فى كل شعب تعرضت أرضه للاحتلال، كان هناك من بينه من يرفعون رايات السلام ويحلمون بتحرير الأرض من خلال المفاوضات مع المحتل وكان هناك من بينه أيضاً من يعدون أنفسهم لحمل السلاح والقتال من أجل تحرير الأرض إذا ما فشل دعاة السلام فى تحقيق ما يحلمون به.
ولا يوجد أى تناقض جوهرى بين الفريقين.. بل تكامل.. فالهدف واحد والأساليب فقط هى موضع الخلاف ونجاح دعاة السلام يدفع حملة السلاح خطوة أو أكثر إلى الوراء والعكس صحيح.. وفى كل الأحوال فلا يوجد شعب يراهن على خيار الحرب إلا مضطرا ولا أن يتطوع بتحويل أبنائه إلى شهداء ومصابين إلا إذا كان هذا هو الثمن الوحيد المتبقى لتحقيق حلم تحرير الأرض.
الشعوب، كل الشعوب على وجه الأرض تحب الحياة وتختار السلام إلا إذا دفعها أحد إلى الخيار الآخر وجعله خيارها الوحيد.. هنا لا تتردد الشعوب فى دفع ثمن الحياة والسلام من دماء وتضحيات أبنائها مهما بلغ هذا الثمن.
هذا المفهوم يتجسد بأوضح صورة فى فلسطين وقد جسده الزعيم الفلسطينى ياسر عرفات فى حياته أمام العالم كله حين ذهب إلى الأمم المتحدة رافعا شعار: البندقية بيد وغصن الزيتون باليد الأخري.
وقد كان هذا الشعار رسالة عميقة المغزى من الشعب الفلسطينى للعالم حين كان عرفات يمثل رمزا تاريخيا للمقاومة الفلسطينية ومفاوضا فى نفس الوقت لا يترك فرصة للسلام تمر دون أن يختبرها ويشارك فيها.
ومعنى ذلك ان البندقية وغصن الزيتون لا ينفصلان وانهما شعار يرمز لوحدة الشعب وليس لانقسامه.
ولقد ورثت منظمة التحرير الفلسطينية الشعار ذاته وانحازت أكثر إلى حلم السلام بعد اتفاقيات أوسلو التى وقعت قبل ثلاثين عاما وتحت قيادة الرئيس الفلسطينى الحالى محمود عباس وفى وجود فصائل المقاومة: حماس والجهاد وغيرهما فى غزة.
وقدم العرب «المبادرة العربية» لدعم التوجه الفلسطينى نحو السلام والسلام العادل بالتحديد وتحويله إلى خيار استراتيجى لكل العرب حيث انتقلت بشعار «الأرض مقابل السلام» الذى كان سائدا وعاما إلى شعار أكثر تقدما ووضوحا وتشجيعا على السلام وهو: «التطبيع الكامل مقابل السلام الشامل» وهو شعار لو تم تنفيذه لوضع نهاية سعيدة للصراع العربى - الاسرائيلى كله وليس للقضية الفلسطينية وحدها وفتح أمام اسرائيل باب الاندماج فى محيطها العربى كدولة طبيعية تتمتع مع كل الدول العربية بعلاقات دبلوماسية واقتصادية وتجارية كاملة.
لكن مشكلة اسرائيل ان السلام لم يكن فى أى وقت خيارا استراتيجيا لها ولا اعتمدته كطريق لتحقيق أهدافها بل كان خيارها دائما هو التوسع والاستيلاء بالقوة العسكرية على كل ما يمكن أن تصل إليه قوتها من أراض عربية فى محيطها.
وقد أدرك الزعيم الراحل جمال عبدالناصر ذلك عندما احتلت اسرائيل سيناء فى حرب يونيو ٧٦٩١ وصاغ شعار: «ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة» اقتناعا منه بأن اسرائيل لا تفهم إلا لغة القوة ولا تخضع إلا لمن يتعامل بها.
ولقد جسد الجيش المصرى العظيم هذا الشعار عمليا وميدانيا على أرض سيناء فى حرب أكتوبر المجيدة.. فلم تمتثل اسرائيل لنداء السلام إلا بعد هزيمتها العسكرية والاستراتيجية فى هذه الحرب ولم تخضع لمفاوضات السلام إلا بقوة تأثير هذه الهزيمة حتى استكملت مصر تحرير أرضها كاملة بمعاهدة السلام ثم تحرير طابا بالتحكيم الدولى الذى كانت القوة المصرية أيضاً تفرض ظلالها على اسرائيل خلاله.
ولو كان السلام خيارا استراتيجيا لإسرائيل مثلما هو للعرب وكانت القضية الفلسطينية هى محور تنفيذ هذا الخيار ومجال اختباره لشجعت اسرائيل تيار السلام الفلسطينى المتمثل فى السلطة الفلسطينية فى الضفة الغربية بقيادة الرئيس عباس وقدمت من المبادرات والاجراءات ما يساعد على تقوية هذه السلطة وغلق باب الاضطرار لحمل السلاح والقتال أمام فصائل المقاومة بل ويضعف شوكتها فى معقلها وهو قطاع غزة.
لكن اسرائيل فعلت العكس تماما على مدار العقود الأخيرة سواء على موائد مفاوضات ما سمى بـ «عملية السلام» وحل الدولتين الذى صدر به قرار من الأمم المتحدة أو بإجراءاتها على الأرض الفلسطينية وتعاملها مع تيار السلام الفلسطيني.
لقد ضربت عرض الحائط باتفاقية «أوسلو» بعد أول خطوة تنفيذية فيها ثم حولت عملية السلام بكل جولات المفاوضات فيها إلى سيناريو «سخيف ومكرر» بصورة تكاد تكون كربونية.
كانت كل جولة تبدأ فى عام انتخابات الرئاسة الأمريكية باجتماع أو اثنين بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية للاتفاق على جدول الأعمال وتحديد القضايا واستشراف المواقف.. وما أن تظهر نتائج الانتخابات الأمريكية ويتحدد الرئيس الجديد حتى يتوجه بدعوة إلى رئيس الوزراء الاسرائيلى ورئيس السلطة الفلسطينية لزيارته فى البيت الأبيض لدعم مفاوضات السلام.. ويتم اللقاء وتتصدر صوره أغلفة المجلات وصفحات الصحف الأمريكية والعالمية وسط تصريحات ووعود مبشرة من الزعماء الثلاثة.
لكن هذا اللقاء يتحول فى كل مرة ومع كل رئيس أمريكى جديد إلى اشارة أمريكية لإسرائيل بإفساد مسار المفاوضات فما يكاد ينعقد اجتماع أو اجتماعات بعده حتى تكون اسرائيل قد جهزت الحجة التى ستتذرع بها لوقف المفاوضات مثل اعتراض على بعض المطالب الفلسطينية أو تدبير حادث ضدها تنسبه إلى المقاومة وتدعى انها لا تجد «شريكا» فلسطينيا لإتمام عملية السلام.
ولم يدرك أحد وقتها أو ربما أدرك كثيرون ان كل اخفاق على هذا المسار كان يمثل ضربة للسلطة الفلسطينية ولدعاة السلام الذين يؤيدونها داخل الشعب الفلسطينى وخارجه بقدر ما كان يمثل تقوية لحجة فصائل المقاومة فى اقناع الشعب الفلسطينى بأنه لا جدوى من وراء الجرى وراء سراب السلام مع اسرائيل وان المقاومة هى الحل.
هذه الضربات هى التى مكنت حركة حماس من أن تحصد أعلى نسبة أصوات فى الانتخابات الفلسطينية فى قطاع غزة بل وأن تسيطر على القطاع وتشكل حكومتها لقيادته بمعزل عن سلطة الرئيس الفلسطيني.
فماذا فعلت اسرائيل للتعامل مع هذا الوضع؟!
عاقبت الشعب الفلسطينى كله فى غزة بفرض حصار كامل عليه لكنها لم تقدم للسلطة الفلسطينية فى المقابل أى بادرة للسلام بل ولم تتوقف يوما عن فعل كل ما يضعفها من استيلاء على الأرض وهدم للمنازل وحرق للمزروعات واقتحام للمخيمات واعتقال للأبرياء رجالا ونساء وأطفالا وبناء آلاف الوحدات السكنية للمستوطنين.
ثم بدأت فقرة جديدة من هذه الإجراءات العدوانية التعسفية مع تشكيل نتنياهو لحكومته الحالية الأكثر تطرفا دينيا وإرهابيا وهى تشجيع المستوطنين المتطرفين على التحرش بالمسجد الأقصى والمقدسات الاسلامية والمسيحية فى الضفة واقتحامهم لها فى حراسة شرطة الاحتلال وتدنيسها إلى جانب مساعى الحكومة المتواصلة لتغيير معالمها وهو تحرش مازالت حلقاته تتواصل حتى اللحظة.
ولقد كان لمصر فضل تحذير اسرائيل وتنبيه المجتمع الدولى من خطورة هذا التوجه الاستفزازى لمشاعر كل المخلصين من اتباع الديانات الثلاث وذلك من أول يوم انطلقت فيه هذه التحرشات وقبل يوم السابع من أكتوبر يوم اندلاع عملية «طوفان الأقصي» وهو الاسم الأكثر تعبيراً عن هذه المشاعر.
إن طوفان الأقصى هو الحصاد المر لكل ما زرعته إسرائيل على مدى عقود ماضية فى نفوس دعاة السلام من إحباطات فلم تترك للسلام فرصة واحدة.
والرد الإسرائيلى على هذه العملية ليس دفاعا عن النفس بقدر ما هو تكريس لمنهج العنف والارهاب وقتل أى أمل فى الحياة والسلام للفلسطينيين ولكل العرب دون أن تكون هناك قوة تحمى هذا السلام وتدافع عنه وهو الشعار الذى تتمسك به مصر قولاً وعملاً.