اهتمت الصحافة العالمية خلال الأسابيع الماضية بالجهود التى بذلتها القاهرة جنبا إلى جنب مع واشنطن والدوحة لتحقيق هدنة إنسانية لوقف إطلاق النار فى قطاع غزة، وتطويق الصراع حتى لا ينفلت إلى حرب إقليمية تزامنا مع وصول قدر أكبر من المساعدات الإنسانية لسكان غزة، ونقلت صحيفة «فاينانشيال تايمز» البريطانية عن توم وايت مدير الوكالة الدولية لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «أونروا» قوله إن الموت جوعا كان القدر المحتوم لسكان غزة لولا قوافل المساعدات الإنسانية القادمة من مصر وحث المسئول الأممى إسرائيل على تسريع وتيرة إدخال المساعدات، منتقدا ما تفرضه عليها من تعقيدات على جانبها قبل الإفراج عنها.
للأسف لم تستمر الهدنة لأكثر من سبعة أيام، وعادت غزة لتعانى تحت القصف الإسرائيلي، ورغم الجهود الكبيرة للوسطاء وفى قدمتهم مصر، فالتفاؤل بقرب انتهاء هذه الحرب يتضاءل لصالح استمرارها وتحولها إلى حرب إقليمية، بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل يسعى إلى تمديد الحرب قدر الإمكان، لتفادى السقوط السياسى الذى يهدده داخليًا، وإنقاذ نفسه من النهاية المحتومة، التى تقترب منه، وقد يجر نتنياهو الولايات المتحدة إلى المشاركة فى حرب إقليمية، خاصة بعد توافر احتمالات اتساع رقعة الصراع بدخول حزب الله فى المشهد أوانضمام إيران أوأى من القوى الموالية لها فى المنطقة، وهذا ما تخشاه واشنطن خاصة بعد تكرار المناوشات بين إسرائيل وحزب الله اللبنانى وتنفيذ عمليات عسكرية متعددة ضد المصالح الأمريكية فى العراق وسوريا، حيث قام الحوثيون وبعض الفصائل السورية بإطلاق الصواريخ باتجاه إسرائيل، واختطف الحوثيون سفن فى البحر الأحمر، هذه المناوشات صاحبها بالطبع تصريحات من عينة حديث طهران عن» وحدة الساحات» وأنها ربما تتدخل إذا استمرت المجازر الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، لكن كل هذا لم يغادر -حتى الآن- نطاق الحرب الكلامية، ففى تقديرى أن حزب الله سيكتفى بالمناوشات والاشتباكات المحدودة وإيران لن تحارب بالإنابة.
من زاوية أوسع لا يخفى أن هذه الحرب لا تقتصر فقط على الصراع العربى الإسرائيلي، بل إنه صراع أمريكى روسى صينى لإعادة توازن القوى العالمية فى صورة جديدة ربما تنهى سياسة القطبية الواحدة، وكذلك المعلن والخفى على الممرات التجارية، ما بين طريق الحرير الصينى ومجموعة البريكس، وطريق الممر التجارى من الهند للخليج إلى إسرائيل ثم أوروبا.
مع وجود قواعد روسية فى سوريا وإفريقيا، وفى المقابل قواعد أمريكية فى تمركزات أخرى بالمنطقة، كذلك مع تسارع الولايات المتحدة فى الأسبوع الأول من الصراع بإرسال حاملتى الطائرات جيرالد فورد وأيزنهاور، لحماية إسرائيل ومنع مشاركة أى طرف آخر فى الحرب، وفى الجهة المقابلة تردد أن الصين أرسلت سفناً حربية -وإن كانت هذه المعلومة لم تتأكد بعد- ومع فتح واشنطن خزائنها ومخازنها لإمداد إسرائيل بكل ما تحتاجه من أموال وأسلحة، وتقديم أوروبا كل أنواع الدعم لتل أبيب، فعلى سبيل المثال عندما زار رئيس وزراء بريطانيا إسرائيل لإعلان التضامن معها حمل معه فى الرحلة صواريخ حربية للاستفادة فى الهجوم على غزة،
الشواهد تقول إن الحرب فى غزة وأى نزاع فى منطقة الشرق الأوسط يمكن استخدامه من قبل روسيا والصين لمضايقة واشنطن، واحتمالية تحوله إلى حرب إقليمية واردة، فمن جانبهما بكين وموسكو تستفيدان بالطبع من الصراع فى الشرق الأوسط خاصة روسيا؛ التى خففت الحرب فى غزة من الضغط عليها وخطفت الأضواء من الحرب فى أوكرانيا، التى كانت على وشك إحداث صدام بين القوتين النوويتين (الولايات المتحدة وروسيا)، وبالتالى تشعر روسيا الآن بمزيد من الراحة، أما الصين، فتنظر إلى حرب غزة على أنه سيشغل واشنطن ويوقفها -ولو قليلاً- عن دعم تايوان ومضايقة بكين فى المسارات التجارية والاقتصادية والعسكرية، وربما هذا ما يفسر التعاطى الروسى الصينى مع أزمة غزة والذى يترجم تعاطفا ملحوظا مع الجانب الفلسطيني، وبرز هذا جليا فى مجلس الأمن ومواجهة الفيتو الأمريكى الأوروبى لصالح إسرائيل مما عكس فى الأخير عجز مجلس الأمن الدولي، فى مثل هكذا أزمات، لأنه أصبح طرفاً رئيسياً فى العديد من الحروب والصراعات المعاصرة، فأعضاء مجلس الأمن الدولى الخمسة الفاعلون يضعون مصالحهم وحلفاءهم فى المقدمة، لذلك فقدت الأمم المتحدة قدرتها على إقرار الأمن والسلم الدوليين ومن ثم نأمل فى توجب تلك الأزمات الكبيرة الحالية ضرورة التفكير فى إصلاح الأمم المتحدة أو تدشين مؤسسة جديدة تكون فاعلة فى إنهاء هكذا صراعات.
الحرب فى غزة بلا شك لها تداعيات إنسانية وأخلاقية؛ قد تضع العالم أمام أكبر مواجهة بعد الحرب العالمية الثانية، والصمت عليها جريمة أخري، فقد تسببت هذه الحرب فى دمار غزة بأكملها وإزهاق أرواح عشرات الآلاف من أهلها، ولا أعتقد أن الصمت الإنسانى سيطول حيال تلك الجرائم وهو ما ينذر بجر باقى بلدان المنطقة إلى المواجهة.