هيرمس
    مصر
  • 29℃ القاهرة, مصر

رئيس مجلس الإدارة

طارق لطفى

رئيس التحرير

أحمد سليمان

معًا للمستقبل

نعمة لا يشعر بها إلا من افتقدها !!


اعتاد الناس على الاحتفال بعيد الأم في الحادي والعشرين من كل مارس في كل عام، وهو اليوم الذي ستشرق شمسه خلال ساعات ليتبارى الأبناء في تكريم أمهاتهم بهدايا وكلمات امتنان بفضل الأم ودورها في حياة الأبناء..!!
هذا تقليد حسن، لكن الأحسن منه ألا نكتفي بيوم واحد للتعبير عن حبنا لأمهاتنا، سواءٌ كنّ على قيد الحياة أو رحلن إلى جوار ربهن العزيز الكريم..!!
الأم تاريخ وقيمة كبرى لا يمكن مكافأتها في حياتها ولا تعويضها بعد مماتها، فقد تحملت آلام الحمل والولادة والرضاعة وسهرت على رعايتنا صغارًا حتى إذا كبرنا حملت همنا بحب وإخلاص دون مقابل..فليس بعد الأم حبٌ ولا حنان!!  
مثل هذه المناسبة تعيدنا للسؤال: هل أمهات اليوم أدين رسالتهن في تربية الأبناء على الوجه الأمثل الذي عشناه مع أمهات الزمن الجميل..!!
الأم حجر الزاوية وعمود الخيمة لكل أسرة، وإذا صلحت صلح بنيان المجتمع، وإلا فقل على الدنيا السلام..أما مكانتها العظيمة فليست في حاجة إلى دليل؛ ويكفي ما قاله رسولنا الكريم حين جاءه رجل فسأله: مَن أَحَقُّ النَّاسِ بحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قالَ: أُمُّكَ قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ثُمَّ أُمُّكَ قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ثُمَّ أُمُّكَ قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ثُمَّ أَبُوكَ.
أمهات زمان رغم أمية كثير منهن فقد كن مدرسة تعلم أبناءها كل شيء، كن يمتلكن استقامة وفطرة سوية وقدرة على التربية بعطف وحنان واحتواء وإقناع وتبصير يتسلحن بالصبر والإرادة ووضوح الهدف والتسامح وإنكار الذات والإخلاص..وإذا أردت دليلاً على قولى فانظر في نتاج أمهات الأمس ونتاج أمهات اليوم من الذرية والأبناء، فأي الأخلاق أقوم، أخلاق أجيال الأمس أم أخلاق أجيال اليوم..أخلاق الكتاب المطبوع والمدرسة التقليدية أم أخلاق رواد السوشيال ميديا والتكنولوجيا..؟!
ولا نحتاج لجهد كبير حتى ندرك ما بين أمهات اليوم وأمهات زمان من فارق شاسع لصالح الماضي؛ فأمهاتنا لم يتعلمن في الجامعات لكنهن كن جامعات وحدهن.. أما أمهات اليوم فقد شغلتهن مواقع التواصل الاجتماعي ومطالب الحياة عن التربية الواجبة للأبناء على نحو يبنى جيل صحيح من الأبناء البررة، فكانت النتيجة أن شهدنا جيلاً لا يبالي بمكانة الأم ولا يصرف جهده لإرضائها والتودد إليها رغبة في تحصيل ثواب البر بها والإحسان إليها  أو حتى لرد جميلها ..عملاً بقول الله تعالى :" وقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا"[ الإسراء: 23].
الاحتفال بعيد الأم تقليد عالمي ابتكرته الأمريكية آنا جارفيس، وكانت شديدة الارتباط بأمها التي كانت تحلم بتكريم كل الأمهات ؛ ولتحقيق حلمها تبنت ابنتها "آنا" حملة واسعة شملت رجال الأعمال والوزراء ورجال الكونجرس، لإعلان يوم عيد الأم عطلة رسمية بأمريكا، وظلت جوليا تعزز هذا الطلب حتى جعل الرئيس ويلسون هذا العيد عيداً رسمياً وطنياً،  وبالفعل جرى تكريم الآنسة آنا جارفس في جرافتون غرب فرجينيا وفلادلفيا وبنسلفانيا في 10 مايو 1908، وكانت هذه بداية الاحتفال بعيد الأم في أمريكا، ومع قدوم عام 1911 كانت كل الولايات المتحدة تحتفل بهذا اليوم، ووافق الكونجرس الأمريكى رسميًّا على الإعلان عن الاحتفال بيوم الأم، في 10 مايو.
ثم انتقل هذه التقليد إلى مصر عن طريق الأخوين مصطفى وعلى أمين مؤسسى صحيفة «أخبار اليوم»؛ إذ قامت إحدى الأمهات بزيارة مصطفى أمين في مكتبه، وقالت إنها ترمَّلت وأولادها صغار، ولم تتزوج، وأوقفت حياتها عليهم، حتى تخرجوا في الجامعة، وتزوجوا، واستقل كل واحد منهم بحياته، ولم يعودوا يزورونها إلا على فترات متباعدة؛ فما كان من مصطفى أمين إلا أن اقترح في عموده الشهير «فكرة» تخصيص يوم للأم وكذلك فعل على أمين، ووافق أغلبية القراء على الفكرة وشاركوا في اختيار يوم 21 مارس ليكون عيدًا للأم في كل عام، واحتفلت مصر بأول عيد أم يوم 21 مارس 1956 ومن مصر انتقلت الفكرة إلى سائر البلاد العربية.
والسؤال: هل يكفي يوم واحدٌ لتكريم الأم، مصدر الحياة ونبع الحنان، ورمز العطاء والتضحية لأجل بنيها مهما تكن الآلام..؟!
تكريم الأمهات واجب والبر بهن أوجب، بل فريضة من يتخلف عنها يضع نفسه موضع الجحود والعقوق..
ما نراه اليوم من جحود كثير متن الأبناء ربما يطرح سؤالًا مهماً: هل الأبناء الذين لا يحسنون لوالديهم خصوصًا في سن كبيرة، هم، في الأصل، نتاج التربية الخاطئة..؟! 
قد يقول قائل إن من أحسن تربية ولده في الصغر سيجني بره عند الكبر..لكن ارتباط الأمرين ليس مطردًا؛ ذلك أن الوالد قد يحسن تربية ابنه، لكنه يصير عاقا حين يكبر، وكذا قد يسيء الوالد تربية ولده، ثم يكبر الولد ويهديه الله تعالى، فيصير بارا بوالده.
الأم أول حاضنة وأول مربية وأول مرشدة للأبناء.. فإذا كانت "جذور التربية مُرَّةً" بتعبير أرسطو فإن "ثمارها حلوة" ليس للأسرة فحسب بل للمجتمع والأمة بأسرها.
ولا عجب والحال هكذا أن تكون للأم كل هذه المكانة؛ فقد تعبت في الحمل لقوله تعالى: "وحملته أمه وهناً على وهن" ثم في الولادة : "حملته أمه كُرهاً ووضعته كُرهاً"، ثم في الرضاعة: "وحمله وفصاله في عامين" ثم في التربية والتنشئة وغرس القيم والأخلاق الفاضلة..هكذا كانت الأم في الزمن الجميل ؛ كانت قدوة ومَدْرَسةً حتى قال فيها الشاعر:
الأم مدرسة إذا أعددتها   أعددت شعباً طيب الأعراق
ما أصعب التربية في زمن السوشيال ميديا، وما أصعب ما يعانيه الآباء والأمهات من مرارة ومعاناة فى تربية جيل يكاد اغترب في الفضاء الإلكتروني الذي هو لغة عصرهم وهم أبناء زمانهم؛ الأمر الذي يضاعف صعوبات التربية الحقة لتخريج أجيال سوية قادرة على خوض غمار الحياة وتحدياتها وتحولاتها فائقة التطور التي ألقت ولا تزال بأعباء جسام على الوالدين ثم على المؤسسات المعنية بصناعة العقل والوجدان والأخلاق.
كان الله في أمهات اليوم الواعيات بدورهن الحقيقي فى غرس القيم الدينية والمجتمعية السوية، وتكريس التقاليد والأعراف القيمة لتهذيب سلوكيات وربما شطحات الأبناء، لينشأوا قادرين على مواجهة أعباء الحياة واختباراتها، متسلحين بوعي رشيد مستنير وحس إيماني عميق ويقين راسخ متين وهوية لا تقدر رياح الشائعات ولا صعوبات الحياة على هزها.
ما أقسى التربية الحقة في زماننا.. وما أروع ثمراتها إن كانت تقوم على الفضيلة وتستلهم سيرة العظماء والصالحين من أمتنا.
أمهات السوشيال ميديا في مهمة هي بحق معضلة حقيقية؛ فليس بوسعهن منع الأبناء من ارتياد الفضاء الإلكترونى..,كيف يفعلن ذلك وهن بالأساس لا يستطعن منع أنفسهن عن ارتياد آفاقه ..فإذا كان تيار السوشيال ميدياً جارفًا للوالدين إلا ما رحم ربي فكيف بحال الصغار ..؟!
أغلب أمهات اليوم جرفهن تيار الفضاء الإلكتروني وشغلهن عن تربية الأبناء فاكتفين بإطعامهن وكسوتهن وتشاغلن عن تربيتهن بالمعنى الأعمق للتربية؛ حتى خرجت أجيال  تخجل حين تسمع لغتهم في الشارع وما ينطقونه من ألفاظ جارحة وخادشة للحياء تنبيء عن انحطاط وتردٍ أخلاقي خطير ولمَ لا وقد تركوا لفضاء إلكتروني بحوره غريقة فصاروا فريسة سهلة لصيادين خبثاء يصطادونهم تارة بألعاب إلكترونية مدمرة وتارة بشائعات ومعلومات مضللة ..ولا تستغرب إذا رأيتهم تطرب آذانهم لسماع أغنيات المهرجانات وضجيج الموسيقى التي بدلاً من أن تبني الوجدان والروح تلوثهما بأصوات فجة ومعان رديئة منحطة.
اليوم نحن إزاء إشكالية كبرى، آباء وأمهات لا يتركون هواتفهم من أيديهم وينشغلون بها عن أقرب الناس إليهم يتواصلون مع البعيد ويغفلون حق القريب ثم يريدون أن ينشأ أبناؤهم صالحين واعين لما يحيط بهم، فكيف يريدون أن يشيدوا بناء تربويًا راسخا في أبنائهم وهم يجهلون أبسط مقومات هذا البناء.
لا خلاف ن أبناءنا خلقوا لزمان غير زماننا كما يقول الفيلسوف أفلاطون:  " لا تكرهوا أولادكم على آثاركم ، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم ". .لكن ذلك لا يعنى تركهم وما يريدون فليس كل ما يريدونه صالحاً أو نافعاً بل  لابد من التدخل ليس بالمنع والزجر وحدهما بل بالحوار الهاديء المستند للحجة القوية لتعزيز مفاهيم الثقة بالنفس، والحرية.
مهمة أمهات السوشيال ميديا- إن جاز التعبير- أصعب؛ ذلك أن عليهن أن يعرفن أن أفضل الطرق هو التربية بالقدوة الحسنة ؛ ومن ثم فعليهن أولًا التخفف من هيمنة الفضاء الإلكتروني حتى يستطعن إقناع الجيل الجديد بترشيد التعامل مع التكنولوجيا، وحتى يجدن الوقت الكافي ليتفرغن للأبناء وهو ما يتطلب منهن جهداً جبارًا وموازنة دقيقة بين إعطاء الحرية للأبناء للتعامل مع التكنولوجيا وعدم الإغراق فيها.. وأن يراقبن حسابات أبنائهم على مواقع التواصل، وأن يكون النقاش سلاحهن فى إقناعهم بالمسموح وغير المسموح للتوفيق بين تعاليم الدين والقيم والأعراف ومستجدات العصر.
أن عيد الأم مناسبة طيبة للتذكير بأفضال كل أم لكنه ينبغي ألا يقتصر على يوم واحد؛ بل ينبغي لكل ابن أن يبذل أقصى ما يستطيع لإرضاء أمه والبر بها إن أراد أن يرد لها الجميل، أو يدخل فيها الجنة جزاء بره وإحسانه إليها..فاغتنموا فرصة وجود الأم في حياتكم فهى نعمة لا يشعر بها إلا من فقدها.
أمي فعلت أقصى ما يمكنها لرعايتى وتمكيني من النجاح في الحياة، حتى تخرجت في  الجامعة وعملت في الصحافة..كانت نعم القدوة والعطاء والمشورة والاحتواء وتدبير احتياجات بيتنا براتب بسيط كان يتقاضاه والدي....رحم الله أمي وأبي وأسكنهما فسيح الجنات فقد رحلا  قبل أن أوفيهما ولو جزءًا يسيرًا من حقهما علىَّ..!!
**