من إيجابيات المشهد المجتمعي خلال الأيام الأخيرة هذا الرفض العام علي المستويين الشعبي والرسمي لما يقدمه صناع الدراما من مسلسلات وأفلام سينمائية تحوي مضامين غير واقعية تتعمد في كثير من الأحيان تشويه قيم المجتمع وتجسيده وكأنهم حفنه من الأشرار والنفعيين متجاهلين تقديم النماذج الإيجابية والومضات الإنسانية التي يزخر بها المجتمع المصري بقيمه وموروثاته الأصيلة.
وأن تصل متأخرا بعض الشئ خير لك من ألا تأتي ،وتغيب عن المشهد وسط هذه التحديات الرقمية الجمة والمتغيرات الأممية المتسارعة.
وبعد مناقشات غير مسبوقة حفلت بها مختلف شبكات ومنصات التواصل كانت أشبه بحوار مجتمعي فعال ـ بعد أن طفح الكيل وزاد الشيء عن حده ـ انقلب الحال وجاء الحصاد المثمر تلك "النفضة" المجتمعية في وجه الدراما الخبيثة..
وقد حفلت مختلف المنصات برؤي ومقترحات ومطالبات صريحة لكافة الجهات المعنية بضرورة اتخاذ خطوات فاعلة نحو تصحيح المسار الدرامي والبرامجي خلال شهر رمضان وخلال بقية شهور العام.
ومما أثلج الصدور وأضفي زخما لهذه الحوار الوطني الرائع انحياز الدولة لنبض المواطنين والإنتباه لضرورة تغيير نمط الدراما المعتاد خلال السنوات الأخيرة ،وهو ما تجلي في تصريحات القيادة السياسية خلال حفل إفطار القوات المسلحة، ثم اهتمام مجلس الوزراء بترجمة ما يطمح إليه المجتمع في هذا الملف الشائك.
وفي تصوري أنها محطة فارقة ونقطة انطلاق فعالة لتصحيح المسار الدرامي والتخلص من هذا الخبث والعطب وتلك العلل والآفات التي لحقت بالدراما المصرية خلال السنوات الأخيرة علي أيدي تجار الدراما وصناع الإثارة دون إدراك لأبعادها ومردوداتها السلبية علي الأسرة وعلي الأجيال القادمة.
وفي السياق نفسه، واستجابة لرؤية الرئيس السيسي دعت الهيئة الوطنية للإعلام لعقد مؤتمر شامل لمناقشة مستقبل الدراما في مصر في أبريل المقبل.
وأعلن الكاتب أحمد المسلماني رئيس الهيئة الوطنية للإعلام أن عقد المؤتمر يأتي استجابة لرؤية الرئيس عبدالفتاح السيسي ، والتي تقضي بضرورة تعزيز القيم في صناعة الدراما والسينما ، وضرورة مواجهة موجات العنف والجريمة وتعاطي المخدرات ، وإشعال الصراع المجتمعي ، وترويج الابتذال اللفظي والانحراف السلوكي ، وتدمير قيم العائلة.
وأعلن المسلماني أن المؤتمر سيتضمن دعوة الكتّاب والمخرجين والمنتجين وعلماء النفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد. وسيتم رفع التوصيات للمؤسسات المعنية. وسوف يسترشد التليفزيون المصري بالرؤية الرئاسية في تقديم المحتوي اللائق فكرياً وقيمياً ووطنياً ، بعد عودة قطاع الإنتاج الدرامي هذا العام ، في إطار استراتيجية "عودة ماسبيرو".
نعم قد آن الأوان لتغيير منظومة صناعة الدراما وعودة إشراف الدول علي قطاع الإنتاج وتفعيل الرقابة على المصنفات الفنية والقنوات الفضائية الخاصة.
فلاريب أن الدراما المبتذلة كالمريض الخبيث الذي يتسلل تدريجيا إلي العقول والقلوب والأفهام ليرسخ قيم واتجاهات جديدة وثقافات فاسدة هدفها في نهاية المطاف تقويض جهود بناء الإنسان وتسليحه بالسياج القيمي والأخلاقي الذي يكفل له الصلابة النفسي ويهييء أسباب التميز والتكيف الإيحابي والإبداع ومواجهة كافة تحديات الحياة المعاصرة.
ووفقا لرؤي المختصين فإن الدراما الفاسدة أو الخبيثة إن صح التعبير هي نوع من الدراما التي تتميز بالعنف والقسوة والخيانة، وتهدف إلى إثارة المشاعر السلبية لدى الجمهور ولا تلتفت كثيرا لفكرة القيم الحاكمة لسلوكيات المجتمع وعلاقاته البينية المختلفة.
ومن بين أنواع الدراما الخبيثة:
ـ الدراما العنيفة: والتي تعتمد علي إثارة المشاعر ومشاهد العنف والقسوة والدماء.
ـ الدراما الخادعة: وتدور في فلك القيم السلبية كالخيانة والغدر والكذب.
ـ الدراما المظلمة: وتعتمد علي فكرة معالجة الأجواء المظلمة ،المليئة بالمشاعر السلبية.
والخلاصة أن للدراما الفاسدة تأثير "ممتد المفعول" على المشاعر وعلي وجدان المتلقين وعلى السلوك وعلى الثقافة ومنظومة القيم والمبادئ الأخلاقية.
وعلي الجانب الآخر تبقي الأهمية الوظيفة لتأثير "الدراما القيمية" علي المكون الوجداني والثقافي لأفراد المجتمع.
وفي هذا الشأن يري د.عصام عبدالقادر الأستاذ بكلية التربية بجامعة الأزهر أن
استدامة تأثير الدراما على الوجدان المصري، يتوقف دوما على ما تحمله بين ثناياها من أفكار بناءة، تعكس منظومة القيم النبيلة التي تربينا عليها؛ ومن ثم يحاكيها المواطن، أو المتلقي، ويستفيد منها بصورة وظيفية في حياته المليئة بزخم مجريات الأحداث؛ حيث يستلهم الصورة الذهنية، التي تمكنه من أن يتعامل بصورة صحيحة، مع ما يتناوله من قضايا تخصه، أو ما يتم تعاطيه بالشأن العام، وهنا نتحدث عن تعزيز للسلوك المرغوب فيه الذي يتقبله المجتمع، في ضوء ميزان النسق القيمي، الذي يؤمن به منذ فجر التاريخ.
كما يشير إلى أن "دراما القيم" تساعد دون مواربة في بناء إنسان يمتلك وعيا قويما، يصبح بمثابة سياج الحماية له؛ فلا تنال منه غايات المغرضين، ولا تشوش أفكاره شائعات مغرضة، تبث على مدار الساعة، عبر أبواق ممولة؛ لذا فهي باقية في الأذهان، راسخة في الوجدان، تتبادلها الأجيال تلو الأخرى؛ فترى المجتمع لا يقبل التغيير في نسقه الأصيل، ولا يخضع للإسفاف، وغايات التحديث الخبيئة، التي تستهدف تفكيك المجتمع، وتجعله يتخلى عن هويته، ويستهين بقوميته، ويتخلف عن الركب، ويغوص في زيف أحلام الوهم والضياع.
إن مصر دون غيرها من دول العالم، تمتلك أصحاب التفرد والتميز، في المجال الفني، والذين لهم بصمات، نتفق جميعا على إنها إبداعية، وهنا نتحدث عن طرفي المعادلة؛ فهناك مرسل مبدع، وهناك متلقي أكثر إبداعا، يلفظ الغث ويدرك الثمين، ويتعطش لمشرب القيم النبيلة، ويرفض ما يخالف عاداته وتقاليده، التي تربى عليها؛ لذا ندرك سبب استقرار وبقاء دراما القيم في الوجدان المصري، وفي المقابل نخشى من تفشي الدراما الفاسدة أو الأعمال التي تحمل في طياتها، ما يهدر قيمنا العريقة ،وينال من ثروتنا البشرية.
ومع هذا الرفض المجتمعي أصبح لزاما دراسة كافة روافد وصور الدراما المعاصرة بأسلوب علمي دقيق والتعرف علي تأثيرها بهدف كبح جماحها وبحث إمكانية التحكم في التعرض لها ،وعقد المزيد من ورش العمل والندوات والمؤتمرات لمناقشة حاضرها وإستشراف مستقبلها المنظور.
وبعيدا عن كون الدراما بصفة عامة من أهم القوي الناعمة المؤثرة في بناء الوعي وتنمية الأذواق والتنشئة القيمية السليمة ،أتصور أن هناك ضرورات عصرية حتمية تفرض أهمية تصحيح أوضاع الدراما المصرية والعودة بها لسابق عهدها ،بل وتطوير محتواها لمجابهة تحديات المرحلة الحرجة وسط هذه المتغيرات الإقليمية والدولية وعلي رأسها حروب تغيير الهوية ومخططات إضعاف الدولة الوطنية والهيمنة الرقمية وسيناريوهات الغزو الفكري والثقافي اللامحدود!.