هيرمس
    مصر
  • 29℃ القاهرة, مصر

رئيس مجلس الإدارة

طارق لطفى

رئيس التحرير

أحمد سليمان

من الألف إلى الياء

ذكاء العصر.. ما بين الآلية والإبداع !!

 

احتدم الصراع مابين الإنسان والآلة في عصر التقنيات المتسارعة،واتخذ صورا متباينة ومخيفة مما هو قادم، مع تزايد التوجسات من مستقبل العلاقة بين العقول الاصطناعية، وعقول بني البشر.

وما بين الأصل والمنبع والصورة التي تحاكيها، وتتفوق عليها أحيانا في الدقة والسرعة والموضوعية يتخوف الكثيرون من حجم وصور هذه المنافسة التي تجاوزت حدود الصداقة والمساندة إلي صراع وجودي قد يهدد عقول البشر بالتبلد واللجوء إلي كل ماهو معد مسبقا، ويخفت بريق الإبداع تدريجيا!.

وقبل ما يزيد عن عامين حذر "إيلون ماسك" الملياردير الأميركي وأحد كبار المستثمرين في عالم الذكاء الاصطناعي، من أن قدرات الذكاء الصناعي ستتجاوز قدرات البشر في غضون السنوات الخمس المقبلة.
وقد جاءت توقعات ماسك بعد إجراء مراجعة للتقديرات السابقة لما يسمى "التفرد التكنولوجي"، الذي يعني تفوق الذكاء الآلي على الذكاء البشري وتسارعه بمعدل كبير.

كما سبق أن تنبأ "راي كورزويل"؛ أحد أكبر المبتكرين والمتخصصين في علوم المستقبل، بأن نقطة التحول في الذكاء الصناعي ستكون نحو عام 2045، مشيراً إلى أنه بحلول هذا العام ستتفوق قدرات هذه التقنية علي قدرات البشر بشكل ملحوظ.

وحذر "ماسك"، الذي ساعد في تأسيس «مختبر أبحاث الذكاء الصناعي (OpenAI)» في عام 2015، باستمرار من التهديد الوجودي الذي شكلته هذه التقنية على البشر في السنوات الأخيرة.
وقال: يتجاهل شديدو الذكاء قدرات الذكاء الصناعي، والسبب في ذلك هو أن هؤلاء الأشخاص لا يعتقدون أن الكمبيوتر يمكن أن يكون ذكياً مثلهم، إلا إن هذا الاعتقاد خاطئ تماماً، فنحن متجهون إلى وضع تتجاوز فيه قدرات الذكاء الصناعي قدرات البشر، وأعتقد أن الإطار الزمني هو أقل من 5 سنوات من الآن.

كما أشار "ماسك" إلى أن هذا لا يعني أننا سنعيش في جحيم بسبب هذه التقنية في غضون 5 سنوات، لكنه يعني فقط أن حياتنا ستصبح غريبة وغير مستقرة!.
كما سبق أن أعرب في عام 2018 عن قلقه من إمكانية استخدام الذكاء الصناعي من قبل المجرمين والإرهابيين حول العالم لتنفيذ عمليات إرهابية معقدة وواسعة النطاق في وقت قصير.

 وبعيدا عن الأدلة والتقديرات الحالية التي تشير إلى أن الذكاء الصناعي يمكن أن يتجاوز قدرات وجدارات وعقول بني البشر، فالمخاوف تتزايد في نطاقي التعلم ونظم التعليم وسوق العمل، باعتبارهما من أهم الركائز الأساسية في حياة الأفراد والمجتمعات.

في دنيا التعلم يتخوف الخبراء من آفات ومضار الاعتماد المطلق علي أنظمة الذكاء الاصطناعي، سواء في إعداد المواد التعليمية والأبحاث ووضع الامتحانات وأنظمة التقييم والتقويم، ففكرة الآلية وسهولة التعاطي مع المواد التعليمية، سيصيب الكثيرين بالبلاده والكسل الذهني والاعتماد علي القوالب، والتصاميم المتعددة التي توفرها أجهزة الحاسب الالي بدون إبداع أو محاولات للإضافة والتطوير المستمر.

وعلي الجانب الآخر ، ومع كثرة المتغيرات الاجتماعية والطبيعية ، بدأ الاحتلال التدريجي للوظائف البشرية بنسب تتراوح ما بين 20- 40% ،وربما تتزايد مخاوف مناطحة العقول الصناعية للعقول البشرية، مع تداول اختفاء ما يقرب من 80% من وظائف المستقبل في عصر التحول الرقمي، وفقا لرؤي المتشائمين ، نتيجة إحلال العقول الصناعية في هذه المواقع البشرية ، توفيرا للجهد والنفقات ومن قبلهما توفير للوقت ، مع سرعة ودقة الإنجاز.

ولدي البعض قناعات تدعمها بعض القرائن والحجج ، من بينها أن هناك مجالات تتطلب إبداعا خاصا، تعتمد علي التحليل والتفكيك والربط والاستنتاج وتكوين الرؤي المبدعة المتفرده قد تغفلها العقول الصناعية ، والتي ربما تتفوق في عنصر الوقت فقط، كما أن الكثير من وظائف العلاقات العامة ومهن التواصل الإنساني تتطلب تفاعلا واتصالا مواجهيا يتسم بالمرونة والتجدد والحيوية في التعامل ، وهو ما قد تعجز عن تقديمه العقول الصناعية أو نظم الذكاء العصرية بصورة أو بأخري!.

ولدي البعض الاخر  توقعات ، بأن العقول الصناعية ستكون قادرة علي الشعور والإدراك وتمييز الأحاسيس والمشاعر والحالات المزاجية والنفسية، والتصرف نتيجة هذه المؤثرات، وخاصة بعد التطور التقني الهائل والذي يقفز نحو المستقبل بوتيرة متسارعة وبخطوات قد تعجز عن مسايرتها العقول البشرية!.

وحتي إشعار آخر ووفقا لمعطيات الواقع فإن العقول الصناعية ستحرز تقدما وتفوقا في العلوم  الفيزيقية والرياضية وعلوم الحاسبات والاتصالات. 
 أما العلوم الإنسانية والاجتماعية، فأتصور أنها تتطلب نوعا فريدا من الإبداع، فمن الصعب تحويل المشاعر والأحاسيس الإنسانية لمجرد آلة تدار بضغط بعض الأزرار!

إن منطق المواجهة مستمر، وما يدعم هذه الرؤية تجربة نفذها مطورو ،ومنتقدو تقنيات الذكاء الاصطناعي؛ ففي يوم الأربعاء الموافق الرابع عشر من يونيو 2023، نظمت مدرسة باريس للتكنولوجيا والأعمال مواجهة بين "رافائيل إنثوفن"، وهو مدرس فلسفة فرنسي من مواليد سنة 1975،   والمُحول التوليدي المُدرب مُسبقا، والمعروف اختصارا باسم "تشات جي بي تي" ChatGPT ، والذي تم إطلاق نسخته الأولى في الثلاثين من نوفمبر سنة 2022 ، وكان موضوع المواجهة هو الإجابة عن أحد أسئلة امتحان (الثانوية العامة): هل السعادة مسألة عقل؟ أو بعبارة أخرى، هل ثمة دور يمكن أن تؤديه العقلانية في البحث عن السعادة؟ وقد تم توجيه الروبوت في البداية بتزويده بحوالي عشرين سطرا لتوليد الاستجابة، بمساعدة مهندس وفني وبعض المتخصصين في الفلسفة، وهو ما يُعرف في إطار تقنيات الذكاء الاصطناعي باسم الهندسة الفورية أو هندسة الأوامر.
 وطُلب منه كتابة مقال حول الموضوع مع ذكر الفلاسفة الأساسيين الذين تناولوه بالمعالجة. وكان على الروبوت استخدام نبرة أكاديمية تتسم بالإقناع في كتابة أطروحته، كما كان عليه القيام بفحص الإجابات المختلفة التي قدَّمها الفلاسفة على التوالي عن السؤال المطروح، ومن ثم اختيار الإجابة الأكثر إقناعا وقوة، بحيث تكون أطروحته في النهاية واضحة ومتماسكة وسلسة ومُنظمة.
 بعد ساعة ونصف هي وقت الاختبار، قام الطرفان بتسليم نسختي إجابتيهما، وإن كان الروبوت قد استغرق دقيقة ونصف تقريبا في كتابة أطروحة من تسع صفحات، بينما استغرق "أنثوفن" ساعة وربع الساعة في الإجابة. وعلى الفور قام فريق من الخبراء بمراجعة إجابة الروبوت شكليا وتجزئة بضع فقرات كانت طويلة للغاية، ثم تم نسخ إجابة كل منهما من قبل شخصين مختلفين، بحيث لا تتمكن لجنة المُحكمين من تحديد مَن كتب هذه أو تلك. 
 و عقب انتهاء الاختبار والنسخ والفحص لكلتا الإجابتين، اجتمعت لجنة المُحكمين لتقديم ملاحظاتها وتقديرها شفاهيا أمام "رافائيل إنثوفن"، وما يقرب من خمسة عشر صحافيا، بالإضافة إلى عددٍ من المعلمين وبعض كبار رجال الأعمال.. لقد خسر الذكاء الاصطناعي التحدي، لكنه تجاوز المتوسط وحصل على إحدى عشرة درجة من مجموع الدرجات البالغ عشرين درجة، أما  "إنثوفن" فقد حصل على الدرجة النهائية! وجاءت ملاحظات المُحكمَيْن واضحة ومُباشرة للغاية، وأعلن كلاهما أنه كان من السهل التمييز بين النص الآلي التوليدي والنص البشري.

ووفقا لرؤية د.صلاح عثمان أستاذ المنطق وفلسفة العلم، ورئيس قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة المنوفية ، وذلك في مقال له حول التحدي الفلسفي بين الإنسان والآله، فالمواجهة ليست محسومة ويبدو أن الفلسفة كنشاطٍ إبداعي ليست من بين المهن المُهددة بالاندثار أمام هذا الزحف المتصاعد لتقنيات الذكاء الاصطناعي، على الأقل حتى كتابة هذه السطور.

ويبقي التحدي الأكبر لدي الدول الساعية للنمو ، والأقل تقدما ، والتي ينظر إليها مطورو العقول الصناعية علي أنها مجرد أسواق لاستهلاك التكنولوجية بلا مشاركة فاعلة، أو ابداع أصيل .. يجسد الرغبة الحقيقية في النهوض ، ويعبر عن خصوصية هذه المجتمعات وهويتها الحضارية .

ومابين مقابح عصر الذكاء الاصطناعي ومآثره وفوائده اللامحدودة ، يظل التعاطي الإيجابي هو الفيصل في حسم المعركة بين الإنسان والاله!