هيرمس
    مصر
  • 29℃ القاهرة, مصر

رئيس مجلس الإدارة

طارق لطفى

رئيس التحرير

أحمد سليمان

الأزهر المجدد وليالي الزقازيق
تناولنا في المقالين السابقين أثر الطبيعة والبيئة الريفية في شعر وحياة هاشم الرفاعي وكيف انطبع وجدان الشاعر فيه على حب الجمال والطبيعة والتماهي معهما فكانت كلماته تعبيراً صادقاً عن نبض الأرض وجمال الطبيعية وسحر الحياة

تناولنا في المقالين السابقين أثر الطبيعة والبيئة الريفية في شعر وحياة هاشم الرفاعي وكيف انطبع وجدان الشاعر فيه على حب الجمال والطبيعة والتماهي معهما فكانت كلماته تعبيراً صادقاً عن نبض الأرض وجمال الطبيعية وسحر الحياة التي تفاعل معها وتفاعلت معه لغةً وإحساسا وأصالةً بكل ما تعنيه هذه الكلمات من نبضات إنسانية جامعة .

كما حفلت فترة وجوده بالمعهد الثانوي الأزهري بالزقازيق بالكثير من المواقف الجادة منها والمازحة أحياناً أخرى فتفاعل وجدان الشاعر مع النقلة الجديدة من الريف إلى المدينة باحثاً في معهدها وشوارعها عن الشاعر وكيان الشاعر ورؤية الشاعر وتطلعاته وأمله وغاياته فكانت قصائده خلال هذه الفترة سجلاً حافلاً بالتاريخ للأحداث التي مرت بها مصر عامة ومجتمعه الجديد في معهد الزقازيق خاصة ، لم يترك هاشم الرفاعي مناسبة إلا غرد فيها بشعره فتناقل عنه في كل مكان سفيراً يعلن عن ميلاد شاعر كبير .
ولقد أدى ذلك إلى فصل هاشم الرفاعي من معهده كما أوضحنا سلفاً في السياق الفائت إلا أنه لم تغب عن عينه تطلعاته وآماله وطموحاته فلقد ظلت المطالب الأزهرية ثابتة في وجدانه مردداً بها في كل وقت لاسيما وانه كان على قناعة تامة بدور المعهد في إرساء دعائم الفكر والعلم بين أجيال المستقبل وعلى مدى تعاقب الأزمان ، كان الشاعر يرى أن أحلامه لا تراوح مكانها وقد دفنت مطالبه في مقابر السنوات وغطى عليها شبح النسيان لهذا توجه هاشم الرفاعي إلى أولياء الأمور داعياً إياهم إلى العمل الدائب على تحقيق هذه المطالب لأنها مطالب أجيال تحرص على بناء الوطن فإذا قُبرت ضاعت وغطاها شبح النسيان .فقال :
عام تولى في الكلام وعامُ
فعلى المطالب رحمة وسلامُ
يا أولياءَ أمورنا رفقاً بنا
فلقد أمضت نفسنا الآلامُ
هذي المماطلة التي يبدونها
لا الحقُ يرضاها والا الإسلامُ
الدينُ دينُ الله نحنُ جنوده
فلنا عليكم رحمةٌ وذمامُ
يا للشقاءِ ويا هوانَ النفس إن
جابَ الظلامُ وضاعتِ الأحلام

لم يألو هاشم الرفاعي وسعاً في كل مناسبة لينادي بمطالبه تجاه الأزهر الذي يراه مجداً تليداً تسمو به صفحات التاريخ على مرِّ الأعوام يراه الأزهر النابض بالنهضة الكبرى التي أضأت معالم الشرق فالأزهر كما يراه هاشم الرفاعي سما وفاض وأغدق على الأكوان منذ مئات السنوات وهو ينشر هديه مرفوعة منائره .
يقول هاشم :
هو السؤدد الماضي تدقُ بشائره
وتغمرنا أمجادهُ ومفاخرهْ
ذكرتُ به التاريخَ يزخرُ نهضةً
أضاءت لها في الشرقِ غراً منابرهْ
غداةَ سما بالدين في مصرَ صرحه
تفيضُ على الأكوان علماً زواخرهْ
ألا باركَ الرحمنُ خالدَ ركنه
فقد عاش ذخراً لا تعدُ مآثرهْ
تقضت عليه الألف ينشرُ هديه
مآذنه مرفوعة ومنائرهْ
فإن تكن الأهرام آثار ذاهبٍ
فهذا الذي لا يرهبُ الدهرُ عامره
إن هاشم الرافعي يؤكد في هذه القصيدة على دور الأزهر ومكانته عبر الزمن ويؤكد على دوره الوطني في مكافحة الاحتلال عندما لبى نداء الجهاد في ثورة 1919م والتي استنكر فيها المعتمد البريطاني موقف الوفد المصري بقيادة سعد زغلول ورفاقه فقرر نفيهم في التاسع من مارس 1919م ومن هنا اندلعت الروح الوطنية التي تربط جميع أبناء المجتمع المصري برباط الإيمان والتآخي الذي يفدي فيه كل مواطن أخاه .
ومن ثم كان دور الأزهر المشرف الذي أرق الاحتلال حينما أشعلها حرباً ضروساً يذوق لظاها المحتلون فقال هاشم :
صحائف مجد ما رأى النيلُ مثلها
ولا عهدتها في الزمانِ غوابرهْ
بفيض الهدى والعلم والخير والمنى
تدفقَ ماضيه وأشرقَ حاضره
وأصبح للإسلام في الأرضِ قبلة
على بابه لايرفعُ الهامُ زائره
فمعقل إرشاد ومنبع حكمة
وبحر علوم ليس يدرك آخره
ويمضي هاشم الرفاعي مخلداً أمجاد الأزهر والدور الذي قام به من اجل بناء مصر والدفاع عنها ضد كل محتل وآثم فيقول:
هل الثورة الأولى سوى صنع كفه
له من قوة الإيمان فيها ذخائره
أما أرقَّ المحتلَ كيلاً خطيبهٌ
وأفزع الاستعمار في مصر ثائرهْ
وأشعلها حرباً عواناً طحونةً
يذوق لظاها جيشه وعساكره
ويضيف هاشم الرفاعي من خلال قصيدته الأدوار الكبرى التي قام بها الأزهر فيقول:
وكان شجا في حلق كل مضلل
إلى أن نأى عن ساحة الدين تاجره
سل النيل يوم البأس من كان حصنه
يلوذ به في خطبه فيؤازره
ومن أعملت يومَ الجهاد سيوفه
ومن هتفت عند الفداء حناجره
ومن كان ان نام الولاة عن القذي
تدق نواقيس الكفاحِ مشاعرهْ
ومن كان عوناً للرئيس وصحبه
يؤيده في زحفه ويظاهرهْ
سيخبرك النيلُ اليقين فتنثني
فخوراً بصرح لا تفل بواترهْ
وتعلم أن المجد نلناه يافعاً
وكهلا فمنا أهله وعشائرهْ
وبات على هدي الشريعة حارساً
فما هو إلا قائمُ الليلِ ساهرهْ
أذاك جمود منه أم ذاك واجبُ
إذا هو أداه استراحت ضمائرهْ
وليس قديماً ما تجدد نفعه
وليس جديداً ماتغر مظاهرهْ
ويسطعُ ضوء الشمس وهي قديمة
فهل كان ضوء الكهرباء يناظره
سكتنا فقالوا العي والعجز داؤهم
واكبر ما يضني من القولِ فاجرهْ
حذار من الليث الكريم فإنه
ليوشك أن ينأى عن الحلم صابره
أرى غمزاتٍ القول لم يقصدوا به
سوى هدمه والزور لم يخف سافرهْ
وما علم الجهال ان زواله
سيترك جرحاً لا يطيبُ غائرهْ
بباطن هذا الأمر للدين طعنة
وإن كان لم يحمل سوى الخير ظاهرهْ
هو الحصن للإسلام يخشاه خصمه
إذا ما هوى يوماً فمن ذا يحاذره
وليس يماري في عظيم جهاده
مدى الدهر إلا جاحد العقل كافره
ومهما أعدت حوله من مزالقٍ
ستعبرها راياته وشعائره
وإن ترمه بالضر يوماً يدٌ امرئ
فذلك بيتُ الله والله قادرهْ
ظل هاشم الرفاعي طوال سنوات حياته القصار مدافعا عن الأزهر ودوره وما قام به من اجل تحقيق استقرار مصر واستقلالها فما أشبه الليلة بالبارحة وكأننا نراه اليوم مدافعاً عن الأزهر والتشكيك في دوره الوطني من اجل مصر ومساندته للشعب المصري في كل ثوراته ضد كل من يحاول النيل من مصر وشعبها ووحدتها وكيانها وإذا كانت هناك بعض الأصوات الغريبة التي غردت خارج السرب وضد مصلحة مصر وشعبها وعقيدتها فإن بالأزهر رجالا قادرون على تأكيد المنهج الإسلامي الصحيح وتبسيطه للعوام بما يتواءم مع متغيرات الحياة وتوابعها ألمعاصره مع التمسك بثوابت الدين الإسلامي الحنيف .
ظلت ليالي الزقازيق محفورة في وجدان هاشم الرفاعي لاسيما وانه قضى فيها حوالي سبع سنوات ما بين عامي 1947وحتى 1956م هذه السنوات اختلطت تقريبا بثلثي عمره في الحياة التي عاشها فكان أثرها كبيرا عليه وعلى انطلاقته الشعرية وكان حريصا على ان يخلد مسيرته في قصائده حتى تتعرف عليها الأجيال القادمة وكأنه رحمة الله الله عليه كان يقول هذه مسيرة حياتي وحقيقيتي وأيامي التي عشتها في الحياة بجلوها ومرها .
جاء هاشم الرفاعي إلى الزقازيق باحثا عن العلم في تلك المدينة التي شاهدها لأول مرة في حياته بعد أن غادر قريته ومرابعها الغناء فجال ببصره في كل الأنحاء فقال :
ربوع قد صحبت بها الشبابا
وعشت بواكر العمر اغترابا
وردتُ حيض معهدها صبياً
يدقُ بكفهِ للنورِ بابا
به نزلوا المدينة ذات يوم
فأبصر في شوارعها العجابا
تنازعت المشاهد مقلتيه
فقلب طرفه فيها اقتضابا
وعادوا بعدما تركوه يبكي
حزينا لا يود لهم إيابا
ظل الشاعر الصغير على هذه الحالة من الوجد يغالبه الحنين الى قريته ، متذكراً رفاق دربه الذين نأي عنهم للبحث عن العلم في رحلة حياته القصيرة ، لكنه ما يلبث أن تعود على حياته الجديدة فتفاعل معها فكانت مدينة الزقازيق هي عشقه الأول والأخاذ مع شقيقه الأكبر الشيخ مصطفى الرفاعي ( رحمة الله عليه) والذي كان يعد اول طالب أزهري يرد حياض العلم بالمنطقة .
عاش هاشم الرفاعي مع شقيقه الأكبر عاشقاً للعلم والقراءة والاطلاع على ما تضمنه ادبنا العربي من تراث فلم يعرف الشاعر الصغير خلال تلك الفترة إلا الكتب والحرص على التزود من منابعها فكان يقول :
وظل هناك يغلبه حنين
وشوق يؤلم القلب انتيابا
فما شغلته أضواء الليالي
بها عن قرية خصبت جنابا
بعيدا عن ديار الأهل ناء
يذوب ليوم عودته ارتقابا
يؤرق جفنه ذكرى لدات
إليهم شاء في البعد الذهابا
إلى ان صار يعشقها فتيا
ولذ له المقام بها وطابا
رعاها الله أياما قضاها
بصحبة رائد يهدي الصوابا
وان العيش يحلو في رفاق
إذا خافوا لراعيهم حسابا
فلا يخشاه في شيء بريء
ولا يألوا أخا ذنب عقابا
فتلك عهود غرس قد تقضت
وما عرفوا بها إلا الكتابا
ويعود شاعرنا في قصيدة في ليالي الزقازيق متذكرا تلك الأمسيات الجميلة التي يتجمع فيها الأصحاب يتبادلون الطرف والملح التي مرت بهم ولم تخلو من دعابة أو مرح فنراه يقول:
ومجلس فتية جمعوا بليل فدار
حديثهمُ شهداً مذابا
دعابة مازح وضجيج لاه
وصوت مهرج يشدو غرابا
وكم كانت أحاديث الأماني
تلذ لهم على ظمأ شرابا
وكم أمل جميل أملوه
فما وجدوا المنى إلا سرابا
وما فتئ الزمان يدور حتى
أعاد بشاشة الوجه اكتئابا
تفرق شملهم بعد اجتماع
وعامر انسهم أضحى خرابا

ثم ينقلنا الشاعر بأسلوب جذاب وشاعرية دفاقة الى ساعات الأصيل على بحر مويس بالزقازيق برفقة أصحابه وهم يرقبون الزوارق وهي تشق عباب الماء والنسيم يتهادى على الشاطئ فيوقظ الأحاسيس الوسنى بينما الحسناوات يتهادين على الشاطئ وقد بعثرت النسائم شعورهن وأرهقت أثوابهن اجتذابا فيرسم هاشم هذه اللوحة التي لا تخلو من طرافة فيقول :

وساعاتُ الأصيلِ على مويس
وقد جمعً الأحبة والصحابا
يدغدغُ صفحةً للماءِ فيه
جناحا زورقٍ شقَ العبابا
ويختالٌ النسيمُ بشاطئيه
ندياً ينعشُ النفسَ انسيابا
إذا ما أقبلت تمشي كعاب
يداعبٌ فوقَ ضفتهِ الكعابا
فطوراً قد أثارا الشعر لثماً
وطورا أرهقَ الثوبَ اجتذابا

ثم يأخذنا الشاعر إلى أيام الامتحانات العصيبة والتي كانت تصادف القيظ وحرارته الحارقة فيعدها من أيام الجحيم التي إن حالفهم فيها التوفيق والنجاح فتلك جملة الأماني فيقول هاشم :
ورب لظى لأيام امتحان
لبسنا للشقاء بها ثيابا
تريكَ جلودنا والصيف وار
يكاد الحرث ينضجها التهابا
تمر بنا الليالي حاملات
لهول إن رآه الطفلُ شابا
ولا تنس لنا في اللهو قسطا
وغل نضالنا يدمي الرقابا

فكنت أصوغه شعراً ضحوكاً
نبدد بالعناءِ به ضبابا
عهود من جحيم غير إنا
نذوق إذا قطعناها الرضابا
وبعد السير في بيد الليالي
أشق السهل منها والهضابا

وهاهو هاشم الرفاعي يودع ليالي الزقازيق بهمسات مؤثرة في النفس تبوح بها شجونه ونجواه وهو يودع تلك المدينة العامرة وأيامها الجميلة فيقول :
وقفت مودعا طيب المغاني
ودارا تنبتُ العلم اللبابا
سأذكر ما حييتُ بها هناءً
واطرحُ المتاعبَ والصعابا
فسقيا للعهود البيض مرت
علينا رغم ما نلقي عذابا .

كانت هذه المرحلة من أهم مراحل التي مر بها الشاعر الكبير هاشم الرفاعي فصقلت وجدانه الذي تفتح على عالم جديد في المدينة التي أحبها وتعلم في معهدها الأزهري فانطلق بوجدان الشاعر باحثا عن الكلمة الجميلة والإحساس المتميز والروح الشاعرية التي لم نجدها في أي من أترابه ورفاق دربه موضوع حديثنا في اللقاء القادم بإذن الله تعالى





تابع بوابة الجمهورية اون لاين علي

تابع بوابة الجمهورية اون لاين علي جوجل نيوز جوجل نيوز

يمكنك مشاركة الخبر علي صفحات التواصل

اترك تعليق