يشتهر أهالى الصعيد، وخاصة أقصى الجنوب فى أسوان وقنا والأقصر، بعشق فن "الكف" أو فن الارتجال والمساجلات الغنائية التى تبرز المَلَكَة والقُدْرَة اللغوية للفنان على استخراج الكلمات ومفرداتها ومعانيها المختلفة والمتباينة، ليس هذا فحسب بل أيضا الدخول فى منافسة "لغوية" مع أقرانه الفنانين، فى المجلس الواحد، وأيضا المساجلة مع الحضور من "الكفَّافَة" الذين يُبدعون فى اختيار مقاطع أو أبيات شعرية من تأليفهم أو قديمة، لمعرفة قدرة الفنان على مجاراتهم، أو احيانا لتعجيزه، وهنا تظهر الموهبة الفنية التى يجب أن يتحلَّى بها الفنان الذى يتصدَّر لهذا النوع من الفن.
وفن «الكف» هو واحد من أشهر الفنون التراثية الشعبية المرتبطة بمحافظات الصعيد، وله أصول فرعونية قديمة، ويقوم على تقديم أغانٍ وموروثات شعبية مميزة تتخذ من الدف والتصفيق بالكفوف أساساً لها.
وقد اشتهر فى المجال الفنان رشاد عبدالعال- رحمه الله- ابن قرية الرغامة البلد، مركز كوم امبو، أسوان، وهو من مؤسِّسي الفن الشعبي وفن الارتجال، والذي يعرف في باطن الصعيد بفن الكف ولقِّب بـ"ملك الكف" وفنان الصعيد الأول.
شارك الفنان رشاد عبدالعال في حرب اليمن و67 وأُصيب بطلق ناري بعد أسره واعتقاله.
وبعد رحيل «رشاد عبدالعال» الذى سجَّل أكثر من 3000 حفلة غنائية والفيديو قديماً، وصار أشهر رواد ذلك الفن فى الصعيد، جاء نجله «ياسر رشاد عبدالعال» ليستكمل مشوار والده، حيث حظى الفنان الشاب بتواجد لا يقل فى وهجه عن وهج والده الراحل، بل ساعدته وسائل التواصل الاجتماعى فى تحقيق ما لم يحققه والده.
وعن فن الكف يقول الفنان "ياسر رشاد عبدالعال": وصل الينا "فن الكف" من خلال حفظ الأوائل ويجب أن يتوارثه الخلف، ولذلك فحكايتى مع فن الكف بدأت فى سن مبكرة، لأن والدى- رحمة الله عليه- هو واحد من كبار هذا الفن، ولأجل هذا وجدت أن الكف موجودا فى بيتنا ليل نهار، هو شئ أشبه بالكاتب الذى يتربَّى على مكتبته أولادُه، ولقد تربّيت على هذا الإرث العظيم وحفظته من خلال شرائط الكاسيت والحفلات التى كنت أحضرها؛ بدأت أحفظ ما أسمعه من والدى ومن الفنان المرحوم محمد حسن أبو درويش وأقوم بغنائه بين أصحابى من هنا بدأ معى فن الكف.
فن ارتجالى
*ومن أين تستمد تلك الأشعار المميزة التى تغنيها؟
**الأشعار التى أغنيها فى حفلاتى لدى منها حصيلة كبيرة، لكن الكف هو فن ارتجالى من الأساس، ولا يصح أن يكون هناك فنان للكف ولا يعرف كيفية الارتجال، بمعنى أن كل فنان يجب أن يكون حاضر البديهة متوقد الذهن ويملك قاموسا حقيقيا مليئا بالمفردات التى تتشكل فى النهاية إلى أبيات تجعل الجمهور يتقافز معلنا رضاه التام.
تفاعل الجمهور
*لديك طريقة خاصة فى حفلاتك يتفاعل معها الجمهور، ما تعليقك؟
** لابد من التفاعل مع الجمهور لأن الجمهور روح هذا الفن، وبدون حضور جماهيرى لا توجد أية روح يمكن أن تطلقها الأغنية، والجمهور فى الصعيد معروف تماما لى من كثرة الحفلات التى غنيتها، وبالتالى أعرف كيف أوجهه ومتى أخفض صوتى أو أعليه فى «التون» والتنغيمات، كما أننى أقرِّب الميكروفون وأبعده لأمنح للصوت أبعادا أخرى.
*من هم شيوخ فن الكف فى الصعيد؟
**كبار فنانى الكف فى الصعيد، زيدان أبو غالي، عبده مسلوب، مدنى أبو زرار، رشاد عبد العال، محمد حسن أبو درويش، أبو سعود، ربيع البركة.. عليهم رحمة الله جميعا.
ومن الجيل الحالى: يونس برسى، مكى السلواوى، عمار، وكلهم لهم منى كل التقدير والاحترام على ما يبذلونه من جهد للنهوض بفن الكف، فهم كوادر هذا الفن وهم من ساهموا فى التجويد فيه.
*ومن هو أستاذك المباشر فى ذلك الفن؟
**تعلمت على أغانى والدى المرحوم رشاد عبدالعال، لكنى لا أنسى فضل الفنان محمد حسن أبو درويش، وهو صاحب تراث هائل فى الصعيد.
*يلقبونك بـ «ملك الكف» كما كانوا يلقبون والدك من قبل؟
**الشباب فى الصعيد يلقّبوننى بالعديد من الألقاب منها «الامبراطور» و«الفهد الأسمر» و«كروان أسوان» و"الملك»، والحقيقة أنا أتعامل مع هذه الألقاب بنوع من الحياد، أنا ولدت ياسر رشاد وسأكون ياسر رشاد حتى مماتي، يكفينى هذا تماما، ولكنى أعلم كيف ينظر الشباب إلى من يحبونه، يكفينى اسمى فهو بالنسبة لى شرف وأكبر من أى لقب آخر مهما بدت عظمته.
*ما هى طبيعة الحفلات التى تقيمها؟
**معظم الحفلات التى أقوم بإحيائها هى حفلات العُرس فى الزفاف والحنَّة فى أسوان والأقصر وقنا والبحر الأحمر والقاهرة والإسكندرية والجيزة، وبعض حفلات التخرج أو احتفالات زواج جماعى أو مهرجانات الأعياد ومنها عيد أسوان القومى لأن أسوان بلدى وتاج رأسى ولها فضل على لا أنكره أبدا.
*هل الصعيد له أغان خاصة به؟
** الصعيد له أغان خاصة به فعلا وفنون متنوعة منها فن الكف، فن الواو، فن النميم، لكن فى الصعيد يتعامل كل شخص مع الشعراء بصورة فطرية، هم شعراء لكنهم لا يعرفون كيف يتعاملون مع الكلمة وينظمونها ولا يهمهم أن يقال عنهم شعراء من الأساس، ولكنهم فى حياتهم يتعاملون بالشعر، وكانوا قديما يرسلون إلى بعضهم خطابات بشعر الزجل والواو والنميم وغيرها.
*لكنك لا تستطيع الغناء بغير اللهجة الصعيدية، أليس كذلك؟
** بالعكس، أستطيع الغناء بكل اللهجات، لكن فن الكف هو فن البيئة الأسوانية، والمستوحَى من طينها ونخيلها وجبالها، ولذلك فالمفردات لابد أن تكون باللهجة الصعيدى ومعلومة لأصحابها، لأن اللهجة مختلفة من مكان لمكان، وذلك لكى يفهم المتلقى ما أقول ويتجاوب معه بشكل كامل.
*خارج الغناء ما هى هوايتك؟ حدثنا عن حياتك؟
** الحمد لله خارج الغناء عندى مشروع صغير فى طور التنفيذ وربنا يتمّه على خير لتأمين مستقبل أولادي، لكن بعيداً عن الحفلات أكون مع عائلتى أغلب الوقت ولا أخرج من البيت بغير ضرورة.
*هل تقتصر الحفلات التى تقيمها لفن الكف على الرجال فقط؟ ولماذا؟
** نحن نراعى كوننا فى مجتمع صعيدى له تقاليده وعاداته التى لا يمكن الاستغناء عنها مهما بلغ التطور والمستحدثات التكنولوجية التى غمرت حياتنا، وهذا المجتمع يحظر تماما تواجد الرجال والنساء فى مكان واحد، لا يصح هذا أبدا، لكن النساء لهن سرادق خاص يتابعن منه ما يجري، ولا يقترب منهن أحد من الرجال.
*هل يعانى فن الكف من الإهمال من وجهة نظرك؟
** التاريخ الشفهى للأغانى أو فن الكف خاصة، وهو فن قديم منذ بدايات القرن الماضي، كان يعتمد على الدُّف فقط، لكن مع التطور أصبح هناك العود والطبلة والدُّف، ووصل إلينا هذا الفن من خلال حفظ الأوائل له وانتقاله من لسان إلى لسان، وهو يحكى عن جزء أصيل من هذا البلد، ويجب علينا أن نحافظ عليه وأن نورِّثه للخلف كما ورثناه من السلف.
اترك تعليق