بشعرٍ أحمر مُجعد وبشرةٍ فاتحة وعيون خضراء، سحرت البريطانية غيرترود بيل السياسيين البريطانيين، والشيوخ العرب على حدٍ سواء – نظرًا لأنّ جميع العصور لها أيقوناتها – اُعتبرت أقوى امرأة في الامبراطورية البريطانية، في أوائل القرن العشرين، صادقت لورنس العرب، وكانت عالمة آثار تتحدث العربية بطلاقة، وضابط استخبارات بريطاني رفيع المستوى كان لها دور رئيس في إنشاء دولة العراق الحديثة.
إنها غيرترود بيل أول امرأة تحصل على شهادة في التاريخ من جامعة أكسفورد الإنجليزية نهاية القرن التاسع عشر (1889) وهي في الواحد والعشرين ربيعا، بعدها بثلاث سنوات قررت الترحال وممارسة بعض الأنشطة غير الاعتيادية فقد تسلقت الجبال في سويسرا وهناك قمة جبل في مقاطعة بيرن تحمل اسمها – وفي عام 1892م، كان لها موعدًا مع التاريخ الذي كتبت اسمها على صفحاته بحروفٍ من ذهب، عندما سافرت إلى فارس – إيران حاليًا – فاكتشفت بيل عشقها للشرق، وقررت دراسة اللغة العربية (تحدثت ثماني لغات) في القدس، وبعد أنْ حققت تقدمًا جيدًا فيها، قررت استكشاف الصحراء بمفردها (دون تُرجمان)، واصطحبت معها طاهيا وخادمة، والعديد من الخيول والجِمال، والخيام، وحوض استحمام قابل للطي، وبالتأكيد لم تنس ملابسها – التي كانت على أحدث صيحات الأزياء البريطانية آنذاك.
استطاعت أثناء ترحالها في الصحراء – خاصةً الصحراء السورية – إقامة علاقات جيدة مع بعض الشيوخ العرب، لكنها سُرعان ما عادت إلى إنجلترا؛ لدراسة علم الآثار، لتعود بعدها إلى الشرق الأوسط وتقوم باكتشافات أثرية مهمة – تحديدًا في العراق – ولم تكتف بذلك بل عادت كشخصية سياسية مهمة في بلادها وبلاد العرب.
ففي أثناء الحرب العالمية الأولى بعث ونستون تشرشل لها برقية عام 1915م، مفادها: " الامبراطورية البريطانية بحاجة لكِ، إنها الحرب العالمية الأولى"، فأصبحت بيل مصدرًا حيويًا للمعلومات للبريطانيين؛ فقد وضعت خرائط للرمال غير المُخططة، مُشيرة إلى مواقع آبار المياه، كما كان لها نظرة بعيدة المدى فيمن يصلح صديقًا لبريطانيا، أو خصمًا لها؛ لذا تم تعيينها عام 1917م سكرتيرة للشئون الشرقية، كما أصبحت أول ضابط مخابرات في الجيش البريطاني من النساء، وحملت رُتبة رائد (الرائد مس بيل)، ومن قبل ذلك عملت كوكيل استخباراتي لبريطانيا في مكتبها العربي بالقاهرة، إلا أنها سرعان ما استقرت في البصرة عام 1916م؛ لتبدأ مهمتها السياسية الجديدة.
تمتعت بيل بثقة كبيرة بالنفس، كانت تهتم بأدق التفاصيل، وتنظر للأمور بعين ثاقبة، هابها الجميع، حظيت بثقة شيوخ القبائل العربية بشكلٍ غير محدود، أُعجب بها الساسة في بريطانيا لدرجة وصفها "بأنها امرأة ذكية لها عقل رجل".
وعلى الفور بدأت بالعمل عند وصولها للعراق، فقامت برسم الخرائط التي ستدل الجيش الزاحف على بغداد، وتضع ملفات شخصية للقبائل البدوية وتحاول الإيقاع بينهم وبين زعمائهم من أجل إقناعهم بالتحالف مع إنجلترا.
وعلى الرُغم من أنّ الدسائس قد حيكت ضدها لإبعادها عن منصبها، وتحديد حركتها، إلا أنها قد عاشت حياتها بطريقة طبيعية جدًا في العراق، فقد كانت تحب ركوب الخيل، والنزهات تحت أشجار النخيل، خاصةً في مزارع الفواكه والخضراوات الخاصة بالحاج ناجي الذي كان أحد شيوخ القبائل العربية المُقربين منها.
في عام 1920م، قررت سلطة الانتداب البريطاني نقل العراق إلى الحكم الذاتي؛ وفي أوائل العام التالي (1921م) في مارس قام ونستون تشرشل – الذي كان وزيرًا للمستعمرات – بعقد مؤتمر في القاهرة لتحديد مستقبل العراق، وقتها دعا تشرشل خبرائه في الشرق الأوسط وكانوا 40 خبيرًا – 39 رجل وامرأة واحدة هي غيرترود بيل – .
اقترحت وقتها في هذا المؤتمر أخذ ثلاث ولايات عثمانية (البصرة، والموصل وبغداد)، لتأسيس دولة العراق الحديثة، واختارت أول حاكم لها (الملك فيصل الأول ملك الحجاز) الذي كان بعمر السادسة والثلاثين، وكان صديقًا لها كما عملت هي مستشارًا له للشأن السياسي، واستطاعت إقناع العراقيين أنفسهم باختيارها، حيث حدث أنْ جرى استفتاءًا على انتخاب حاكم جديد، وحظي الملك فيصل بـ 96% من الأصوات.
من المؤكد أن بيل كانت شغوفة بالعراق، فقد كانت لديها خطط عظيمة لـ "الدولة النموذجية" كما أسمتها، وبرغم اختيارها للرجل الأكثر قدرة على الحفاظ على تماسك البلاد الهش بين الشيعة والسنة والأكراد والمسيحيين واليهود، إلا أنّ العراق الحديث قد واجه العديد من المشاكل بصرف النظر عن النفوذ البريطاني القوي، فلم يكن هناك شيء لفظ "الشعب العراقي"، ولكن كان هناك مزيج من القبائل والمجموعات الدينية والعرقية التي كان لها جميعاً قادة؛ لذا لم تُدرك بيل أنها بقرارتها تلك قد زرعت بذور الصراعات الدموية هناك.
لكن بعد ذلك بدأ نفوذها يتقلص، لم يعد في حاجة إليها. وأخيرًا انتهى زمانها، انعزلت بيل، أصبحت كئيبة، كان استئناف عملها كعالمة آثار بديلا عن السلطة التي ظلت تمتلكها لسنوات، وفي مساء الحادي عشر من يوليو عام 1926م، طلبت بيل من الخادمة أن توقظها الساعة السادسة في صباح اليوم التالي، ذهبت بيل إلى الفراش ولم تستيقظ أبدًا.
على المنضدة جانب السرير كان هناك زجاجة صغيرة لحبوب النوم، لقد تناولت منها جرعة إضافية، هل كان ذلك عمدا؟! هذا لم يتم توضيحه إطلاقاً، قبل يومين من عيد ميلادها الـ الثامن والخمسين نامت إلى الأبد، وهي ترقد إلى يومنا هذا حيث كانت تتمنى في الأرض العراقية، في البلاد التي خططت لها مشاريع كبيرة وكانت سببًا مُباشرًا في إقامة دولتها الحديثة
اترك تعليق