رئيس تحرير عقيدتي في دار الجمهورية للصحافة عضو المجلس الاعلي للشئون الاسلامية بالقاهرة درس اللغة العربية في جامعة الازهر
اليوم هو الذكري الثانية والخمسين لانتصار المصريين في حرب السادس من أكتوبر المجيدة ١٩٧٣ ،على العدو الاسرائيلي وتكبده الخسائر الفادحة والقضاء على اسطورة الجيش الذي لا يقهر، فقد كانت هذه الحرب ومازالت وستطل ملحمة عظيمة ، وواحدة من أهم المحطات الفاصلة في تاريخ الامة العربية ، ليس فقط لأنها أعادت للأرض كرامتها، وإنما لأنها جسّدت معاني أسمى من القتال والنصر، فقد تجلّت فيها الروح المعنوية والعقيدة القتالية الراسخة، والإيمان العميق بنصر الله، إلى جانب الوحدة الوطنية الصلبة بين عنصري الأمة، المسلمين والمسيحيين. هذه العناصر مجتمعة صنعت المعجزة العسكرية التي حيّرت العالم، ورسّخت مكانة مصر في قلب الأمة العربية والإسلامية، وأثبتت أن الشعوب لا تُهزم حين تمتلك إرادة حقيقية مؤمنة بعدالة قضيتها.
العقيدة القتالية كانت هي البوصلة التي تهدي الجندي في ساحة المعركة، وهي الإيمان بأن القتال ليس مجرد صراع مادي، بل قضية وطن ودين وكرامة.
لقد خاض المقاتل المصري حرب أكتوبر بروح مستمدة من إيمانه العميق بأن الله ينصر من ينصره، وبأن الجهاد دفاعاً عن الأرض والعرض هو واجب مقدس. كانت المساجد في الجبهة تعج بصوت التكبير، والجنود يؤدون الصلاة في الخنادق وعلى ضفاف القناة، يستمدون من القرآن الكريم وسيرة الصحابة عزيمة لا تنكسر.
ولم يكن ذلك مجرد شعارات، بل كان دافعاً حقيقياً يحرك السواعد، ويقوي الإرادة في مواجهة عدو مدجج بأحدث الأسلحة ومدعوم من القوى العظمى ، هذا الإيمان جعل الجندي المصري يقتحم خطوط بارليف الحصينة غير آبه بالموت، رافعاً شعار: الله أكبر. هذا التكبير لم يكن مجرد هتاف عابر، بل كان بمثابة زلزال نفسي أصاب جنود العدو بالارتباك، وأشعل في قلوب المصريين جذوة الحماس واليقين بالنصر.
لم يكن سلاح المصريين في أكتوبر متطوراً كما هو حال العدو، لكن الروح القتالية التي امتلكها الجيش المصري عوضت الفارق. فالروح القتالية تعني استعداد الجندي للتضحية بروحه فداء لوطنه، واستعداده لمواجهة أي تحدٍ دون خوف أو تراجع. لقد كانت روح أكتوبر نابعة من تراكم سنوات من الهزائم والمعاناة بعد نكسة 1967، حيث أقسم الجنود على أن يمسحوا عار الهزيمة مهما كلفهم ذلك.
هذه الروح القتالية لم تأتِ من فراغ، بل من إيمان بأن التضحية في سبيل الله والوطن شرف لا يعلوه شرف، ومن يقين بأن مصر لا بد أن تنهض وتستعيد كرامتها مهما طال الزمن.
من أبرز ما ميّز حرب أكتوبر هو تلاحم المصريين جميعاً دون تفرقة بين مسلم ومسيحي. ففي لحظة الخطر، لم يعد هناك ما يفرّق أبناء الوطن الواحد، فالدماء اختلطت على ضفاف القناة، وسقط الشهداء من الجانبين في معركة واحدة دفاعاً عن أرض واحدة.
الكنائس المصرية كانت تدعو للنصر في صلواتها، كما كانت المساجد تفعل، والجنود المسيحيون حملوا الصليب إلى جوار رفاقهم المسلمين الذين رفعوا المصحف، فكان المشهد رمزاً خالداً للوحدة الوطنية.
لقد أثبتت حرب أكتوبر أن وحدة الصف هي السلاح الأقوى في مواجهة التحديات، وأن النصر لا يتحقق إلا عندما تصهر العقيدة القتالية مع الإيمان بالله ومع الوحدة الوطنية في بوتقة واحدة.
النتائج التي تحققت في حرب أكتوبر لم تكن مجرد استعادة للأرض، بل كانت انتصاراً للكرامة الوطنية. لقد أبهرت مصر العالم بقدرتها على تحطيم أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، وأعادت للأمة العربية ثقتها بنفسها. هذا النصر لم يكن ليحدث لولا تحقق عنصر
الإيمان العميق بنصر الله الذي جعل الجندي يوقن أن الموت في سبيل الوطن شهادة، وأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. بالإضافة الي الروح القتالية التي صنعت المستحيل وحولت الضعف الي قوة واليأس الي أمل .
إن الأجيال الجديدة التي لم تعاصر حرب أكتوبر بحاجة إلى أن تدرك أن النصر لم يكن هبة أو صدفة، بل كان ثمرة جهد شاق، وتضحيات جسيمة، وإيمان راسخ بالله والوطن. إن أهم ما يمكن أن نتعلمه من أكتوبر هو أن العقيدة والإيمان والوحدة هي مفاتيح أي انتصار، سواء في ميادين القتال أو ميادين البناء والتنمية.
حين يقف المسلم إلى جانب المسيحي، وحين يوقن الجميع أن الدفاع عن الوطن عبادة، وحين تسود الروح القتالية في مواجهة التحديات، فإن المستحيل يصبح ممكناً. وهذه الدروس لا تقتصر على ساحات المعارك، بل تمتد إلى بناء الأوطان، وحماية الهوية، ومواجهة التحديات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
إن حرب أكتوبر لم تكن مجرد معركة عسكرية، بل كانت ملحمة إيمانية ووطنية جمعت بين العقيدة القتالية والإيمان بنصر الله، والوحدة الصلبة بين أبناء الوطن مسلمين ومسيحيين. لقد أثبتت هذه الحرب أن الشعوب حين تتوحد حول هدف واحد وتؤمن بعدالة قضيتها، فإنها قادرة على صنع المستحيل.
وهكذا تبقى روح أكتوبر خالدة في وجدان الأمة، تذكّرنا دائماً بأن النصر لا يُمنح إلا لمن يستحقه، ولا يتحقق إلا بالعقيدة الراسخة، والإيمان العميق، ووحدة الصف. وما أحوجنا اليوم إلى استلهام هذه القيم ونحن نواجه تحديات العصر، لنبني وطناً قوياً يليق بتاريخ مصر وحضارتها ويواصل رسالتها الخالدة في الدفاع عن الحق .