بالحرب الوحشية وغير الإنسانية، المستمرة والمتصاعدة فى غزة، أعاد بنيامين نتيناهو إسرائيل إلى نقطة الصفر فى محيطها العربي.
استردت إسرائيل بما ارتكبته من فظائع ضد المدنيين فى غزة لقب «العدو»، ولقب «الصهيوني» ولقب الغاصب، وهى ألقاب كانت قد حجبتها عنها معاهدات السلام ومسيرات التطبيع.
أى سلام، وأى تطبيع، والمخطط الصهيونى لتهجير الفلسطينيين من غزة، والذى كشف نتنياهو عن خرائطه سابقة التجهيز، موجه بالذات، وحصرياً للدولتين الوحيدتين فى العالم العربى اللتين كانتا أول من وقعتا معاهدتى سلام مع إسرائيل، وهما مصر والأردن؟
هل الدعوة لتهجير الفلسطينيين «قسراً» من غزة أو الضفة الغربية، ومحاولة فرضهم «غصباً» على مصر والأردن، تندرج تحت بند «السلام».. أم هى «إجراء عدائي» مائة بالمائة، مع سبق الإصرار والترصد؟!
>>>
هل تظن إسرائيل أن أراضى دول الجوار العربى هى «الاحتياطى الاستراتيجي» لتنفيذ مخططاتها التوسعية وتحقيق حلم إسرائيل الكبري؟!
وهل فى معاهدتى السلام مع مصر والأردن ما يسمح بإطلاق يد إسرائيل ـ منفردة ـ أو مدعومة بالحليف الأمريكي، للتدخل فى شئون الدولتين السيادية، وإعادة تشكيلهما، بل وتشكيل الشرق الأوسط كله، جغرافياً، وديموجرافياً، بما يتيح لها ابتلاع البقية الباقية من الأراضى الفلسطينية وإجهاض مشروع حل الدولتين، وتصفية القضية الفلسطينية إلى الأبد؟!
كانت إسرائيل تشكو فى الماضى من أنها تعيش وسط بحر من الكراهية والعداء العربي، فأصبحت تعيش اليوم وسط بحر صنعته بيديها من الدم العربي.
كانت تقول إن العرب يريدون إلقاءها فى البحر، فأصبحت هى من يطلق اليوم حرب إبادة جماعية للشعب الفلسطيني، بل ويهدد بإفنائه بقنبلة نووية.
ولأن الرأى العام العالمى كان يصدق دعاوى إسرائيل فى الماضى ويرسم لها فى وجدانه صورة ذهنية إيجابية، فقد بدأت قطاعات كبيرة منه تنقلب ضدها، بعدما تابعت استخدامها المفرط للقوة العسكرية فى قتل وإصابة وتهجير مئات الآلاف من الأطفال والنساء والرجال.
وقد طال هذا التحول فى الرأى العام العالمى الولايات المتحدة أيضاً، باعتبارها «الراعى الرسمي» لإسرائيل، و»الشريك الاستراتيجي» لها فى حربها الدموية فى غزة، بكل ما قدمته وتقدمه لها خلال هذه الحرب من عناصر الدعم، العسكرى السياسى الاقتصادى التكنولوجى الأمنى والمخابراتي، وتعلنه بنفسها دون مواربة، حتى وصل هذا التحول اليوم إلى الداخل الأمريكى نفسه بتصاعد أصوات رفض استمرار الحرب.
ولنا أن نتوقع، أنه حين تضع هذه الحرب أوزارها، وتوضع أمام الرأى العام العالمى والأمريكى حقائق وأرقام هذا الدعم فى كفة، وتوضع فى الكفة الأخرى جثامين ما يزيد على العشرة آلاف شهيد، نصفهم من الأطفال، ثم ضعفهم من الجرحى والمصابين، فضلاً عما يزيد على المليون من النازحين، فإن هذه الحرب ستكون بمثابة «مسمار» فى نعش الهيبة العالمية الأمريكية، وفى نعش مصداقية ما تتشدق به من «قيم إنسانية وأخلاقية»، وما تبتز به دول العالم من تلويح بورقة الديمقراطية وحقوق الإنسان.
أكثر من ذلك، أن هذا التحول فى الرأى العام العالمى يصب فى مصلحة الصين وروسيا اللتين تدعوان إلى إزاحة الولايات المتحدة من القيادة المنفردة للنظام العالمى القائم، والتحول التدريجى لبناء نظام عالمى جديد متعدد الأطراف، ويتميز بالعدالة وبالتالى تصبح هذه الحرب مسماراً فى نعش النظام العالمى نفسه.
لقد نسفت إسرائيل بهذه الحرب المدعومة من أمريكا جهود الدولتين طوال أكثر من ثلاثة عقود، لإقناع حكومات وشعوب العالم العربى بأن إسرائيل لم تعد العدو الرئيسى للعرب.
لم تكن إسرائيل قد فقدت تماماً ونهائياً صفة العدو الرئيسي، فلم تقدم شيئاً على الإطلاق لعملية السلام وحل الدولتين.. كانت ومازالت تريد الأرض والسلام معاً ممن لهم أرض وحقوق لديها، ثم حصلت على «تطبيع مجاني» مع من ليس لهم أرض محتلة لديها.
صحيح أن الثمن باهظ، لكن من يدفعه هم الفلسطينيون.. وأياً كانت النتيجة النهائية للحرب، فإن الشعوب لا تموت، ومقاومتها لا تتوقف.
إننى أكتب الآن ونحن على بعد خطوة واحدة من قمتين، عربية، وإسلامية تستضيفهما العاصمة السعودية ـ الرياض ـ مطلع الأسبوع القادم، لإعلان كلمة وموقف العرب والمسلمين، شعوباً وحكومات من الحرب.
وأجدنى فى حاجة إلى تأكيد بعض ما هو مؤكد..
فلسطين ليست كياناً افتراضياً فى كوكب آخر لا نعلمه، وشعبها ليس لقيطاً أو مجهول الهوية والنسب.
فلسطين كيان حقيقى تاريخى قائم على الأرض، وشعبها ينتمى إلى عائلة كبيرة هى العائلة العربية، وإلى عائلة أكبر هى العائلة الإسلامية.
ولا أستخدم صفة «الكبيرة» و»الأكبر» بلا سند.. فالعائلة العربية معروفة فى كل أنحاء الكرة الأرضية باسم «العالم العربي»، والعائلة الإسلامية معروفة أيضاً باسم «العالم الإسلامي».
ولم يسبق لكل سكان الكرة الأرضية أن أطلقوا على أى إقليم أو قارة اسم «العالم» وأجمعوا عليه وتعارفوا معنا به، سوى هذين النموذجين المتفردين.. فلا أحد قال مثلاً عن أوروبا «العالم الأوروبي» أو فى أمريكا اللاتينية «العالم اللاتيني» أو غيرهما.
وحين تنتسب فلسطين إلى العائلة العربية، فإن من شيم وقيم العرب تقديم الغالى والرخيص فى سبيل نجدة أى عضو فى العائلة، وكف العدوان عنه، ونصرته.. وهذا ينطبق على كل عضو فى العائلة وليس فلسطين وحدها.
وحين تنتسب فلسطين إلى العائلة الإسلامية، فإن الإسلام يدعونا إلى أن نكون معاً كالبنيان المرصوص.
وحين نقول إن البشرية تعرف العرب والمسلمين باسم «العالم» فلابد أن نبدو أمامها بحجم وقوة وهيبة العالم حتى نكون مستحقين لهذه التسمية.
ولست فى موقع يسمح لى بأن أشير على قادة القمتين بما ينبغى أن يفعلوه أو يقرروه، كما أنهم لا يحتاجون إلى تذكيرى لهم بما قدمه أعضاء العائلة الأوروبية وأمريكا لأوكرانيا فى حربها المستمرة لأكثر من عشرين شهراً.. فهذا فى معيار الواقع العربى والإسلامى ضرب من المستحيل.
إن قادة العرب والمسلمين أدرى بشعوبهم، ولديهم إحاطة أكبر بتعقيدات الموقف، ويشعرون فى نفس الوقت بضغوط الرأى العام فى بلادهم، وحجم ما ينتظره منهم من قرارات عملية، مباشرة ومؤثرة، ولا تكتفى بمناشدة المجتمع الدولى بالتدخل واتخاذ موقف، بينما نحن أحوج ما نكون إلى طلب ذلك من أنفسنا.