يسير الذكاء الاصطناعي بخطوات تنافسية متسارعة مدعوما برغبة صناعه وانصاره في الهيمنة والتحكم في تطبيقاته، ومن ثم السيطرة على أسواقه في مختلف بقاع العالم وتوظيفها لتحقيق أهداف ومكاسب وإستثمارات ضخمة لا حدود لها.
وبين التسليم التام والمراهنة علي قدرة أنظمة الذكاء الاصطناعي على كسب جولات الحاضر والمستقبل تتابين الرؤي والقناعات حول إيجابياته المتعددة وقدرته الفائقة علي القيادة ،وبين التحفظ علي مدي دقته وطغيانه علي العقول البشرية وتحجيم دورها الابتكاري والإبداعي!.
البعض يري أن "ما يأتي سهلا يضيع سهلا"، ومع مرور الوقت سيتحول الإنسان لمجرد " آلة " تتحكم فيه آلة الذكاء الاصطناعي فائقة التطور.. والمثل يعني كما يعلم الجميع أن الأشياء التي ينجزها الإنسان أو يحصل عليها بسهولة أو بدون جهود كبيرة قد يفقدها الشخص بنفس السهولة التي حصل بها عليها، وما يأتي دون عناء أو جهد لا يترك أثرا ولا يدوم طويلا..
ووفقا للحسابات المادية ربما يصدق هذا المثل بطريقة أو أخري في الأمور المتعلقة بالجوانب العاطفية والاجتماعية، مثل علاقات الصداقة والعمل، والتدريب لاكتساب بعض المهارات وتعديل بعض الاتجاهات والسلوكيات ..الخ.
ولكن هل يصدق هذا أيضا في دنيا الذكاء الاصطناعي مع سهولة الحصول علي المعلومات وتحليلها وبيان أطر توظيفها ومعالجتها، مع تخوف الكثيرين من تحول آلة الذكاء الاصطناعي إلي "الآمر الناهي" ومن مجرد "مساعد" للإنسان إلي "منافس"؟!.
وأذكر أنه قبل إختراع الآلات الحاسبة كان الناس يجهدون أنفسهم في حسابات الجمع والضرب والقسمة، وربما تجد أناسا ممن لم ينالوا حظا من التعليم، لكنهم بارعين في الحساب الذهني للأرقام، والتي تنمي ملكات الإبداع والتفكير وتسهم بصورة مباشرة وغير مباشرة في تنشيط المخ و"صحصحته" بصورة دائمة.
ومع قدوم الحاسبات الإلكترونية وتطبيقات عصر الذكاء بدأ الغالبية العظمى من أبناء الدنيا في الاعتماد شبه التام علي تكنولوجيا العصر دون بذل جهد، أو أي مجهود ذهني، واقتصر الأمر علي مجرد الضغط علي "أزرار" التشغيل!.
وقد كان البحث العلمي قبل ابتكار أنظمة محركات البحث وتطبيقات الذكاء الاصطناعي يتطلب جهدا كبيرا ووقتا في البحث في المكتبات مع عقد لقاءات مع المتخصصين واستبيانات مكثفة، ومتنوعة، علاوة ما قد يتطلبه البحث من دراسات ميدانية وتجريبية، وقد كان الحصاد مثمرا والنتائج أقرب إلى الواقع، وتغير الحال تماما بعد دخول آليات الذكاء الموازي لعالم البحث العلمي..
نعم تطبيقات الذكاء الاصطناعي بإمكانها توفير الوقت والجهد والتكلفة في كثير من الأعمال والدراسات البحثية والإبداعية لكن إعمال العقل يجعله دائما في حالة من اليقظة والتأهب، مما يرسخ ملكات الإبداع ويفجر طاقات الابتكار والتميز.
وبين التفاؤل الحذر من أهمية فوائد الذكاء الاصطناعي وبين خفاياه ومثالبه يقف فريق من المتخصصين في حالة من التوجس من التأثيرات السلبية لأنظمة الذكاء علي قدرات الإنسان وخمول العقل، نتيجة الاعتماد غيرالعادل طوال الوقت علي العقول الصناعية الموازية!.
ووفقا لرؤي الخبراء فإن الاعتماد المفرط علي التكنولوجيا، ربما يؤدي مع مرور الوقت لما يعرف بـ"التبلد الفكري"، وهو حالة نفسية تتميز بالصعوبة في التفكير والتحليل والتفكير النقدي.
وفي هذا السياق كشفت دراسة حديثة نشرت مؤخرا أن الاعتماد "غير الواعي" على الذكاء الاصطناعي قد يضعف التفكير النقدي للبشر
وأفادت أنه قد يؤدي إلى تآكل مهارات التفكير النقدي لدى البشر.
وأكدت الدراسة التي أجراها فريق علمي من "مايكروسوفت"، وجامعة "كارنيجي ميلون" الأمريكية العريقة بولاية "بنسلفانيا"، أن الثقة المفرطة في أدوات الذكاء الاصطناعي تقلل من الجهد الإدراكي الذي يبذله الأفراد في إنجاز المهام، ما قد يجعلهم أقل قدرة على التفكير النقدي.
وسمت الدراسة بعنوان "الذكاء الاصطناعي وإدراك البشر" وأجريت على 319 محترفاً، وأظهرت أن ارتفاع مستوى الثقة في الذكاء الاصطناعي يؤدي غالباً إلى انخفاض الجهد الإدراكي المبذول في العمل.
وأظهرت النتائج أن الأشخاص الذين يعتمدون على الذكاء الاصطناعي دون التشكيك في نتائجه يكونون أقل ميلاً لممارسة التفكير النقدي، في حين أن الذين يتمتعون بثقة أكبر في قدراتهم الشخصية يكونون أكثر قدرة على النظرة النقدية.
ونوَّهت الدراسة إلي أن هذه النتائج تعكس تحولاً واسعا في طبيعة العمل المعرفي، حيث أصبح دور العاملين ليس فقط تنفيذ المهام، ولكن إدارتها والإشراف على نتائج الذكاء الاصطناعي، فبدلاً من القيام بالعمل يدوياً، يتعين على المستخدمين الآن تقييم دقة المحتوى الذي يولّده الذكاء الاصطناعي، ودمجه بفاعلية في سير العمل.
وقال "ليف تانكيلفيتش، أحد أعضاء فريق البحث أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون أداة لتعزيز التفكير النقدي إذا استخدمناه بشكل صحيح.
وأضاف أن "الذكاء الاصطناعي يمكنه توليد الأفكار وتعزيز الاستدلال، مما يدفعنا إلى رؤية ما هو غير متوقع وتحدي افتراضاتنا".
ولكن لتحقيق هذه الفوائد، أشار "تانكيلفيتش" إلي ضرورة التعامل مع الذكاء الاصطناعي كشريك في التفكير، وليس مجرد أداة لتوفير المعلومات بسرعة.
كما أوضح أن "جزءاً أساسياً من الحل هو تصميم تجربة مستخدم تحفّز التفكير النقدي بدلاً من الاعتماد السلبي على الذكاء الاصطناعي".
ويرى أنه يمكن تحقيق ذلك من خلال توفير واجهات ذكاء اصطناعي شفافة، تتيح للمستخدمين فهم طريقة استدلال الذكاء الاصطناعي، والتحقق من صحة مخرجاته.
ونتيجة للاعتماد المفرط فقد كشفت الدراسة أن العديد من المهنيين يواجهون صعوبة في تقييم مخرجات الذكاء الاصطناعي بشكل نقدي؛ بسبب نقص المعرفة التخصصية اللازمة لذلك.
وفي بعض المجالات التقنية، مثل برمجة الأكواد، أو التحليل المالي، قد يكون من الصعب اكتشاف الأخطاء دون معرفة متخصصة.
وعن ذلك، نبه فريق البحث إلى أنه "حتى عندما يدرك المستخدمون أن الذكاء الاصطناعي قد يكون مخطئاً، فإنهم لا يمتلكون دائماً الخبرة اللازمة لتصحيح الأخطاء.
كما بيَّنت الدراسة أن الثقة المفرطة في الذكاء الاصطناعي يمكن أن تؤدي إلى مشكلة تُعرف باسم "التفريغ الإدراكي" (Cognitive Offloading)، حيث يعتمد الأفراد بشكل مفرط على التكنولوجيا لأداء المهام الذهنية.
وهذا المفهوم ليس جديداً؛ فقد اعتمد البشر منذ فترة طويلة على الأدوات الذكية مثل الآلات الحاسبة، ونظام تحديد المواقع (GPS) لتخفيف العبء الإدراكي.
لكن الذكاء الاصطناعي التوليدي، الذي ينتج نصوصاً وتحليلات معقدة، يضيف مستوى جديداً من المخاطر، إذ قد يقبل المستخدمون النتائج دون مراجعة، أو تدقيق.
كما شددت الدراسة علي ضرورة التحقق من المخرجات ولحل هذه المشكلة، يجب على مطوري الذكاء الاصطناعي تصميم واجهات تحفز المستخدمين على التحقق من المخرجات، بدلاً من التسليم الأعمى بها.
ويمكن تحقيق ذلك من خلال إضافة ميزات مثل التفسيرات السياقية، وتقييمات الثقة، وعرض وجهات نظر بديلة عند الحاجة.
كما تحدثت الدراسة عن أن النماذج المعرفية العميقة تساعد في جعل التفاعل مع الذكاء الاصطناعي أكثر شفافية، مما يسهّل على المستخدمين مراجعة النتائج والتعلم منها.
ومن الأمثلة على ذلك، منصة الذكاء الاصطناعي Perplexity، التي توفر مساراً منطقياً واضحاً، يشرح كيف توصل الذكاء الاصطناعي إلى النتائج.
ويمكن أيضاً تحسين واجهات المستخدم من خلال مطالبة المستخدمين بإجراء مراجعات نشطة لمخرجات الذكاء الاصطناعي، بدلاً من قبولها بشكل فوري.
وعلاوة علي التخوف المشروع للعقول البشرية من هذه المنافسة غير محمودة العواقب تحذر دراسات أخري من تنامي الآثار السيئة المحتملة لتطبيقات الذكاء الاصطناعي علي مختلف الجوانب الاجتماعية والأخلاقية والبيئية والصحية، فالتنافس علي أشده بين صناع التطبيقات الجديدة لتقديم كل هو جديد مع رصد مخصصات مالية كبيرة بمليارات الدولارات وتزايد توقعات مردودها ومكاسبها الإستثمارية الضخمة.
ويبدو أن الايام وحدها هي الكفيلة بالحكم علي نتائج صراع الإنسان مع دنيا العقول الصناعية الموازية ..ولمن تكون الغلبة؟!.
وما يخشاه بعض الخبراء، وأتفق معهم تماما أن يتحول التبلد الفكري لمرحلة التبلد الإبداعي وهو حالة نفسية تتميز بالصعوبة في التفكير الإبداعي والابتكار، ويمكن أن يؤدي إلى الشعور بالجفاف الإبداعي والصعوبة في تصميم أو إنشاء أعمال جديدة.
ومن ثم فهناك حتمية وجودية لمراجعة وترشيد الاعتماد علي مختلف تطبيقات العقول الصناعية للإبقاء علي حياة وصلاحية العقل البشري.. وهذا أمر من الممكن تحقيقه لكن دون سؤال تطبيقات الذكاء الاصطناعي المتحفزة.. كيف يتم هذا.!.