الخبير الدولي و الأستاذ بجامعة حلوان و رئيس شعبة الميكانيكا
خلال زيارته الأخيرة للمنطقة، صرّح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأنه يأمل أن يرى “سلامًا دائمًا”، ووصفه بأنه “فجر شرق أوسط جديد”.
تُمثّل نهاية حرب غزة فرصةً عظيمةً للشرق الأوسط، فرصةٌ فريدةٌ لم تتح منذ عقود. والسبب أن نهاية الحرب تتزامن مع انتهاء العام الأول من ولاية ترامب الثانية، مما يعني أن دول المنطقة تدرك أنها ستحظى بسنوات من الاستمرارية في سياسات البيت الأبيض. وهذا أمر بالغ الأهمية، إذ شهدت هذه الدول تعاقب رؤساء الولايات المتحدة على مدى عقود، فأصبحت حذرةً من السياسات المتقلبة الصادرة عن واشنطن.
من يريد التأثير على “اليوم التالي” في غزة كان من المفترض الا يفوت حدثًا مهمًا مثل قمة شرم الشيخ لأي سبب كان، لأن من لا يشارك في صياغة التاريخ لحظة وقوعه سيضطر إلى الاكتفاء بالتعليق على ما يُقرر بدونه. وعندما صرّح ترامب بأنه يريد وقف الحرب وإعادة إعمار غزة، كان يدعو في الوقت نفسه إلى طرح رؤية جديدة لمنطقة الشرق الأوسط.
في نظر واشنطن، انتهت المرحلة العسكرية التي تلت السابع من أكتوبر 2023، وتحولت القمة إلى ورشة عمل لصياغة تلك الرؤية الجديدة. تُستبدل الحرب بالإدارة، وإعادة الإعمار المدني بنزع السلاح، ووضع آليات أمنية إقليمية. سلسلة طويلة من ملفات “الكيفية” بدلًا من الخطابات “التعبوية”. لغة الصفقات والمقايضة والبيع، بدلا من الأيديولوجيا. رهائن مقابل وقف إطلاق النار، تطبيع مقابل إصلاحات، تنسيق مدني مقابل نشر قوة مشتركة.
ترامب، الذي يُوصف أحيانًا في الشارع الأمريكي بأنه “جرار زراعي بلا رخصة”، وصل إلى الشرق الأوسط وقد تحول إلى أداة سياسية سريعة الحركة لتحقيق مكاسب. لم يعد السؤال يدور حول إمكانية “جولة أخرى”، بل كم من الفرص ستُضيَّع مع إهدار الوقت في تحقيق الصفقات والمكاسب.
وهنا يأتي دور الدعوة إلى شرم الشيخ، فهي ليست دعوةً بأسلوب “انضموا إن شئتم”، بل دعوةٌ لحضور نقاش يُترجم فيه العناوين الرئيسية إلى آليات عملية. قد يكون الغياب منطقيًا بالنسبة لبعض الأطراف، لكنه في ديناميكيات القمة يُعادل مقعدًا فارغًا.
عندما يكون هناك مخطط مفتوح و” موثوق” يُرسم بخطوط عريضة لأقسام تتعلق بالحوكمة والأمن وإعادة الإعمار، فإن من يصوغ الخطوط الفاصلة، ويحدد أقسامًا تتعلق بمراقبة المعابر، ويضع الأطر الزمنية لنزع السلاح، هو من يكون حاضرًا في الغرفة. أما الغائب، فيكتفي لاحقًا بالتعليق على القرارات المتخذة.
تُعدّ صفقة الرهائن رافعةً لهيكل إداري وتنفيذي أوسع نطاقًا بكثير: مجلس إدارة مدني بدعم أمريكي-عربي من جهة، وقوة استقرار أمنية - معظمها من دول عربية وإسلامية بدعم من مصر والأردن - من جهة أخرى. ليس هذا “أوسلو 2”، ولا “حكومة وحدة فلسطينية” على النمط القديم، بل ائتلاف وظيفي. قد يبدو هذا الأمر غير مألوف سابقًا، لكنه ممكن حاليًا وفقًا لمقتضيات الأمر الواقع.
عمليًا، تعتمد جدوى هذه الخطوة على ركيزتين أساسيتين: تسريع نقل السلطة ونزع السلاح، والتشكيل التدريجي لقوة استقرار وشرطة محلية مستقلة عن حماس، تتكون من أفراد سابقين في النظام الفلسطيني تحت مسمى جديد. سيستغرق هذا وقتًا. ومن يجدون صعوبة في تقبل هذا المنطق يواصلون رسم واقع مفضل لهم.
مع ذلك، تواجه إسرائيل تحديين رئيسيين. الأول: إغراء العودة إلى السلاح، وهو إغراء قصير النظر، لأن الاستخدام المفرط للقوة هذه المرة لن يتطلب تفسيرًا فقط، بل تنسيقًا مع الوسطاء الثلاثة الذين يملكون مفاتيح الاتفاق وإعادة الإعمار. الثاني: السياسة الداخلية، إذ إن الخوف من شراكات متطرفة قد تُسقط الحكومة يُترجم فورًا إلى إضعاف التأثير على بنود التنفيذ. فهل إسرائيل مستعدة لدفع الثمن مقدمًا - بتنازلات مدروسة، ومرونة ذهنية، وتسويات محكومة - للحصول على المرونة الأمنية وإعادة تأهيل المدنيين، أم أنها ستستمر في السير عكس التيار؟
على الجانب الفلسطيني، حماس، التي اعتادت أجواء الحصار والصراع، مُطالبة الآن بتنفيذ جميع بنود المرحلة الأولى بينما لا تزال تسيطر على أجزاء من القطاع دون منافسة مباشرة، ودون تهديد واضح لقادتها.
مع دخول إسرائيل المرحلة التالية من خطة ترامب للسلام في غزة، لا تزال الشكوك قائمة حول نوايا حماس وطموحاتها الإقليمية، ويبقى السؤال: هل تستطيع إسرائيل أن تتحول من دولة استعمارية إلى دولة جوار تحمل نوايا الجيرة الحسنة؟ أشك في ذلك.
بينما المرحلة الأولى من خطة السلام واضحة ودقيقة، تبقى الجوانب الأخرى للخطة، المكونة من عشرين بندًا، غامضة، ولم يتضح بعد من سينفذها ومتى وكيف. إضافةً إلى ذلك، فإن سنوات من الحروب والانتفاضات، فضلًا عن أحداث السابع من أكتوبر، تجعل البعض يعتقد أنها قد لا تتحقق، أو على الأقل أن نجاحها مرهون بفترة بقاء ترامب في البيت الأبيض.
ولكن ماذا لو؟ ماذا لو نجحت خطة ترامب للسلام؟ ماذا لو واصلت الإدارة الأمريكية والدول العربية والغربية الضغط على نتنياهو، وعملت على ترجمة رؤيتها إلى واقع؟ ماذا لو التزمت هذه الدول، التي توحدت حول رؤية ترامب في شرم الشيخ، وشُكّلت حكومة جديدة وفعالة في غزة، قوامها فلسطينيون تكنوقراطيون، بإشراف دولي؟ ماذا لو نجحت هذه الحكومة في إعادة تأهيل غزة، وتغيير مناهجها التعليمية، ووضعها على مسار نحو مستقبل مختلف؟ والأهم، ماذا لو أصبحت غزة نموذجًا يُحتذى به في الضفة الغربية؟ ماذا لو…؟
لتحقيق ذلك، على إسرائيل أولًا أن تتخلى عن أوهام القوة، وعن فكرة أن السلاح هو الطريق الوحيد لتحقيق النصر والسلام، وأن يقتنع صانع القرار في تل أبيب، أيًا كان انتماؤه أو خلفيته السياسية أو الدينية، بأن المرء يصنع السلام مع “الأعداء” الذين يريدون السلام فقط. لكن يبدو أن نتنياهو وائتلافه يخشون “الأعداء” الذين قد يختارون السلام على أولئك الذين يريدون الحرب. ولهذا السبب، فضّل ودعم لسنوات حكم حماس على حساب حكم السلطة الفلسطينية.
وأخيرًا، فإن الدول التي لا تصنع التاريخ في حينه تجد نفسها تكتب حواشيه. والحواشي، كما نعلم، لا تُمنح العفو.