب في قلب القاهرة، وتحديدًا في المبنى التاريخي لسنترال رمسيس، الذي تأسس قبل نحو قرن، توقف الزمن للحظات. مشهد النيران المتصاعدة، والأدخنة الكثيفة التي غطت سماء المدينة، كان كفيلًا بخلق حالة من الذعر، ليس فقط بسبب الخسائر المحتملة، بل لما يمثله هذا المكان من قيمة تاريخية واقتصادية. فهو شريان الاتصالات الرئيسي، الذي ربط مصر بالعالم، منذ أن دشنه الملك فؤاد الأول في عام 1927، ليكون نقطة الانطلاق نحو العصر الرقمي. لم يكن مجرد مبنى، بل ذاكرة وطن، وسجل حافل بالشواهد على تقدم مصر التكنولوجي.
توقفت خدمات الهاتف والإنترنت، تعطلت المعاملات البنكية، وأصيب الشارع المصري بالارتباك. لكن وسط هذا الظلام، اشتعل نور الإرادة. رجال الحماية المدنية، ببدلاتهم الثقيلة، واجهوا النيران بلا تردد، متحدين كل المخاطر. تقدموا بخطوات ثابتة نحو الخطر، لا يحركهم إلا حس الواجب، مدركين أن كل دقيقة تمر تعني مزيدًا من الخسائر. لم ينتظروا أوامر أو توجيهات، بل تحركوا بفطرتهم الوطنية، وبشجاعة نادرة، جعلت منهم أبطال اللحظة. لم يكن مجرد إخماد حريق، بل معركة مع الزمن، حيث اختلط العرق بالدخان، وصارت الأرض شاهدة على بطولة رجال لم يعرفوا للخوف معنى. فهم أبطالًا يحملون أرواحهم على أكفهم لإنقاذ الآخرين واخماد النيران . كنا نرى مثل هذه البطولات في أفلام السينما العالمية فقط، لكن حريق سنترال رمسيس جعلها واقعًا ملموسًا. من بين القصص، قصة ضابط في إجازته، لم يتردد لحظة عندما سمع عن الحريق، بل هرع إلى الموقع، استبدل ملابسه المدنية بزي الإطفاء، وانضم إلى زملائه في معركة شرسة ضد النيران. المعركة كانت شرسة وقوية ، ففي وسط الدخان الكثيف وألسنة اللهب المتصاعدة، سقط أبطال سطَّروا بدمائهم ملحمة جديدة في سجل التضحية المصرية. رجال دفعوا أرواحهم ثمنًا لأداء واجبهم، لم يفكروا لحظة في التراجع أو الفرار، بل تقدموا بثبات نحو النيران، مدركين أن الواجب لا يقبل المساومة. شهداء سنترال رمسيس لم يكونوا مجرد أرقام في سجلات الحوادث، بل قصص بطولة حقيقية، ستُروى للأجيال القادمة. رحلوا بأجسادهم، لكن أسماءهم ستظل محفورة في ذاكرة الوطن، تذكرنا دائمًا أن مصر باقية بفضل من يقدمون أرواحهم فداءً لها. هؤلاء الأبطال هم الوجه الحقيقي لمصر التي لا تخاف، بل تجود بأعز ما تملك لتنهض من تحت الرماد وتواصل مسيرتها بقوة وثبات.هذه ليست استثناء، بل نموذج لروح التضحية التي تميز رجال بشكل عام ورجال الإطفاء في مصر. الذين تصدوا لأحد أعنف الحرائق التي شهدتها القاهرة،
وفي الجانب الآخر، تحرك جنود آخرون في صمت. مهندسون وفنيون وعمال، وانضم اليهم طلبة كليات الهندسة والحاسب الالي تركوا كل شيء وراءهم، وهرعوا إلى ساحة المعركة. لم يسألوا عن مكافآت أو مقابل، فقط هدف واحد جمعهم: «الخدمة لازم ترجع». مشهد فريد تجسد فيه تلاحم المصريين، حيث انصهر الجميع في بوتقة العمل الجماعي، بلا فوارق، ولا حسابات ضيقة. على الرصيف المقابل لسنترال رمسيس، بدا المشهد كخلية نحل؛ عشرات العمال والفنيين يحملون كابلات، يفتحون غرف تفتيش، ويحفرون الأرض. وكلهم اصرار «الخدمة لازم ترجع» في اسرع وقت ، تحولت الأرصفة إلى ورش عمل مفتوحة، وانطلقت الأيادي تُصلح ما أفسدته النيران. لم يكن سهلاً إعادة شبكة بهذا التعقيد إلى العمل، لكن روح التحدي جعلت المستحيل ممكنًا.
رغم ساعات العمل الطويلة، والإرهاق الذي بدا واضحًا على الوجوه، لم يتراجع أحد. كل لحظة كان لها ثمن، وكل دقيقة تمر كانت بمثابة معركة جديدة ضد الزمن. لم تكن مجرد عمليات صيانة، بل ملحمة وطنية، رسمها أبناء مصر بأصابعهم التي لم تعرف التوقف. في تلك اللحظات، لم يعد سنترال رمسيس مجرد مبنى، بل أصبح رمزًا للكرامة الوطنية، وللقدرة على الانتصار في أحلك الظروف.
وتوالت اللحظات العصيبة، حتى بدأت البشائر تلوح في الأفق. عادت أول مكالمة، وتدفقت أول إشارة إنترنت،. انتصار صغير في ظاهره، لكنه عظيم في دلالته. لقد استطاع المصريون أن يبعثوا برسالة مدوية لكل من يشكك في قدرتهم: «مصر لا تسقط، ولن تسقط». فعندما تشتد المحن، يلتف الشعب حول رايته، ليكتب سطورًا جديدة من المجد والعزة.
لم تكن التجربة مجرد أزمة مرت بسلام، بل دروسًا عميقة، أعادت التأكيد على أن سر قوة هذا الوطن يكمن في شعبه. هؤلاء الذين لا يتوانون عن التضحية بالغالي والنفيس، من أجل بقاء مصر شامخة. من رجال الإطفاء الذين حملوا أرواحهم على أكفهم، إلى شباب المهندسين الذين أحيوا الأمل بلمساتهم الدقيقة، وصولًا إلى كل مواطن تابع الحدث بقلق، ودعا من قلبه أن تمر الأزمة بسلام. كلهم شركاء في صناعة هذا الإنجاز.
وتتجلى روعة المشهد حين يدرك الجميع أن ما حدث ليس مجرد رد فعل على حريق، بل نموذج حي لثقافة لا تعرف الاستسلام. ثقافة تعلي من قيمة العمل الجماعي، وتؤمن بأن الخير في الاتحاد والعمل من أجل مصر ، وأن اليد الواحدة لا تصفق، لكن الأيادي المتكاتفة تحرك الجبال. لقد جسدت مصر، في تلك الأيام العصيبة، جوهرها الحقيقي. جوهر أمة عصية على الانكسار، قادرة على تحويل المحن إلى فرص، والرماد إلى حياة جديدة.
أخيرا
ورغم الألم الذي خلفه الحريق، في عز أزمة حريق سنترال رمسيس، لم تلجأ مصر إلى أي خبراء أجانب، بل اعتمدت بالكامل على سواعد أبنائها، مؤكدة أن العقول والخبرات المصرية قادرة وحدها على تجاوز المحن وإعادة نبض الحياة بلا استعانة بأحد. لتبقى القيمة الأهم هي تلك الروح التي توهجت بين أبناء هذا الوطن. لم يعد سنترال رمسيس مجرد مبنى تاريخي أو مركزًا للاتصالات، بل صار شاهدًا حيًا على أن مصر محفوظة بأبنائها، وأن ما يحاك ضدها من مؤامرات أو حملات تشكيك، لا يصمد أمام تماسك شعبها. من حاولوا التشكيك في قدرة المصريين، فشلوا مرة أخرى. ومن روجوا لمقولة «مصر في خطر»، انكشفت نواياهم الزائفة، وسقطت أقنعتهم تحت وطأة الحقيقة التي أبهرت العالم.
لقد قالت مصر كلمتها من جديد، ليس بالخطابات الرنانة أو الشعارات، بل بالفعل والعمل. وها هي الاتصالات والانترنت والخدمات تعود للحياة، أقوى مما كان، بشبكة أكثر تطورًا، وأيادٍ أكثر خبرة. والمصريون يتابعون المشهد بفخر، يدركون أن ما جرى لم يكن مجرد انتصار فني، بل تأكيد على أن مصر في أيدٍ أمينة، وأن من يعاديها لا ينتظره سوى الخيبة. هذا هو الدرس الأكبر، وهذا هو وعد المصريين، الذين قالوها بوضوح: «لا تخافوا على مصر، بل خافوا على من يعاديها، فالله حاميها وأبناؤها حراسها». بالفعل سنترال رمسيس قال لنا ما تخافوش علي مصر.
مصطفي البلك
[email protected]