ماتت ملك.. هل حقا ماتت ملك, أكرر الجملة دون أن أستوعب أو أصدق وقعها على قلبي من هول المفاجأة والصدمة..ماتت ملك رغم أنها لم تكن تعرف طيلة أربعة عشر عاما معنى الحياة ..حملتها على يدى- كما كنت أفعل طيلة حياتها القصيرة- حملتها وأنا الذي كنت لا أتحمل نفسيا مجرد المرور من أمام المقابر..ودخلت بها إلى حجرة الدفن لكي تنام في رقدتها الأخيرة ..استودعتها أمانة بين يدي الله كما كانت في حياتها..تركتها وأنا أدرك يقينا أن ملك- التي رفع عنها القلم- تلعب الآن في جنات ربها..تذوق من المتعة مالم تعرفه في حياتها التي كانت صعبة ومعقدة وبلاطعم أو مستقبل, لم تدرك فيها سوى معاني الألم الذي لم تشعر به من رحمة الله بها سوى لحظات قليلة في أيامها الثلاث الأخيرة لكنني كنت أشعر به بحرقة قبل ذلك عندما كانت تعبر عن آلامها ومتاعب جسدها بالصمت وإشاحة الوجه في اتجاه واحد فيما عرفت بعد ذلك أنه من أعراض متلازمة الصلب المشقوق أو ما يسمى علميا" سباينا بيفيدا".
قبيل ارتقائها إلى الله بساعات قليلة كانت تنزع من أنفها أنبوب الأوكسيجين بكل إصرار كأنها كانت تعلم أنها لم تعد في حاجة إليه, وشيئا فشيئا بدأت عصبيتها ومقاومتها تجاه الأنابيب والأجهزة المتصلة بجسدها النحيل تتلاشي مستسلمة مرخية ذراعيها تنظر في اتجاه السماء كالقمر وكأنما تتأمل نعيما وأملا جديدا في حياة أخرى بلا متاعب, وجنة لأراها وأنا القابع إلى جوارها أراقب أنفاسها الخجولة التي تطمأنني بأنها مازالت على قيد الحياة, وأمني نفسي بأنها كما حدث من قبل في مرات كثيرة قوية ومقاتلة ستواصل البقاء معنا على قيد الحياة..لم أشك لحظة في ذلك رغم تراجع أنفاسها البادى.. لم يكن عقلي يدرك أنها كانت في تلك اللحظات الحزينة تستعد للرحيل, أدرك كم هي حنونة على أبيها ولن تتخلى عنه بالانسحاب من حياته ولو في هدوء, وكلما نظرت إليها وجدتها مفتوحة العينين تواصل التنفس في إشارة إلى أنها مازالت على قيد الحياة..تتنفس لكن دون عمق, ناديت عليها أكثر من مرة فلم تلتفت وكأنها في عالم آخر قبلتها ووضعت خدي على شفتيها كعادتنا معا لاكتشاف درجة الوعي .. ولأول مرة لم تقبلني ملك كعادتها وهي التي كانت تقبل كل ماتطال مني في لحظات عشق متبادل ..خفق قلبي بخوف شديد ..كانت مازالت تتنفس بخجل وفي لحظات فارقة خرجت من الحجرة لكي استدعي الطبيبة على وجه السرعة ..ثوان معدودة كانت فارقة بين الحياة والموت لأنني عندما عدت على الفور بالطبيبة وجدت أنفاسها متوقفة واكتشفت أن ملك ودعت الحياة في اللحظة التي خرجت فيها من الحجرة وكأنها ياقلب أبيها أشفقت على عيني من أن أشهد لحظة ارتقائها إلى بارئها, فشلت جميع المحاولات لإنقاذها بجهاز الصدمات.. ياحزن قلبي ..ملك كانت تودع الحياة بالتدريج وأنا الجاهل والغبي والمسكين لا أدرك ذلك, أجلس إلى جوارها بكل أريحية واطمئنان أنها ستظل معي ولن تفعلها وتتركني مجروحا بفراقها القاسي كقسوة حياتها..ماتت ملك في لحظة قاسية ومهينة لعقلي وقلبي المعلق بها عقلي الذي كان يصور لي في أزماتها المرضية التي لا تنتهي أن رحيلها إلى الجنة قد يوفر لها حياة أجمل من حياتها الدنيوية التي لا مستقبل لها سوى الألم والمعاناة..وقلبي الذي كان يعتقد خطأ و"خيابة" أنه قد يتحمل فراقها طالما ستلعب قي مروج الجنة وتعوض مرارة حياتها الدنيوية البائسة بجمال الحياة إلى جوار ربها.. لحظات مهينة لقدرتي على التفكير المنطقي لأنني لحظة إحساسى القاتل بحقيقة موتها أصبت بما يشبه الضياع في اللاشيء..لم أتحمل, وlوملم تفلح ثورة جنوني وصراخي من سويداء قلبي أن تعيدها إلى الحياة ..ماتت ملك وتركت في قلبي وروحي جرحا لا يندمل, وفي عيني دموعا لا تجف وفي نفسي حنينا لا ينتهي إلى أربعة عشر عاما من العشق والألم بلا أمل..لم أدرك أن قسوة معاناتنا معا أنا وملك ووالدتها وشقيقتها ستكون حلما بعيد المنال في مواجهة فظاظة شعور الفقد والفراق ..يا حبيبتي الغالية سامحيني على كل لحظة لم أكن موفقا فيها في الاعتناء بك..على عجزي عن تغيير واقعك المؤلم ..عن لحظات من قليلة من التعب المشوب بالزهق من اللاجدوى لكن بلا تخلى عن أبسط التزاماتي اليومية نحوك.
حكاية ملك بدأت قبل أكثر من أربعة عشر عاما عندما تلقيت اتصالا هاتفيا من شخص خليجي بترشيح من أحد أقاربي الذي يعمل هناك مدرسا, وطلب من إعداد كتاب عن ابنه المعاق بمرض غريب لكنه رغم ذلك أصبح بطلا رياضيا محليا ودوليا, ومع ترحيبي بالفكرة ارسل لي الرجل صور ابنه ومادة صحفية تساعدني في الكتابة عنه, وعندما وصلتني الصور أصبت بحالة من الإحباط والخوف وإن شئت دقة أكثر فقل والتشاؤم أيضا لأن زوجتي كانت في شهور حملها الأولى بابنتي ملك..تراخيت في العمل لعل الرجل يقل حماسة وهو ماحدث بالفعل فلم يعد يتابعني وتوقفت اتصالاته بي تماما..ومرت شهور الحمل وقبل ولادة ملك بيوم واحد أخبرني الطبيب المتابع وهو طبيب شهير جدا وتتابع عنده مشاهير الإعلاميات حينها بأن الطفلة ستولد بإعاقات بسيطة دون أن يحددها وعلل تأخره في اكتشاف الحالة بأعطال جهاز السونار في ماسبيرو حيث تتابع زوجتي معه هناك- وكان هذا هو الخطأ الطبي الأول- لأكتشف بعد الولادة العسيرة أن ملك مصابة بنفس مرض الطفل الخليجي الذي أرسل والده صوره إلي وهو المعروف بمرض الصلب المشقوق أو "سباينا بيفيدا" وهو مرض كان نادرا في تلك الأيام قبل أن يستفحل وينتشر في السنوات الأخيرة دون أدنى اهتمام به..أدركت حكمة الرسالة الإلهية المسبقة التي وصلتني..بعدها بأيام تلقيت اتصالا من نفس الرجل الخليجي بعد أن عرف من قريبي ماحدث, اعتذر الرجل بشدة وقائلا بالنص" أعنذر لك عن سوء ظني بك لعدم اهتمامك بانجاز الكتاب عن ابني لكنني أدرت الآن أنك غير ماظننت لأن الله لايعطي هذه الهبة إلا لمن يحبه وستعرف قيمة هذه الطفلة فيما بعد ..أقبل رأسك وأدعوك أن تقبل رأس زوجتك لأنها أنجبت الطفلة التي ستفتح لكما كل أبواب الخير".
مرت الصدمة بكل تفاصيلها المؤلمة والتي أقلها عمليتين جراحيتين في شهر واحد لأغلاق فتحة الظهر في العمود الفقري وتركيب صمام لتصريف المياه الزائدة من المخ.. كبرت ملك ذكية لكن في الحفظ فقط حيث كانت في سن الثالثة تحفظ العديد من سور القرآن الكريم وأغاني الأطفال وتعد الأرقام حتى مائة باللغتين العربية والإنجليزية..تعرف أسماء القنوات الفضائية من خلال اللوجو الخاص بالقناة, وتسير بكرسيها المتحرك بين المقاعد وفي أنحاء البيت الصغير, ملأت الدنيا بهجة رغم أنها لم تكن تدير حوارا بمعنى أنها كانت تتحدث في اتجاه واحد وتردد فقط ما تسمعه أذنيها فيما عرفت فيما بعد أنه نوع من التوحد, حتى حدث لها الخطأ الطبي الثاني الذي ألزمها بدواء الصرع اللعين الذي أثر سلبيا على تركيزها وتراجعت قدراتها العقلية شيئا فشيئا واقتصر كلامها على جمل محددة لا تتغير, وكانت تأكيدات الأطباء تصب في اتجاه واحد وهو أقصى أمل في حالة ملك هو أن تعيش هكذا دون أي فرصة لعلاج مشاكلها المعقدة من المسالك البولية والكلى للعظام والتأخر الذهني والشلل النصفي والتشنجات العصبية المتكررة والأخطاء الطبيةالعديدة في التشخيص والعلاج واعوجاج العمود الفقري الذي وصل بعد عدة سنوات إلى 180 درجة كاملة وغيرها من المشاكل الصحية المرتبطة بهذا المرض الغريب الذي لا تعرف أسبابه ولا طرق الوقاية منه والأسوأ أن يتكرر بصورة معينة في حالة إنجاب أطفال آخرين حيث نسبة التكرار في الطفل الثاني 20% بينما في الطفل الثالث 80% الأمر الذي تأخرنا بسببه في إنجاب الطفلة الثانية لمدة أربع سنوات والتي لم تسلم هي الأخرى من إصابتها بلوكيميا الدم وهي في سن الثلاث سنوات ونصف حتى شفاها وعافاها الله بفضله وكرمه بعد ما يقرب من خمس سنوات من العلاج في مستشفي 57357.
تغيرت الحياة تماما بعد ولادة ملك وانقلب نظام عملي من الصباح إلى الفترة المسائية بسبب تبادلت الاهتمام بالطفلة أن وزوجتي المرتبطة بعمل يومي كموظفة في ماسبيرو رغم تعاطف زملائها ورؤسائها في العمل الذي ازداد بعد إصابة ابنتنا الصغرى "عالية" بالمرض اللعين, لم أعد بنفس النشاط والاهتمام والطموح حيث تخليت تماما عن كل طموحاتي العملية التي كان أقلها المشروع الكبير لتوثيق الدراما التليفزيونية الذي كنت قطعت فيه شوطا كبيرا..وشيئا فشيئا تفرغت تماما لملك طوال سنواتها الأربعة عشر وبضعة شهور وحتي لحظاتها الأخيرة في الحياة.
أنظر الآن إلى سنوات العمر التي مضت في صراع مرض بنتي الإثنتين وأشعر بالأسى والحزن لأنني لم أستطع رغم طبيعة عملي كصحفي أن أقدم شيئا إلى ملك ورفيقاتها من مرضى الصلب المشقوق الذين ترعاهم مؤسسة "وعد" ووالدها المكلوم أيضا بإصابة ابنته بنفس المرض..سنوات طويلة مضت مليئة بالتعاسات النفسية والإحباطات التي لاتجد حلولا للطفلة النائمة في سريرها أغلب الوقت في نظام حياة وطعام روتيني يبدأ بحملها لحمام الصباح وينتهى بحمام المساء وبينهما تفاصيل كثيرة دواء وطعام ثابت لا يتغير حيث كانت تتناول طعاما يمكن هرسه وتفنينه في "الكبة" لتتمكن من تناوله ابتلاعا بالملعقة لأنها لاتعرف المضغ, لا خروج من البيت حيث ثقل وزنها ولم أعد قادرا على حملها للتنزه مثل باقي الأطفال وهو التقصير الكبير الذي يدمي قلبي وعانت منه شقيقتها الصغيرة لكنه كان رغما عني.
ذهبت ملك إلى جنات ربها وتركت خلفها قلوب أب وأم وشقيقة صغيرة يعتصرهم ألم الفراق بلا هروب من ذكريات لاتنسى بكل تفاصيلها المحزنة والشقية والسعيدة ..مازالت ضحكتها البريئة ترن في جنبات البيت وهي تردد بكل براءة " اتكسرت" في حال وقوع شىء على الأرض, ندائها علي بإسمي وأسم أمها وإسم شقيقتها بإضافة حرف الزاي في نهاية كل كلمة, جملتها الوحيدة وطلبها المكرر "إشب مية في ببونة", كلمتها الوحيدة عندما تمسك الهاتف "كل سنة وانت طيبة" , تقليدها لأصوات اللوجو الموسيقي لبعض القنوات الفضائية, إصرارها في شهورها الأخيرة على أن تحتضن رأسي إلى صدرها وتقبلني لأظل في هذا الوضع حتي تنام واسحب رأسي منها في هدوء وكأنما كانت تودعني دون أن أدري.
ذهبت ملك إلى ربها لتظل ذكرى ألم وأمل وحب لاينتهي في قلوب كل من لمح طرفا من ابتسامتها أو طرب من صوت "كركرة" ضحكاتها, أو سمع صوتها في الهاتف بجملتها الحيدة والشهيرة" كل سنة وانتي طيبة يا حبيبة ال"..عشت يا ملك طيفا من الحب والنور في الأرض لسنوات قليلة وستعيشين ملاكا جميلا في جنات الله إلى الأبد.