هيرمس
    مصر
  • 29℃ القاهرة, مصر

رئيس مجلس الإدارة

طارق لطفى

رئيس التحرير

أحمد سليمان

معاً للمستقبل

على هامش "المسئولية الطبية"..!!

 

بعد حوار مكثف بين الجهات التشريعية ونقابة الأطباء حول مشروع قانون "المسئولية الطبية وسلامة المريض" جرى إدخال تعديلات جوهرية عليه استجابةً لمطالب نقابة الأطباء، وهو مشروع القانون الذي وافقت عليه لجنة الشئون الصحية بمجلس النواب، ومن أبرز هذه التعديلات إلغاء عقوبة الحبس في حالات الخطأ الطبي غير الجسيم، والاكتفاء بالغرامة المالية، مع الإبقاء على عقوبة الحبس في حالات الخطأ الطبي الجسيم. 
كما تم تعديل مسمى مشروع القانون ليصبح "المسئولية الطبية وسلامة المريض" بدلاً من "حماية المريض"، كما تم إضافة تعريف للخطأ الطبي الجسيم، والتأكيد على دور اللجنة العليا للمسئولية الطبية كجهة استشارية لجهات التحقيق والقضاء في القضايا المتعلقة بالأخطاء الطبية. 
هذه التعديلات جاءت، بهدف تحقيق توازن بين حماية حقوق المرضى وضمان بيئة عمل آمنة وعادلة لمقدمي الخدمات الطبية. 
والسؤال: أليس الطب في كل بلاد الدنيا واحدًا فلماذا لا يتم الاسترشاد بما هو مطبق في الدول المتقدمة طبيًا، إذا أردنا معيارًا سليمًا للحكم على أخطاء بعض الأطباء خصوصًا الجسيمة منها، إذا أردنا الإنصاف والاعتراف بأن هناك أخطاء طبية جسيمة تزهق بسببها أرواح بريئة، وهى أخطاء ستظل استثناءً من القاعدة التي تقول إن لدينا في مصر أطباء أكفاء وكتيبة طبية نجحت بامتياز في عبور جائحة كورونا بأقل خسائر، وبأقل مقومات مقارنة بمنظومات صحية لدول كبرى تعثرت في امتحان كورونا.
ليس من مصلحة أحد تطفيش الأطباء ولا التضييق عليهم بقوانين مشددة ودفعهم للهجرة للعمل خارج مصر، وكفانا نزيفًا للعقول المهاجرة في تخصصات كثيرة أبرزها الطب بطبيعة الحال، ولابد أن نفكر في طرقٍ جذب لاستعادة تلك العقول أو على الأقل تمتين أواصر الصلة بهم للاستفادة بعقولهم عن بعد لدفع مسيرة الوطن الذي له حق على هؤلاء المغتربين بما وفره له من تعليم ورعاية تمكنوا بسببها من الوصول لما هم فيه.  
كما نرجو للقانون الجديد أن يضمن تحقيق الشفافية بين الطبيب والمريض، دون تشدد لا مبرر له أو تفريط لا تحمد عقباه، وأن يحقق للأخير ملاذًا آمنة ومعاملة كريمة من الأطباء الذين يستنكف بعضهم أن يشرح للمرضى لاسيما البسطاء منهم، حالتهم المرضية وما تتطلبه من إجراءات، وأن تنهض نقابة الأطباء بدور أكبر في الوصول للأمان الطبي، وأن تشكل لجنة في كل محافظة ومركز يمكن اللجوء إليها لتقييم أي أخطاء قد يرتكبها أحد أعضائها قصدًا أو عن غير قصد، على أن تتخذ ما يلزم من إجراءات رادعة دون النظر في الحسابات الانتخابية..فالنزاهة أكبر ضمانة للحفاظ على حق المريض والطبيب والمجتمع، والأهم حفظ الهيبة لمهنة الطب ذاتها وللحكماء أنفسهم.
كما نرجو أن يتم النظر للمنظومة الطبية برمتها، وأن يجري استحداث قوانين وإجراءات مرنة تستجيب لتحديات الوقت، وأن تأخذ بعين الاعتبار تحسين أوضاع الأطباء ماديًا ومهنيًا، لكي يتفرغوا بقناعة وعن طيب خاطر لرعاية مرضاهم خصوصًا في المستشفيات والوحدات الصحية الحكومية، لأنهم في النهاية ثروة قومية لمصر ينبغي الحفاظ عليها وتنميتها وتعظيم الاستفادة منها، كما لابد من إعادة النظر في كيفية تخفيف الأعباء عن المرضى الذين يعانون غلاء أسعار الكشف عند الأطباء خصوصًا كبارهم ومشاهيرهم والذين يرفعون الفيزيتا دون مبرر ودون قواعد عادلة، وفي الوقت نفسهم لا ينطبق عليهم ما ينطبق على المواطن الغلبان الذي تستقطع منه الضرائب من المنبع على محدودية ما يتقاضاه من أجور..فلماذا لا يُعامل كبار الأطباء ضريبيًا معاملة محدوى الدخل والموظفين. 
أليست المغالاة في الكشف والتهرب من الضرائب مما يقع ضمن اختصاص إدارة العلاج الحر بوزارة الصحة..أليست الأخطاء الطبية ومواجهتها من واجباتها الأصيلة..لماذا نترك المواطن المريض فريسة في أنياب من لا يرحم مرضه وضعفه واحتياجه ليزيد همه ويضاعف أعباءه ويستغل لحظات ضعفه..؟!
أين الرحمة ممن يفترض أنهم ملائكة الرحمة..أين هم من قول ربنا عز وجل: " وتواصوا بالمرحمة"..ولا من قول نبينا الكريم: "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" ..؟!
وفي المقابل ينبغي أن تتدخل وزارة الصحة بالتعاون مع نقابات المهن الطبية لوضع قواعد عادلة لأسعار التحاليل الطبية، خصوصًا أن بعض المعامل الكبرى تكيل بمكاييل عديدة في تحديد أسعار التحاليل والأشعات، وهو دفع ثلاث نقابات بينها نقابة الصحفيين لاتخاذ موقف حازم بوقف التعامل مع بعض تلك المعامل حتى إشعار آخر، ابتغاء تحقيق العدالة والإنصاف لأعضائها.
أما نواقص الأدوية وزيادة أسعارها بصورة مستمرة تفوق قدرات السواد الأعظم من شعبنا لاسيما أرباب المعاشات وأصحاب الأمراض المزمنة فإن الحكومة رغم ما تبذله من جهود لتوطين صناعة الدواء وتوفيره بأسعار في متناول الناس، لكن نواقص الأدوية لا تزال مشكلة موجودة تتطلب حلولًا أكثر حسمًا ونجاعة ولابد من مشاركة نقابتى الأطباء والصيادلة للتوافق على البدائل المناسبة التي تسهم في حل المشكلة، كما ننتظر دورًا أكثر فعالية من لجنة الصحة بالبرلمان، وكذلك قسم العلاج الحر بوزارة الصحة لتحديد آلية ناجزة لتحديد قيمة عادلة للكشف والفحوصات والأشعات والتحاليل رحمة بظروف المرضى.

أما الأخطاء الطبية فهى ظاهرة عالمية تؤكدها أرقام منظمة الصحة العالمية التي تقول إن تلك الأخطاء تزهق أرواح 5 مرضى في كل دقيقة حول العالم، ونحو مليونين و600 ألف شخص سنوياً.. وفي مصر تتسبب في وقوع 3% من الوفيات.
ورغم أن ضحايا الخطأ الطبي يفوق ضحايا الحروب والأوبئة والانتحار والأمراض الفتاكة مجتمعة في العالم كله فإنه يمكن تلافي 83% من تلك الأخطاء إذا ما تبنت الدول- بحسب منظمة الصحة العالمية- سياسات مأمونة داخل منشآتها الصحية..وهو ما يستلزم كثيراً من الجهد المنظم والتوعية بخطورة المسألة المتعلقة بحياة الإنسان أكرم مخلوقات الله في الأرض..ناهيك عن ضرورة الحماية القانونية للضحايا  والردع للمخطئين المهملين وتوفير التأمين والتعويض المناسب حال وقوع مثل الأخطاء.
نحن أمام ظاهرة خطيرة ويكفي دليلاً عليها ما أكدته جامعة مانشستر في بحث لها من أن 6% من المرضى يتعرضون للإعاقة أو الموت بسبب أخطاء طبية تعتبر هي ثالث أسباب الموت في أمريكا بعد أمراض القلب والسرطان بحسب موقع CNBC الأمر الذي يجعلها مشكلة صحية عامة وخطيرة تهدد سلامة المرضى وتنشر الفزع بينهم، كما أن ارتفاع معدل التقاضي بسبب الخطأ الطبي ينعكس إيجابياً على جودة الممارسة الصحية حيث يزداد الحذر والتدقيق خشية العقوبة..فمن أمن العقاب أساء الأدب كما يقولون.
وزارة الصحة قدرت وقوع آلاف الحالات من الأخطاء الطبية سنوياً، يجري بسببها شطب الأطباء المخطئين كما تقول نقابتهم ..لكن ذلك لم يكف لحصار هذه الظاهرة الخطيرة التي يقف القانون عاجزاً عن منعها أو مواجهتها..وقد تبين من خلال دراسة أجراها خبير العلوم الجنائية اللواء رفعت عبد الحميد عن الخطأ والإهمال الطبي الجسيم ومسرح الجريمة انعدام التشريع والمسئولية الجنائية في مواجهة تلك الأخطاء في الفترة من 1937 وحتى وقتنا هذا وليس هناك تفسير أو تعريف قاطع للتفريق بين الخطأ والإهمال الطبي الجسيم الذي يتسبب في وفاة مريض أو إصابته بعاهة مستديمة؛ ومن ثم فلا مناص والحال هكذا من تشريع حاسم يجرم ذلك. وهو ما يستلزم قانونًا رادعًا وتعريفاً جامعاً مانعاً لكلا اللفظين يفرق بينهما بدقة ويضع لكل واحد منهما ما يناسبه من العقوبة الرادعة التي تحمي حقوق المريض والطبيب وجميع أطراف العملية الطبية.
فهل ينجح القانون الجديد للمسئولية الطبية في إنهاء فوضى الأخطاء الطبية القاتلة، وإلزام مقدمي الخدمة بالتأمين الإجباري لجميع العاملين في المنظومة الطبية حتى يحصل أي مريض تضرر على حقه المناسب في التعويض المالي حال تضرره من خطأ أو إهمال طبي جسيم لحق به بأي صورة كانت، على أن تُسند مهمة الحكم بوقوع ذلك الضرر إلى لجنة طبية على أعلى مستوى، وأن تترك الولاية القانونية في تلك المسألة للنيابة العامة والقضاء وليس لنقابة الأطباء، تفادياً لأي شبهة انحياز أو تعاطف لأعضائها لاعتبارات مهنية أو انتخابية. 
ونرجو لقانون المسئولية أن يصدر بأسرع ما يمكن متضمناً سد كل الثغرات، وأن يكفل الحماية اللازمة للمريض والطبيب معاً فإننا نأمل كذلك أن يلزم المستشفيات بالتجهيز طبقا لمعايير معتمدة، كما هو مُطبق فى كل دول العالم، خاصة فى الحالات الحرجة ذات نسب الشفاء القليلة، حتى لا يتردد الأطباء فى عمل التدخلات الطبية خوفا من الوقوع فى مساءلة قانونية أو ابتزاز، وأن يبذلوا أقصى جهودهم لإنقاذ هذه الحالات.
وفي رأيي أن صدور القانون مراعياً لكل تلك الاعتبارات من شأنه أن يبث الطمأنينة في نفوس المرضى وذويهم كما يسهم بالدرجة ذاتها في تقليل هجرة الأطباء إلى الخارج وفقدان كفاءات وكوادر يصعب تعويضها في بيئة تعاني نقصاً ظاهراً في الأطباء والتمريض أيضاً، وهو ما يتطلب من أعضاء مجلس النواب دعم هذا القانون، وسرعة إقراره ليعطي كل ذي حق حقه.
أملنا أن تختفي ظواهر سلبية كالأخطاء الطبية الكارثية في الجمهورية الجديدة خصوصاً وأن هناك اهتماماً ما بعده اهتمام من رئيس الجمهورية بتحسين حياة المواطن وجودة ما يقدم له من خدمات طبية تعدد من أجلها المبادرات الرئاسية بدءاً من 100 مليون صحة مروراً بمبادرة علاج فيروس "سي" التي حققت نجاحًا كبيرًا أشادت به منظمات دولية معتبرة..فهل يخرج القانون الجديد بصورة تحقق التوافق والإنصاف لكل أطراف المنظومة الطبية؟!