هيرمس
    مصر
  • 29℃ القاهرة, مصر

رئيس مجلس الإدارة

طارق لطفى

رئيس التحرير

أحمد سليمان

قهوة الصباح

متحف المستقبل (أنا مصر التي لا تموت )

 

لم يكن إنشاء المتحف المصري الكبير مجرد مشروع معماري ضخم أو صرح سياحي جديد يضاف إلى قائمة منجزات الدولة المصرية، بل هو بيان حضاري مكتوب بالحجر والضوء، يعكس فلسفة جديدة ترى في الماضي نقطة انطلاق نحو الغد، لا مجرد ذكرى تُعلَّق على جدران التاريخ. إن هذا المتحف لم يُبنَ ليكون بيتًا للآثار فحسب، بل ليكون بيتًا للهوية، ومزارًا للروح المصرية التي لا تعرف إلا البقاء والخلود.

منذ اللحظة الأولى لولادة الفكرة، أدرك القائمون على المشروع أنهم لا يشيدون مبنى من حجر وزجاج، بل يؤسسون لفكرة وطنية خالدة، تُعلن أن الحضارة المصرية ليست صفحة من الماضي تُروى للأجيال، بل قصة ممتدة، يكتبها المصري كل يوم بعرقه وجهده وإيمانه بقدر وطنه. فكما شيد الأجداد الأهرامات بأدوات بدائية وعقول جبارة، هكذا شيد الأحفاد المتحف المصري الكبير، بأحدث تقنيات العصر، وبروح لا تقل عظمة عن تلك التي بنت مجد الأجداد.

إن المتحف المصري الكبير ليس احتفاءً بالقدماء بقدر ما هو احتفاء بالإنسان المصري نفسه، ذلك الذي لا ينكسر أمام الزمن، بل يجعله يعمل لصالحه. في أروقته تتجاور عبقرية الماضي مع ذكاء الحاضر، وتتحدث الآثار إلى زوارها بلغة الزمن الأبدي، لتقول إن مصر لم تكن يومًا حضارة طين وحجر فقط، بل كانت وستظل حضارة عقل وروح وإرادة.

لقد جاء إنشاء هذا المتحف في لحظة مفصلية من تاريخ الأمة، لحظة تُعيد فيها مصر اكتشاف ذاتها وسط عالم مضطرب يبحث عن معنى البقاء. في تلك اللحظة، اختارت مصر أن ترد على أسئلة المستقبل بلغة الماضي العظيم، فجمعت في مكان واحد ما تبقى من كنوز الفراعنة، لا لتغلق عليها في صناديق العرض، بل لتفتحها أمام العالم شاهدةً على أن من صنع التاريخ قادر على صناعته من جديد. إن المتحف المصري الكبير هو مرآة الوطن التي تعكس وجهه الحقيقي، وجه الحضارة التي لم تَخْبُ جذوتها رغم تقلب العصور.

ويقف العالم اليوم على أطراف أصابعه، يتأمل هذا العمل الفريد الذي تضافرت فيه العقول المصرية والسواعد المصرية والإرادة المصرية. فالمتحف ليس مجرد مبنى يضم آثارًا، بل لوحة فنية كبرى تنطق بالإبداع، وتحكي قصة الإنسان الذي تحدّى المستحيل منذ فجر التاريخ وحتى هذه اللحظة. كل قطعة أثرية وُضعت في هذا الصرح العظيم تمثل حلقة وصل بين زمنين؛ زمن الأهرامات الذي صنع المعجزة الأولى، وزمن النهضة الذي يصنع المعجزة الثانية. وبين الزمنين تمتد الخيوط التي لا تنقطع، لتؤكد أن مصر ليست دولة عابرة في الجغرافيا، بل كيان خالد في وجدان البشرية.

حين تقف أمام بوابة المتحف، وتشاهد ذلك التصميم الذي يمزج بين الأصالة والمعاصرة، تدرك أن ما جرى هنا ليس مجرد هندسة معمارية، بل فلسفة وطنية في فن البقاء. الحجارة تتحدث، والزجاج يروي قصة الضوء، والهواء الذي يملأ أروقة المكان يحمل عبير سبعة آلاف عام من العظمة. هنا يلتقي الماضي بالحاضر في مشهد مهيب، كأن الأجداد قد عادوا ليصافحوا أبناءهم، وليقولوا لهم: “لقد سلمناكم الرسالة، فأكملوا المسيرة.”

إن افتتاح المتحف المصري الكبير ليس حدثًا ثقافيًا أو سياحيًا فحسب، بل هو إعلان ميلاد مرحلة جديدة من الوعي المصري. إنه شهادة ميلاد لوطن يعرف قيمته ويؤمن بدوره في قيادة الحضارة الإنسانية. فالمتحف بهذا المعنى ليس نهاية طريق، بل بدايته. ومن بين جدرانه ستنطلق رسالة مصر إلى العالم: أن هذه الأرض التي أنجبت أول معماري، وأول فيلسوف، وأول قانون، لا تزال قادرة على الإبداع والتجديد والريادة.

ولعل أعظم ما في هذا المشروع أنه جمع المصريين على حلم واحد، حلم يستمد قوته من الماضي لكنه يطل برأسه نحو المستقبل. في زمن التحديات الكبرى والانقسامات العالمية، يظهر هذا المتحف كرمز نادر من رموز التوحد الحضاري، حيث تتلاقى الإرادة الوطنية مع عبقرية المكان والزمان لتقول للعالم: “ها هي مصر، التي كانت مهد التاريخ، تصبح اليوم بوابته إلى المستقبل.”

ليس غريبًا أن يثير المتحف المصري الكبير انبهار العالم أجمع، فالعظمة حين تتجسد لا تحتاج إلى شرح. العالم اليوم يترقب افتتاحه كما يترقب ميلاد معجزة جديدة، لأن ما قامت به الأيادي المصرية هنا يفوق حدود الفن والهندسة، ويقترب من حدود الإلهام. إننا أمام إنجاز يوازي في رمزيته بناء الأهرامات، لأنه لا يتحدث عن الماضي فحسب، بل يؤسس لرؤية جديدة للمستقبل، رؤية ترى أن النهضة لا تُستورد من الخارج، بل تُبنى من الداخل على جذور راسخة.

وهكذا يصبح المتحف المصري الكبير أيقونة للهوية المصرية المتجددة، وجسرًا يمتد من التاريخ إلى الغد، ومن التراث إلى الإبداع. إنه وعد للأجيال القادمة بأن مصر التي صنعت المجد في الأمس قادرة أن تصنعه في الغد، وأن الحضارة ليست أطلالًا نتمشى بينها، بل روحًا تسكننا ما دمنا نحمل هذا الاسم العظيم: مصر.

في النهاية، يقف المتحف المصري الكبير شامخًا كأنه قَسَمُ وطنٍ في وجه الزمن، يعلن أن الماضي لم يكن نهاية الحكاية، بل بدايتها، وأن المصري حين يبدع لا يكرر نفسه، بل يضيف إلى التاريخ فصلًا جديدًا من المجد والعظمة. هنا تتحدث مصر للعالم كله، لا بصوت الكلمات، بل بصوت الإنجاز… لتقول:

"أنا متحف المستقبل… أنا مصر التي لا تموت"