هيرمس
    مصر
  • 29℃ القاهرة, مصر

رئيس مجلس الإدارة

طارق لطفى

رئيس التحرير

أحمد سليمان

من الألف إلى الياء 

الوعي بالهوية.. وتحديات العصر !!

 

مابين الأمس واليوم تظل قضية التمسك بمحددات الهوية مسألة تعني الحياة أو الموت، وفقا للفهم المتعقل وللمنطق الإنساني الراشد.

ولقد خاض وطنيون ومفكرون معارك ثقافية جمة للحفاظ على الهوية بكافة صورها وعناصرها ومنطلقاتها الدينية، اللغوية، الوطنية ،التراثية، الحضارية، بينما سقط آخرون في فريسة في فخ الحداثة، والانبهار بمظاهر المدنية الحديثة، وبكافة محددات الهوية الغربية الطامحة للهيمنة، وغرس روح التمرد وثقافة التحرر والإنسلاخ من كافة الهويات الوطنية الأخري!

 وغني عن القول أن الهُوية تعني الجوهر والخصوصية، ووفقا لعلماء اللغة فهي مصطلح منسوب إلى الضمير (هُو)، وهي تعني مفهوم الشخص عن ذاته وسماته الشخصية، وهي إحدى مفردات علم النفس الاجتماعي الذي يهتم بعلاقة الفرد بالمجتمع.
ومن سمات الهوية الأساسية، أنَّ لكل إنسان هويته الخاصة المتفردة التي لا تشبه هويات الآخرين، تماما مثل بصمة العين والإصبع، والبصمة الوراثية في الحمض النووي، وهذا يتناسب مع التفسير الإشاري لقول الله تعالى: "وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْدًا". "مريم: 95".

ولأنَّ الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، فلابد أنْ تتأثر هويته بمحيطه وبكافة صور معايشاته، ومن هنا قيل "الصَّاحِب سَّاحِب)، "وكل قرين بالمقارن يقتدي"، وغيرها من التوصيفات التي تدلل على تأثر المرء بمحيطه وبيئته الاجتماعية.
ومن المسلم به أن للهُوية مستويات متعددة، فهي تتدرج من الهوية الشخصية الذاتية للفرد، ثم هوية أسرته، ثم هوية قبيلته أو عشيرته أو مجتمعه الصغير، ثم هوية البلد أو الدولة، وقد تشترك هذه الدولة مع دول أخرى في مرتكزات ثقافية ودينية تشكل لها هويتها الخاصة، كالدول العربية التي تشترك بوحدة الدين والتاريخ واللغة والأرض، مما يضفي عليها هوية خاصة وفريدة تميزها عن بقية دول العالم، مها حاول البعض التنصل من هذه الحقائق.

وبفعل التشابك الكوني في الاتصالات المرئية والمسموعة والمقروءة، فقد أصبح العالم اليوم قرية صغيرة، لا حدود وجدانية لها ومن ثم فإن قضية الهوية أضحت في خطر حقيقي، حيث تتعرض للاختراق والذوبان ولخطر التماهي والإندثار ، ولمحاولات خبيثة لإعادة صياغة وتحديد منابعها ومنطلقاتها بأطر تختلف عن محدادتها الرئيسية المعهودة.
 
ومن عبث القول وخطأ المعتقد وضيق الأفق أن نقيم ما يحدث في دنيا الناس من متغيرات وأحداث وصراعات، بأنه محض الصدفة، وبعيدا عن فكرة المخططات والمؤامرت بما لها من تداعيات سياسية واقتصادية تؤثر على مسار الأحداث إقليميا ودوليا.

في تقديري أنها فصول جديدة في سيناريوهات الصراع الحضاري الوجودي، والذي يتوجس من إقرار نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب والثقافات.. ويعد العدة لتواصل معركة البقاء والهيمنة وإسباغ هوية جديدة بكافة صورها السياسية والاقتصادية والثقافية.

وأمام هذه الأمواج العاتية من التحديات اعتقد أن قضية الوعي بالهوية العربية والخصوصية الحضارية الأصيلة من أخطر القضايا التي تواجه أجيال العصر الرقمي المفتوح، ولم يعد من نافلة القول ضرورة أن تراجع كافة مؤسساتنا الإعلامية والتربوية والثقافية، رسائلها ومهامها التنويرية والتعليمية.
وعلي الجانب الآخر ينبغي تفحص ودراسة أسباب الأحداث المفتعلة وطبيعة مكنونات الرسائل الواردة من الآخر عبر منصاته، وبرمجياته الزاعقة، وتقنياته العصرية المتطورة.
 
وأتصور أن التحدي الآن قد تزايد أضعافا مع القفزات المتسارعة لأهل الغرب نحو إقرار عالم مواز، له قوانينه وملامحه الخاصة المتفردة، وأدبياته التي تتجاوز حدود الزمان والمكان!.
كما أن هناك دعوات مشبوهة للعبث بمنظومة العلاقات الاجتماعية كفكرة المصادقة التجريبية اوالمعايشة تمهيدا للزواج أو رفضه، التمرد علي قوانين الأسرة بدعوي التحرر والانطلاق ، والدعوة للدين "الابراهيمي" الموحد، تحت ستار التقارب العقدي والديني، هذا علاوة علي محاولات تغيير العادات الحياتية في المأكل والمشرب وخلق أنماط استهلاكية شاذة!.

كل المعطيات تؤكد أننا أمام معركة وجودية للحفاظ علي الخصوصية الحضارية العربية، لذا يجب العمل بكل جدية لتنقية كل ما هو غربي ومستورد في العادات والقيم والأدبيات وعادات الإستهلاك وأنماط التعلم، بل وفي إطلاق المسميات وربطها بالأشياء والمعاني، بمنطق "خذ من خليلك ما صفا ودع ما فيه الكدر "، وأيضا ترسيخ قيم متفردة ، تهذيب خريطة المعرفة الذهنية والإرتقاء بشجرة المفاهيم، التي تسهم تدريجيا في تحسين انماط التعلم والإدارك الواعي للرموز والمصطلحات.

كما أن الحكمة والتعقل ومتطلبات الخصوصية الحضارية العريقة تدفعنا للحفاظ علي هويتنا بما تحمله من لغة، رموز ، دلالات، ومقدسات، وبكل فخر وإعتزاز.

ومن صور العبث الفكري والركوع الحضاري، استبدال تلك الخصوصية بمصطلحات ومفاهيم غربية، بدأت في تداول مترادفات غربية ولاتينية، علي حساب لغتنا العربية الثرية الجميلة، وانتهت بالتقليد الأعمي لصيحات الموضة، وأنماط الاستهلاك 
والترويج للسلاسل والماركات والعلامات التجارية العالمية، وما ارتبط بها من عروض وتخفيضات تطل علينا كل عام بما يعرف "بعروض البلاك فرايدي أو الجمعة السوداء" .
ولو افترضنا منطق حسن النوايا والتسامح اللامحدود فهذا لا يبرر بأي حال أن نسير وراءهم، كما يسير القطيع دون تدبر وتعقل ودراية !.
 ومن المؤلم حقا أن نطالع المئات من المنصات الموجه والصفحات الإلكترونية المخترقة والمغرضة التي تروج لهذا الفكر الغربي المارق.

ورغم ضبابية مشهدي الحاضر والمستقبل، ومحاولات التشويه المستمرة، وجلد الذات التي يقودها المرجفون، فما تزال الهوية العربية صامدة في وجه هذه الهجمة الشرسة، وماتزال هوية أرض الكنانة لها محددات ومنابع تراثية عريقة تجمع مابين الثراث العربي والإسلامي والقبطي والمصرية القديمة، ولا يضرها من انحرف بحثا عن هوية عصرية مضللة تتحرر مع الوقت من قيمها الراسخة ومبادئها السامية.

في تصوري، ونحن في زمن الذكاء الاصطناعي ضرورة تفعيل المبادرات الداعية لتعزيز التوثيق الإعلامي ورصد مخاطر محاولات النيل من المورثات الحضارية، والهوية العربية بخصوصيتها وأصولها وروافدها الراسخة وبعلومها العريقة، التي تأسست عليها مرتكزات الحضارة الغربية. 

كما يتحتم علينا البحث عن آليات عصرية لابتكار تكنولوجية منصفة وحيادية، تعمل لإنتاج برمجيات عربية  بمواصفات خاصة ،تجنبا لمقابح الخوارزميات الغربية المتحيزة في الإعلام واللغة، فهي تظهر تعاطفا لا محدودا مع أصحاب البشرة البيضاء، وترسخ للتصنيفات العنصرية لما عداهم، وكأنهم الجنس السامي الموعود بجودة الحياة وبكل ما هو افضل، كما تتلاعب بالإصطلاحات، وتتعمد أحيانا الخلط بين مفهوم الإرهابين والمقاومين، وأحيانا بين الضحية والجلاد، علاوة علي مساعي الغرس الثقافي السلبي.. وإنا لقادرون!!