الكارما… كلمة تبدو كأنها قادمة من ضباب الشرق البعيد، لكنها تحمل في جوهرها معنى يلامس حياة كل إنسان. في الفلسفة الهندية، ليست الكارما مجرد فكرة غامضة، بل مبدأ أخلاقي عميق يربط بين أفعالنا ونوايانا ومصائرنا المقبلة، كخيط غير مرئي ينسج حاضرنا من ماضينا ويخطّ غدنا بما زرعناه اليوم. ومع الزمن، تسلّل هذا المفهوم إلى ثقافاتنا العربية، لا كعقيدة دينية، بل كرمز للحكمة الأخلاقية؛ إذ أصبح يُستعمل للدلالة على عدالة الحياة وردّ الفعل الكوني، حين نقول مثلًا: "اللي بيعمل خير يلاقي خير"، في إشارة خفية إلى أن لكل فعلٍ صدى يعود يومًا إلى صاحبه. ولكن، هل قانون الكارما حقيقة أم وَهم؟
عزيزي القارئ، إنّ فكرة العدالة الكونية، أو ما تُعرف بـ"الكارما"، لم تولد مع الفلسفة الهندية وحدها؛ فمنذ أقدم العصور، والإنسان يحمل في داخله إيمانًا غامضًا بأن هذا الكون لا يترك فعلًا بلا حساب، ولا نية دون أثر. كأنّ هناك ميزانًا خفيًّا يزن الخير والشرّ بإنصافٍ دقيق، فيردّ إلى كلٍّ ما يستحقه، ولو بعد حين. ومن هذا الإحساس العميق بعدالة الوجود، وُلدت الأساطير التي حاولت أن تُجسّد هذا القانون الكوني وتُفسّره على طريقتها.
في أسطورة كتاب الموتى، يقف الإنسان في مواجهة الأفاعي التي تعترض طريقه في العالم الآخر، فيسألها عن الطريق الحق، فتجيبه: "الطريق هو أن تعترف بنا". ومن هذا الجواب الغامض تتفجر الأسئلة التي لم تهدأ يومًا: هل الكارما – ذلك القانون الكوني الذي يُقال إنه ينظم العدالة الروحية في الكون – حقيقة مطلقة أم مجرّد وَهم ميتافيزيقيّ صاغه الإنسان ليُرضي شغفه بالعدل والمعنى؟
حين اجتاح جيش "ماو تسي تونغ" التبت، رأى بعض الرهبان في الكارثة عقابًا سماويًا مستحقًا، كأنهم يدفعون في حياتهم الحالية ثمن ذنوبٍ ارتُكبت في حياةٍ سابقة. غير أن السؤال المؤلم يطلّ من جديد: هل كان اليهود "يستحقون" هتلر؟ وهل يستحق البشر كل الطغاة الذين مرّوا على هذا العالم؟
هذه المفارقة ذاتها واجهها "يودهِشثيرا" في المهابهارتا، حين رأى أعداءه في السماء وأصدقاءه في الجحيم، فوقف حائرًا يسأل إله الحق: أين تكمن الحقيقة؟ فيجيبه الحكيم "ڤياسا" بأن كل ما يراه ليس سوى وَهم – الأعداء والأصدقاء، الجنة والنار، بل حتى العدالة نفسها. لكن، إذا كانت العدالة وَهمًا، فهل يمكن للوهم أن يكون عادلاً؟
صديقي القارئ، هنا نبلغ قلب الإشكال الفلسفي الذي يتجاوز مفهوم الكارما نفسه: إذا كانت الحقيقة هي آخر الأوهام، فهل تكون الحقيقة أيضًا وَهمًا؟ وإذا قلنا إن لا شيء حقيقي، أفلا يحتاج هذا القول نفسه إلى أن يكون حقيقيًا حتى يُعتدّ به؟ وهكذا ندور في دائرةٍ لا نهاية لها، لا نخرج منها إلا بالاعتراف بأن للعالم – رغم التباساتِه كلِّها – حقيقةً ما، حتى وإن كانت تلك الحقيقة غامضة كضوءٍ خافتٍ يتراءى في آخر النفق.
في هذا الأفق الرمزي، لا يدعونا كتاب الموتى إلى إنكار الوهم، بل إلى الاعتراف به كجزءٍ من وعينا الداخلي. فإن ظهرت الأفاعي في طريقنا، فذلك لأن جزءًا منها يسكن أرواحنا. ليست المسألة أننا "نستحق" ظهورها، بل كيف نتعامل مع ما تمثله داخلنا. فـ"ماو" و"هتلر" لم يكونا سوى تجسيدٍ بشريّ لتلك الأفاعي التي نحملها نحن جميعًا في أعماقنا: الغرور، الغضب، والرغبة في السيطرة.
أما البهاغافاد غيتا فتقول:
"لك الحق في الفعل، لا في ثمرته. لا تعمل طمعًا في الجزاء".
لكن إن كان العالم كله وَهمًا، فحتى الفعل وثمرته، والحق والجزاء، كلها تدخل ضمن دائرة الوهم ذاتها. فهل نحن إذن أمام نظرية ترى أن كل شيء باطل، لكن بعض الأباطيل أقل بطلانًا من غيرها؟ إن هذا المنطق، مهما بدا عميقًا، يهدم نفسه من داخله؛ لأن نفي الحقيقة المطلقة يفضي إلى نفي النفي ذاته، فلا يبقى شيء يُقال عنه إنه "صحيح" أو "باطل".
ولو سلّمنا بأن كل شيء وَهم، لانعدم الخير والشر، والعدل والظلم، بل حتى الرحمة ستغدو وَهمًا يُمنح لمخلوقاتٍ وهمية. ومع ذلك، فإن بوذا – رغم إقراره بأن العالم وَهم – ظل يرى أن الرحمة واجبة حتى تجاه الوهم نفسه، لأن الطيبة لا تحتاج إلى حقيقة لتكون صادقة، بل إلى وعيٍ عميقٍ بالإنسان. وكأن الرسالة الخفية تقول: تحلَّ بالخير، حتى لو كان العالم مسرحًا من ظلال.
وهكذا يبلغ النص ذروته المفارقة: حتى "الواجب" وَهم، وحتى "التحليل" ذاته وَهم آخر. غير أن الكاتب يختم بحكمةٍ لا تخلو من حسم: القول إن كل شيء وَهم ينقض نفسه، لأنه إن كان صادقًا فهو وَهم، وإن كان وَهمًا فهو باطل. وفي الحالتين، يبطل القول ذاته. إذن، لا بد أن هناك شيئًا واحدًا على الأقل حقيقيًّا.
ويبقى السؤال معلقًا في فضاء الفلسفة: ما هو هذا الحقيقي؟ وما هو الوهم؟ هل الحقيقة الوحيدة هي أن كل ما عداها وَهم؟ أم أن الواقع أوسع من أن يُختزل في ثنائية الحقيقة والزيف؟
ربما علينا أن نعود إلى سؤال "بيلاطس البنطي": ما هي الحقيقة؟
لكن كما قال لاو تسو في كتاب الطاو:
"حتى الحكيم لا يجزم بهذا الأمر."
أما سقراط فكان أكثر تواضعًا حين قال:
"كل ما نعرفه، أننا لا نعرف شيئًا".
وهكذا يتحول السؤال من ميتافيزيقي إلى معرفي، من "ما هو الواقع؟" إلى "كيف نعرف ما هو الواقع؟". ومن هنا تبدأ رحلة الإنسان الأبدية، من الوجود إلى الوعي، ومن الكارما إلى الحقيقة. وفي النهاية، يبقى السؤال مفتوحًا على اتساعه: هل الكارما قانون خفيٌّ فعلاً يحكم مصائرنا، أم أنها فكرة جميلة اخترعها الإنسان ليمنح العالم معنى وعدلًا لا يراه في الواقع؟ إجابتنا عن التساؤال ستكون موضوع مقالنا القادم إن قَدَّرَ الله البقاء واللقاء.
[email protected]