مثل كثيرين، انخرطت بدوري في هذه الموجة، فصنعت صورًا لي ولأصدقائي بملابس فرعونية، واخترت لنفسي هيئة توت عنخ آمون وأحمس ورمسيس، فيما اختار أصدقائي من السيدات ملامح نفرتاري وكليوباترا وحتشبسوت وغيرهن من ملكات مصر الخالدات. صفحات السوشيال ميديا غصّت بدورها بصور لمصريين يرتدون رموز تاريخهم، وكأن الحضارة الفرعونية خرجت من جدران المتاحف لتستقر على الوجوه والملامح في مشهد احتفالي جمعي. هنا لم يعد الأمر مجرد لعبة صور أو تجربة عابرة؛ بل سلوكًا شعبيًا يستحق التأمل. أمام هذا المشهد تحرك السؤال: ما دلالة هذا الانجذاب العارم إلى التاريخ الملكي القديم؟ وأي طاقة نفسية واجتماعية وبصرية يحملها هذا التماهي مع الفراعنة؟ هكذا وجدت نفسي أذهب نحو تحليل نفسي واجتماعي وتحليل مضمون لهذه الظاهرة، بحثًا عن معنى يتجاوز الإعجاب إلى فهم أعمق لعودة المصري إلى تاريخه عبر صورة رقمية تحمل روح الأسلاف يبدو المشهد في مصر هذه الأيام استثنائيًا بكل المقاييس. فبينما يفتح المتحف المصري الكبير أبوابه ليعلن لحظة حضارية طال انتظارها، يندفع المصريون، على منصات التواصل الاجتماعي، إلى تركيب صورهم ووجوههم على تماثيل الفراعنة وملامح ملوك مصر القديمة. قد يبدو الأمر للوهلة الأولى مجرد موجة رقمية عابرة، لكنه في الحقيقة يحمل دلالات أعمق تتجاوز حدود الترفيه والصورة، لتصل إلى جوهر الهوية، وروح الانتماء، وذاكرة الحضارة، واحتياج المجتمع لاستعادة صورة ذاته في مرآة التاريخ.
هذا السلوك الشعبي لا يعبر عن نزعة جمالية فقط، بل عن حالة وجدانية جماعية؛ فالمصري حين يضع وجهه مكان وجه رمسيس أو حتشبسوت لا يهرب من واقعه، بل يعود إلى جذوره ليعيد تعريف نفسه. هو إعلان غير منطوق: أنا لست صفحة عابرة في حاضر مرتبك، بل امتداد لحضارة صنعت العالم ذات يوم وعلّمت الدنيا معنى الدولة والروح والنظام والفن. المشهد هنا يعكس رغبة عميقة في استعادة الكبرياء الحضاري وتثبيت قيمة الذات، كأن المصري يريد أن يقول لنفسه وللعالم: هذه الأرض التي أنجبت الفراعنة ما تزال قادرة على الإبداع، وما زالت الروح القديمة تنبض في شعبها.
اجتماعيًا، تُظهر هذه الظاهرة أن المجتمع يعيش لحظة احتفال بالهوية، ليس عبر الخطب الرسمية أو الشعارات الجاهزة، بل عبر المشاركة الشعبية التي تعيد تشكيل العلاقة بين المواطن وتراثه. التكنولوجيا ليست مجرد أداة هنا، بل وسيط جديد يقرّب الجماهير من رموز حضارتها، ويمنحهم حق التفاعل مع التاريخ بدل الاكتفاء بمشاهدته من خلف زجاج المتحف. إنه نوع من إعادة توزيع الرمزية؛ الملوك لم يعودوا مجرد تماثيل صامتة، بل أصبحوا شخصيات يومية في صور المصريين، وهذا في حد ذاته فعل ديمقراطي ثقافي يعيد الهوية إلى الناس.
نفسيا، يعكس الأمر حاجة عميقة لدى المجتمع لتثبيت الذات بعد سنوات من التحديات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. فحين يتعرض الوعي الجمعي لاختبارات متكررة، يبحث الأفراد عن مرساة ثابتة يركنون إليها. الحضارة هنا ليست مجرد تاريخ، بل ملاذ نفسي، ودرع هوية، ودواء لاستعادة الإحساس بالثقة. الصور الفراعونية الحديثة لا تنتمي للماضي، بل تُستخدم لبناء الحاضر وشحن المستقبل بالطاقة الرمزية. المصري يقول لنفسه عبر هذه الصورة: أنا ابن من بنى الأهرام، ولست أقل من أحد.
أما تحليل مضمون هذه الظاهرة فيكشف عن رسائل واضحة؛ أولها أن المصري يعتبر الحضارة ملكًا شخصيًا وليست تراثًا رسميًا فقط. ثانيها أن صورة الفرعون لم تعد رمزًا للعظمة البعيدة، بل تجسيدًا للفرد نفسه، وهذا تحول مهم في علاقة المجتمع بتاريخ البلاد. كما أن اللغة البصرية المستخدمة تظهر عودة قوية للرموز الفرعونية في الوعي الشعبي؛ التيجان، النقوش، الألوان الملكية، وضعيات التمثال الجالس أو الواقف، كلها عناصر تشير إلى رغبة في تجسيد الوقار والقوة والخلود. إنها لغة بصرية تقول: هذه ليست لحظة ترفيه؛ هذه لحظة تعبئة رمزية وإحياء وطني جمعي.
إن الفرح الكبير الذي يعيشه المصريون بافتتاح المتحف المصري الكبير ليس مجرد احتفاء بمبنى جديد، بل احتفال بعودة صوت قديم كان يهمس تحت الرمال، ثم نهض ليقول: هنا تقف مصر. هذه الصور الرقمية ليست نزوة، بل انعكاس لحاجة إنسانية واجتماعية وثقافية لملامسة الماضي كي نتحرك بثقة نحو المستقبل. إنها لحظة نادرة تتقاطع فيها الذاكرة بالخيال، والتاريخ بالتكنولوجيا، والشعب بالرمز الحضاري. وهكذا، حين يضع المصري وجهه مكان وجه الفرعون، فهو لا يحلم بأنه ملك، بل يعلن أن وطنه كان — وسيظل — مملكة للحضارة، وبالفعل فرحة الافتتاح.. المتحف الكبير أيقظ الفرعون داخل كل مصري.
مصطفي البلك
[email protected]