•• يتحدث المواطنون من كل الفئات والطبقات .. من رجل الشارع إلى النخب المثقفة ؛ عن وجود تراجع فى القيم وتغير فى السلوكيات واختلاف فى العادات والتقاليد الراسخة وتسيب فى الشوارع ؛ مما أدى إلى انحدار فى الذوق العام وانهيار فى
الأخلاقيات !! .
يتفق الجميع على رصد نشوء ظواهر دخيلة على المجتمع وتحولات فى شخصية « ابن البلد » المصرى الأصيل .. ولكنهم يختلفون على الأسباب .. فالمواطن البسيط رجل الشارع يرى أن المشكلة اقتصادية وان الخبز أولاً .. بينما يؤكد رجال الأحزاب والنخب المثقفة أن مشكلتنا سياسية فى المقام الأول وان الحريات قبل العذاء .. وفى الأصل أن كلاهما مُحق .. وأن كان فى الحقيقة مشكلتنا اجتماعية ثقافية قبل أى شىء آخر .. كما ان هناك فجوة كبيرة بين النخب السياسية والفكرية وبين الشعب .. بل بين المواطنين أنفسهم .. وهذه الفجوة تتسع كل يوم !! .
بالتأكيد أسباب التغيير فى الشخصية المصرية متعددة تحدثنا عنها كثيراً .. ولكن هناك سبباً نراه يستفحل ويتزايد ويكبر مثل « كرة الثلج » التى تجرف كل ما فى طريقها .. وهذ السبب يمكن أن نطلق عليه« ثقافة الانعزال » أوالتقوقع داخل شرنقة تحمى من فيها مما هو خارجها !! .
منذ سنوات كتبت عن ظاهرة تلوح فى الأفق مطالباً بدراستها قبل أن تستفحل وتهدد الترابط بين المواطنين .. حيث كانت مازالت فى بداياتها وأعنى بها إنشاء المجمعات السكنية المغلقة والمؤمنة ببوابات لا تسمح إلا بدخول السكان وتمنع « الأغراب » من الاقتراب إلا بإذن من الأمن الخاص بها .. وهى محاطة بأسوار تجعلها مثل القلاع والحصون تحمى من بداخلها وتوفر لهم الأمن والأمـان والخصوصية وتبعد « عيون المتطفلين » .. ويُطلق عليها اسم « الكومباوند » أو المنتجع أو المدينة !! .
كان من المفترض ألا نغمض أعيننا عن التغييرات فى المجتمع والتى تؤدى إلى التباعد والتفكك .. بل وقد تصل بالبعض إلى حد الاغتراب داخل الوطن .. حيث توفر هذه المجمعات السكنية كل شيء لساكنيها ابتداء من محلات السوبر ماركت إلى الملاعب والأندية والحدائق والملاهى والمدارس والجامعات الأجنبية .. والأمن .. فلماذا يخرج الناس من « الكومباوند » خاصة وأن جيرانهم يشبهونهم فى المستوى الاجتماعى والثقافى ويتحدثون لغة واحدة « بالطبع لن تكون اللغة العربية » .. والأهم إنهم لا يعيشون مع « باقى أبناء الشعب من الحرافيش أو الحبربش » فهولاء بعيدون عنهم وراء الأسوار والبوابات .. فلماذا لا يظل أهل كل تجمع سكنى « المعتزلة » يحتمون فى قلعتهم ؟! .
عندما حذرنا كان عدد التجمعات السكنية فى مصر لا يتجاوز أصابع اليدين .. واليوم أصبح لدينا فى القاهرة وحدها حوالى ألف « مجمع سكنى ومنتجع » وبدلاً من التباهى بأن القاهرة كانت يوماً ذات الألف مأذنة يمكن القول إنها « قاهرة الألف كومباوند » .. ولم تعد فى أماكن محددة بل انتشرت فى كل مكان من التجمع الأول والخامس إلى 6 أكتوبر ومن الشيخ زايد إلى المقطم ومدينة نصر .. بل وانتقلت العدوى إلى الأحياء الشعبية والمحافظات .. تلك الظاهرة التى بدأت فى الثمانينات بالساحل الشمالى فى صورة منتجعات وقرى سياحية تحولت للأسف إلى كيانات صغيرة تفتت المجتمع فى أنحاء الجمهورية !! .
خطورة هذه المجمعات السكنية إنها تعزل من بداخلها وتجعل سكانها عندما يخرجون منها يشعرون بالغربة ولا يحبون أن يغادروها وإذا حدث فأنهم يهرولون للعودة سريعاً ليحتموا وراء البوابات الالكترونية وخلف الأسوار العالية .. وفى نفس الوقت فإنها تجعل من خارجها يسعون للقفز فوق هذه الأسوار ويحلمون بالعيش فيها أو بمشاهدة تلك الحياة التى بهرتهم بها « الاعلانات الاستفزازية » حيث الهدوء والجمال والخضرة والوجه الحسن « وإيه الدنيا الحلوة دي » ؟! .
البوابات الإلكترونية وكاميرات المراقبة والأسوار العالية تحولت إلى حاجز نفسى بين أبناء الوطن .. ويمكن القول انها فى طريقها لان تقسم البلد إلى بلدين .. صحيح إنه منذ الأزل وهناك أحياء « لأولاد الذوات » والأغنياء واخرى شعبية فى الأزقة والحارات ولكنها كانت أماكن مفتوحة ومتاحة للجميع يمكن رؤيتها .. ويختلط فيها الجميع ويتفاعلون معاً ويتبادلون الثقافات والعادات وكانت الطبقة الوسطى " عندما كانت غالبية المجتمع " تربط بين الجناحين وهى رمانة ميزان الأمة .. وكان كل عصر تنتهى منطقة راقية وتتحول إلى شعبية وتظهر منطقة اخـرى تماماً كما حدث للحلمية وحدائق القبه وعابدين التى بدأت للأغنياء والباشاوات ثم بعد فترة ورثها « أولاد البلد » ثم ظهرت جاردن سيتى والزمالك ومصر الجديدة .. فالى ماذا تحولت الآن وكيف أصبحت ؟! .
لابـد من الانتباه .. ومطلوب المصارحة ودراســة التغيرات الاجتماعية وأسبابها .. وعدم الوقوع فى فخ التفرقة بين أبناء الشعب أو السماح بانعزال فئه عن الآخرين أو تميزها وتصنيف المجتمع إلى سكان « الكومباوندات » وباقى الاحياء .. وللأمانة فيجب الاشادة بمبادرة الاسكان الاجتماعى الذى يقيم مبانيه فى كل الأحياء دون تمييز فبجوار المدن والمجمعات السكانية الغالية المشهورة تجد عمارات للإسكان الاجتماعى وهذه خطوة لتصحيح ما يحدث من تفرقة والعودة لدمج أبناء الوطن الذى يتسع للجميع .
اذا كنا نسأل عن عودة الشخصية المصرية فمقوماتها جاءت من اندماج جميع المصريين بلا تفرقة وعدم شعور البعض بانهم من ( طينة أخرى ) .. فكان الفقراء مع الاغنياء .. وأولاد الذوات بجوار سكان القرى والعشوائيات .. وما نشهده من تغييرات فى صميم تلك الشخصية واللامبالاة التى نراها فى شوارعنا لأن كل طرف أصبح ينحاز إلى تجمعه أو مجموعته أو فئته أو ناديه و« كومباونده » وبذلك انقسم المجتمع إلى مجموعات صغيرة كل منها له ثقافته وقوانينه ولوائحه التى تحكمه فى التعامل وتخلصه من عدم وجود متنفس يعبرون فيه عن انفسهم .. ويهربون إلى هذا المكان المغلق من الفوضى والعشوائية التى طغت على الشارع و أدت لان تلوذ كل مجموعة بنفسها لتحميها من ضغوط الحياة ومن الآخرين !! .
مازلنا نتفاءل بالمستقبل لان صمود الهوية المصرية عبر السنين من أول الزمان يعنى إنها قادرة على تخطى كافة الظواهر العارضة بشرط أن ننتبه وندرس ونعالج « العزل الكومباوندى الاختياري » ونعيد بناء شخصية « ابن البلد » اجتماعياً وثقافياً ونزيد من الترابط بين ابناء الوطن .. ومازال للحديث بقيه اذا كان فى العمر بقية باذن الله !! .