مع تسارع وتيرة الإبداعات في حقل البرمجيات وأنظمة التحول الرقمي وتطبيقات الذكاء الاصطناعي متعددة الاستخدامات، تثور تساؤلات جمة حول دور العرب في هذه المنظومة متسارعة الخطي والقفزات.
ولم يعد من نافلة القول والفعل حتمية المشاركة الفاعلة، والإسهام بتقديم برمجيات وتطبيقات ذكية بمواصفات تتسق مع الخصوصية الحضارية والثقافية والهوية العربية الأصيلة، بعيدا عن التكنولوجيا المستوردة بما تحمله من مقابح وأدبيات وقيم لا تراعي هذه المحددات وتلك المرتكزات الراسخة.
وفي الآونة الأخيرة هذا ظهرت دعوات متعلقة من بعض النخب والمفكرين والخبراء لتدشين منصات تواصل بديلة، بهوية عربية التصميم والتشغيل والهدف، من أجل مغادرة مقاعد المستهلكين للتكنولوجيا إلي الإسهام في صناعتها وإنتاجها.
كما استهدفت الدعوات الموجهة للمبدعين وصناع البرمجيات العرب المطالبة بضرورة تفهم طبيعة هذه المرحلة التي تتسم بالدقة والخطورة، وتقديم برامج موزاية بخوارزميات موضوعية وغير متحيزة تعبر بصورة صادقة عن هموم وتطلعات الدول العربية للتنمية والتحديث الشامل، بعد أن دخلت معظمها في إطار تصنيف الدولة الناشئة الساعية للنمو ولإحداث طفرات تنموية ومستدامة للحاق بركب العالم المتقدم.
وبعد هذا الانحراف الفاضح لوسائل الإعلام الغربية وشبكات التواصل عن كشف حقيقة ما يحدث في غزة من مجازر ومذابح وإبادة جماعية، وممارسات لاإنسانية، علاوة علي تجاهل آلة الإعلام الغربي للقضايا والحقوق العربية، كان لزاما البحث عن آليات للخروج من هذه الدائرة المزيفة، وإيجاد وسائل وقنوات تتسم بالتعبير الصادق ونقل الصورة بلا رتوش ورصد الأحداث بلا تحيز أو تزييف وسرد القصة بتفاصيلها الحقيقية.
ووفقا لمعطيات الواقع من الإنصاف إدراك أن العرب يمتلكون من المقدرات والقدرات والعقول والكفاءات البشرية ما يؤهلهم لخوض غمار هذه المنافسة، بل والمناطحة والسعي الجاد لتوطين صناعة البرمجيات وتوظيف تقنيات العقول الصناعية الموزاية لخدمة العلوم النظرية التطبيقية، وكافة المشروعات التنموية وتعزيز الاستثمار في التكنولوجيا الذكية والابتكارات، التي تضعنا على المسار الصحيح لتحسين نواتج رأس المال البشري الذي تزخر به أمتنا العربية والإسلامية.
كما أن غالبية الدول العربية تتبنى اليوم، استراتيجيات لتعظيم الاستفادة من المفرزات الإيجابية، ونواتج الذكاء الاصطناعي وإحداث تطور في عملية التحوّل الذكي وخوض غمار المنافسة العالمية في المجال.
وفي هذا الشأن تأسست خلال السنوات الأخيرة في عدد من الدول العربية العديد من الشركات والمؤسسات المتخصصة في تقديم الحلول البرمجية المتقدمة، من بينها تطوير أنظمة المشاريع الشبكية، والتطبيقات الذكية، والبرامج السحابية في شتى المجالات الإدارية والفنية، مشاريع التحوّل الرقمي للانتقال بأعمال المؤسسات العامة والخاصة من النظام الورقي إلى النظام الإلكتروني الشبكي.
كما ركزت على تفعيل مشاريع التكنولوجيا المعلوماتية في مختلف قطاعات الاقتصاد، والتعليم والإدارة وغيرها.
وتظل الآمال معقودة على تنفيذ استراتيجيات التنمية المستقبلية في بلدان العرب، إذا ما توفرت لها سبل وعوامل تنفيذها، خاصة وأنّ بها مشروعات رائدة تهتم بقطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ومشاركة الموارد البشرية في منتجاتها وما تقدمه من خدمات.
وقد كشفت تقارير إعلامية أن هناك بعض التجارب العربية في صناعة البرمجيات،
تسير في طريق النجاح المنشود وتشجع على خوض مزيد من التجارب والمحاكاة الإلكترونية الجادة.
وقد تكللت هذه الجهود خلال السنوات القليلة الماضية باجتياز 100 شركة برمجيات في 12 دولة عربية للتقييم النهائي لشهادة الاعتمادية CMMI من تطوير معهد هندسة البرمجيات الأمريكي التابع لجامعة "كارنيحي ميلون" لتحسين الإجراءات ونضوج القدرة والفعالية في إنتاج البرمجيات وهي: "مصر، والأردن، والسعودية، والإمارات، وسوريا، ولبنان، والكويت، والمغرب، وقطر، والبحرين، وعمان، وتونس".
وأوضحت التقارير أن مصر تصدرت قائمة 50 شركة، ثم الأردن: 10 شركات، ثم السعودية والإمارات: 8 شركات، ثم سوريا: 4 شركات، ثم الكويت ولبنان 3 شركات، ثم المغرب وقطر: شركتان، وأخيرا البحرين وعُمان وتونس: شركة واحدة في كل منهما.
ويوجد بأرض الكنانة "مركز تقييم واعتماد هندسة البرمجيات SECC"، التابع لهيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات (إيتيدا)، والذي يساعد في الحصول على شهادة الاعتمادية المشار إليها، كما يصدر شهادة نموذج الجودة SPIG، المعتمد من شركات أجنبية صينية، وغيرها.
كل هذا في إطار الدعم الحكومي الكبير بمصر لاعتماد صناعة البرمجيات كإحدى الصناعات الإستراتيجية المساهمة في الاقتصاد الوطني، والتي يتوقع لها أن تصل إلى قيمة إجمالية بـ 10 مليارات دولار خلال الأشهر المقبلة، وحتي نهاية عام 2025.
ومن المؤشرات المهمة لعام 2023، أن إنفاق "الشرق الأوسط" و"شمال أفريقيا" على صناعة البرمجيات، يقدر بـ 175.5 مليار دولار تقريبا، ليتخطى إنفاق سنة 2022 البالغ 171,9 مليار دولار، بحسب تقديرات شركة الاستشارات الإدارية "جانتر".
وفي مصر وفق إحصائيات أخيرة ارتفعت صادراتها الرقمية من البرمجيات والتكنولوجيا المصاحبة خلال العام الماضي، إلى 6.2 مليار دولار، صعودا من 4.9 مليار دولار فى 2022، بنسبة نمو 26.5 بالمئة، بحسب ما أعلنه وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات المصري د.عمرو طلعت، مؤخرا، وذلك في إطار استراتيجية أن يصل نصيب مصر إلى 5% من حجم صناعة البرمجيات عالميا خلال هذا العام والعام المقبل، ليصل إلى 25 مليار دولار.
كما وصل في الإمارات، وصل حجم سوق قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات إلى 62.4 مليار درهم، ما يعادل 17 مليار دولار، وفي السعودية تجاوز حجم القطاع 45 مليار ريال، ما يعادل 12.1 مليار دولار في سنة 2021.
ورغم هذه الجهود علي المستوي الفردي والشركات الخاصة والحكومية، فالوضع الراهن لقطاع صناعة البرمجيات يفتقد الكثير من الاستقلالية وضعف الابتكار وتواضع مستويات الأداء والجودة المطلوبة، ولا يسمح بالقول بصناعة برمجيات عربية حقيقية تلبي متطلبات التنمية الشاملة، والتقدم الحضاري العربي المنشود.
كما أنه ما يزال في دائرة المنتج التكنولوجي الغربي، سواء في المعايير الفنية، والضوابط الإجرائية، أو المنصات البرمجية المستخدمة، أو الأجهزة والنظم والأساليب والمواصفات، ولغات البرمجة، والملحقات التقنية المتنوعة وغيرها.
وفي هذا السياق من الضروري أن يجتمع المبدعون وخبراء التقنيات العرب بصورة دورية من خلال ورش عمل مكثفة وفعاليات علمية تشرف عليها الجامعات العربية والتي حققت مراكز متقدمة في التصنيفات الدولية ومن خلال مختلف المراكز البحثية والأكاديمية.
وعلي الطريق ظهرت محاولات فردية لتصميم شبكات لتصميم ألعاب إلكترونية عربية وبرامج وتطبيقات للتواصل الاجتماعي و"واتس" عربي، لكنها تنتظر المزيد من التطوير، والتحرر من مكبلات التقنيات الغربية مع إرادات دافعة لمراجعة كافة صور التكنولوجيا العصرية بصورة علمية شاملة ومستفيضة ومتوازنة.
ومن الضرورة مناقشة كافة المقترحات والابداعات في هذا السياق ودعم برامج التوعية والتنشئة الرقمية، وتعزيز دور القطاع الخاص نحو الاستثمار في هذا المجال، من خلال شراكات قوية مع الشركات العالمية الرائدة المتخصص، كخطوة أولي تتبعها تدشين كيانات عربية متفردة تقدم منتجا مختلفا شكلا ومضمونا، وعدم الإكتفاء بما يفرضه علينا دول الغرب، وأحيانا دول الشرق المتقدمة، كما هو الحال في دنيا الاقتصاد والتبادل التجاري.
وقد آن الأوان لدخول ملعب الحياة، ومغادرة مقاعد المتفرجين والاستهلاك الصامت للتكنولوجيا، بعد أصبحت وصارت وأمست من أهم ضرورات الرقي والنهوض ومسايرة الحياة العصرية ومقتضيات التكامل الحضاري..وإنا لقادرون.