هيرمس
    مصر
  • 29℃ القاهرة, مصر

رئيس مجلس الإدارة

طارق لطفى

رئيس التحرير

أحمد سليمان

"بيت الرمل" رواية الكاتب الكبير محمد جبريل (الجزء الثامن)
الروائي الكبير محمد جبريل
الروائي الكبير محمد جبريل

ملخص مانشر

حذر القائمقام وصفي من يحاولون تخطّي حدودهم أنهم سيعاقبون بما لا قبل لهم على احتماله. توزع الضباط والصولات والعساكر والمخبرون، يقتادون الفتوات وصبيانهم من البيوت والحارات والساحات الخالية والخرائب إلى العربات المغلقة، امتدت الحملات إلى المطاعم والمقاهي والكازينوهات في امتداد الكورنيش، والمحل الوحيد لبيع الأسلحة في ميدان محطة الإسكندرية.



أغلقت القهوة أبوابها اتقاء برودة الجو فى الخارج، أصوات هطول المطر على الطريق تترامى عبر النوافذ الزجاجية المغلقة، أنفاس الرواد الجالسين لصق النوافذ تصنع ضباباً كالندى، يخفى رؤية الطريق. 
عرف أن الإسكندرية تشهد نوة- لا يتذكر اسمها- من الرياح الشديدة، وهطول الأمطار، والبرودة التى تخللت جسده.
ما كاد عبد الرحيم السبعاوي يرى المعلم الداكر حتى أخلى له الكرسي الذي يجلس عليه. الكرسي يحمل اسم الداكر. إذا خلا منه، فإنه يظل كذلك.
لصق جدار القهوة مصطبة حجرية، فرشت بحصير. توسط الشاعر – واقفًا – أفراد فرقته الجالسين في نصف دائرة. خمسة أو ستة يعزفون على الكمان والربابة والناي والرق. يتغنى بقصائد الصوفية في الغزل والحب والهيام والعشق والخمر والسكر. يروي سير عنترة والهلالي والزناتي وسيف بن ذي يزن والظاهر بيبرس. يبدّل في حكايات الراوي، يضيف إليها، ويحذف منها. ربما طوع المعنى بما يريد إفهامه، وربما اخترع حكايات جديدة.
قاطع الشاعر ذات ليلة:
- بيبرس خان قائده، لكنك جعلت منه بطلًا.
قال الشاعر:
- هذا ما تحكيه سيرة الظاهر.
- ولو. خذ بحق قطز!
تفحص المكان، وهو يسحب كرسيًا، ويجلس عليه. 
- المطر لم يتوقف طيلة النهار، لماذا لا تدلق السماء ما عندها دفعة واحدة؟
كان المطر قد هدأ، ثم توقف، وإن تغطت الشوارع بالطين الزلق، وتكوينات الماء المتباعدة على أسفلت الطريق، والقطرات الملتمعة على أوراق الشجر.
يميل للسير تحت المطر، ينظر إلى المرئيات من خلال ستارة المياه.
الشمس غائبة، الجو بارد، السماء ملبدة بغيوم مثقلة بالمطر، الريح تطوح سعف النخيل، التقاء تيارات الهواء البارد يصنع بأوراق الشجر الجافة والأوراق سلسلة من الدوامات الترابية، أمواج البحر تعلو، ترتطم بسور الكورنيش، تعلو، تغمر الطريق إلى الناحية المقابلة. 
ألف البرق والرعد وهطول الأمطار. يتوقع فى اللحظة التالية لومضة الضوء، تعالى قرقعة الرعد، يبدأ المطر رذاذًا، ثم يهطل غزيرًا، يصنع انهمار المطر ما يشبه الستارة بين السماء وأرض الطريق، تصطدم حباته بالأسفلت في رنين. تجري المياه على الأسفلت إلى ضفتى الطريق يتابع اندلاق مياه المطر في البالوعات، أسفل الأرصفة.
في أوقات الصفو يحلو له السير تحت المطر، يخلي يديه، لا يحمل ما يتقي به البلل، تغمره نشوة، ربما دندن بما يستعيده من أغنيات.
قال لمجرد أن يبدي ملاحظة، يجاوز حصارًا يخنقه:
- ليل الشتاء يتقدم بسرعة، الظلمة تقتطع مساحات النهار.
قال فتحي الويشي فتوة اللبان، وهو يفرك يديه اجتلابًا للدفء:
- مشكلة نهار الشتاء أن شمسه تشرق لتجري نحو الغروب.
ثم وهو يتأمل سحابات البخار المتصاعدة من فمه:
- ما يكاد المرء يصحو حتى يتهيأ للنوم. 
قال الداكر في نبرة تهوين: 
- جو الإسكندرية ربعه الشتاء وثلاثة أرباعه الصيف.
لم تكن عيناه تتوقفان عن الحركة. تحرثان المرئيات من حوله. في باله يوم شارع السيالة. يظل - طيلة جلساته على القهوة – منتبهًا لما يدور حوله، عيناه دائمتا التلفت، لا تستقرانً، في توقع للمطاردة، تلح الأفكار السوداء على ذهنه، يواجه ما يصعب توقعه، أو تفسيره. يشعر - في تلفته - بالخطر، لا يتجه شعوره إلى فعل محدد، تختلط التصورات، وتتشابك، الشوم والسيوف والجنازير والخناجر والمطاوي. كتب له الشيخ عصام نويشي رقية على حبة أرز، يبتلعها إن أحس الخطر، فيسترد نفسه. 
وضع الجرسون سطيحة كوب الشاي على الطاولة الصغيرة، أمره - بإيماءة - أن يتذوقه قبله.
فى داخله صخب جيشان موار. يؤلمه تجدد الشعور بأنه أهين. تتوالى اللحظات محملة بالتهديد، لا يقتصر على معنى محدد، وإنما يشمل ما لم يخطر بباله. اختلطت مشاعره، وإن جمدت قدرته على الحركة، على الفعل، رغم شعوره أن أوقاتًا قاسية على وشك المجيء.
لا يذكر – لكثرة من عاركهم – عدد الذين نقلتهم ضربات شومته إلى المستشفى، أو إلى القبر. يجد في العنف حلًا لكل شيء. لا يترك لعدوه فرصة في التفكير. يبادره قبل أن يعد نفسه لفعل مشابه. 
جعل له عيونًا، تراقب فتوات الأحياء ومساعديهم. ينقلون ما يرونه. يسجلون الملاحظات عن ناس الحي، يعيدون كل ما شهدوه وسمعوه بما يثير الشبهة، لا يتركون واقعة مهما بدت تافهة. لا يفلتون لقاء ولا تصرفًا ولا عبارة، يدققون في الكلمات التي سمعوها، يقلبونها، يتبينون المعاني الظاهرة، والمخفية. دنياهم السؤال والتقصي والمراقبة والمتابعة. يلتقطون الحركة والهمسة والنأمة والإشارة والإيماءة الصغيرة. يتشككون حتى في الشخص الذي تعلو وجهه ابتسامة، هي قناع يخفي نفسًا تضمر الشر.
قال له الشيخ زين عبد الحي: 
– أشكر الله.. فما كان لأحد أن يفعل أفعالك وينجو بحياته.
لوح بيده لماسح أحذية يضرب على صندوقه الخشبى. رمقه - في اقترابه - بنظرة متفحصة، داخله توجس، طوى ساقيه تحت الكرسي، وأشار له بالابتعاد. يتملكه التيقن من أن كل ما حوله يشغي بالأعين الراصدة.
فطن لما يحيط به من المكائد والمؤامرات والتدبيرات. وحوش الغابة تترصده، تطارده. صحا يتحسس جسده، مردة حملوه، ألقوا به من أعلى جبل. خامره التوقع أن بركانًا سيثور، ويقذف حممه. يخترق – بإحساس المطاردة – الشوارع المتفرعة من الشارع الرئيس، والحارات المتقاطعة، والضيقة، والخالية من الإنارة.
طلب حياته لم يعد يقتصر على فتوات الأحياء. يشاركهم مأمور القسم النية، والسعي إلى الفعل. شعر أنه جزيرة في بحر تعاديه مخلوقاته. امتنع عليه النوم، وزادت مخاوفه. يسير متلفتًا كأن أحدًا يلاحقه، ينعي هم عين متابعة، أو أذن أرهفت سمعها، أو مترصد في ظلمة الطريق. يعيش التوقع في أن البوليس سيلقاه في أحد الأمكنة التي يتردد عليها، يد تحط على كتفه، يرافقها القول: تعال معي!، اقتحام قهوة، وشاية، تلبسّه الشعور بأنه سيموت في وقت قريب. المطاردات متلاحقة، قاسية. هو دائمًا في حالات عراك. نصب مساعدوه الفخاخ لمساعدي فتوات الأحياء، فوقعوا فيها. اتخذ أصحاب الدكاكين والقهاوي جباة لما يطلبه من إتاوات وهدايا، لقاء حمايتهم من أخطار يجد أنها تهددهم. 
يبتدر صاحب الدكان بالقول: 
- أنت في حاجة إلى من يحميك. 
ويشير إلى نفسه: 
- هذا عملي.
نعى همه شيوخ الحلقة والتجار وأصحاب الدكاكين والخائفين من غضبه. حتى المرشدين في أقسام البوليس كتموا مشاهداتهم تصرفات صبيانه، وما يستحق التبليغ. زرع الخوف في النفوس، فالناس يحرصون على تباعد المسافة بينهم وبين مناوئيه من الفتوات وصبيانهم. 
أحكم السيطرة على مساعديه، لا يقدمون على ما لم يأمرهم بفعله، ولا يذيعون ما يعتبره من الأسرار. يتدخل في اللحظة التي يتجاوزون فيها ما وضعه من حدود. حظر الاختلاط بمساعدي الفتوات الآخرين. عدا صلاة الجمعة في أبو العباس، فهم يبتعدون عن مجالسهم. إذا التقت الأعين في الطريق، فإنه يكتفي بالسلام العابر، إيماءة تحية، هزة رأس، رفع راحة اليد، تمتمة لا تقول شيئًا. ثم – تأكيدًا لسطوته - حظر دخول بحري على فتوات الأحياء الأخرى ومساعديهم. خلا بحري لصبيانه، توزعوا في ميادينه وشوارعه، لا ينعون هم القوى المناوئة. يخضعون لأوامره، لا يتصرفون بغير ما يريده. يثيره أن يفعل المساعد ما يخالف إرادته. لايتيح له الداكر - بتحريك كوعيه في وجهه - فرصة الوقوف إلى جانبه. ينقضي العمر دون الأخذ والرد، ومناقشة ما ينبغي فعله.
لما طالت سهرته في قهوة حداية المنعزلة عن الدنيا، رفض أن يتقدمه عبد الرحيم السبعاوي بفانوس في يده. خشي أن يمسي تحت الضوء هدفًا لمن يترصدونه. يتستر بالظلمة.
محطة الرمل هي المنطقة التي يعرفها جيدًا. يشعر بالخطر في بقية أحياء الإسكندرية. تجنب السير في الأماكن المزدحمة حتى لا يواجه عينًا تعرفه. يفتقد الداكر الذي كان: يخترق الشوارع بإحساس الغربة عما حوله، لا أحد يعرفه، من حقه أن يسرع فى خطواته، أو يبطئ. يتأمل ما يراه، يجلس على الرصيف، يكلم نفسه، يغنى، يصفّر، يشرد عن الدنيا. يبتعد عن المقاهي عالية الإضاءة، من يسهل على العين رؤية ملامح روادها، يلوذ بالمقاهي الشاحبة الضوء، ما يشبه الغرز المخفية. 
واجه مساعدوه اعتداءات لم تخطر له ببال. ضرب بالشوم والخناجر، وقبضات الأيدى والركلات. تملكه شعور بأن الدنيا تخاصمه، تضمر له، وتفاجئه بما لم يتصور حدوثه. لابد أن يحدث شيء ما، بيده، أو بواسطة آخرين، يصبح بعده الحال على غير ما هو عليه. 
عند ميله إلى شارع صفية زغلول لاحظ أن هناك مساعدًا لحنفي قابيل، يعرف سحنته، يراقبه من أمام التريانون. فكر في أن يأخذه إلى جانب، يوضح له المأزق الذي صنعه الإلحاح على مراقبته. ما تفعله يضايقني، يغضبني، إذا أردت أن تحصل على ثمن الفعل فأنا أغنيك عن بيع نفسك. 
قال بنبرة هامسة:
- أكتب ما يطلبه حنفي قابيل، قل إن كل شيء على ما يرام.
- وإن لم يصدقني؟
- هو لن يصدقك في كل الأحوال!
عرف أن أتباع حنفي قابيل يخافونه على أنفسهم، ويكرهونه فى نفوسهم، كان سريع الانتقام من أية بادرة شك، أو سوء نية. فى داخل نفسه ما لا يبوح به لأحد. عربدت المخاوف في رأسه. يخشى المجهول، يحرص أن يتعامل مع من يطمئن إليهم. لاحظ في نفسه امتناع النوم عليه إن زاد قلقه. عينه على الباب، إذا حاصره الخطر فإنه يقفز منه إلى الطريق. يتفادى السير في الميدان والشوارع الجانبية، حتى لا تلمحه عين راصدة. ربما أخذته قدماه، والمطاردة، إلى آخر لسان السلسلة، يخلو إلى نفسه، وإلى أسراب النورس المحلقة في المينا الشرقية، وارتطام الأمواج في الصخور، وتناثر الرذاذ الأبيض في دوائر واسعة.
يرنو إلى أفق البحر، عيناه تحدقان فى الاتساع. لو يتاح له السفر إلى بلاد الموعودين. 
أحب البحر، تمني- منذ طفولته - أن يعيش في أمواجه، آفاقه المترامية، يعمل بحارًا، أو صيادًا، أو ضمن طاقم باخرة ركاب. 
يعود - أول الليل - إلى بيته المطل على شارع السلطان حسين، الستائر مسدلة على واجهات البيوت، واللون الأزرق يغطي النوافذ الزجاجية وأضواء السيارات، والكشافات تلحس السماء، والنداءات تتعالى: طفي النور.
يرقب - من تحت جفنيه -  الأعين الراصدة، والمتابعة، في سيره بشوارع الحي. الشعور بالوحدة يلفه، يشقيه، وامرأة بين ساعديه، في قعدته على القهوة، وهو يجلس إلى أتباعه، أو أصدقائه، يعطي، ويأخذ، ويرد على الأسئلة. يحس بالأعين تحاصره من كل جانب، يختلس النظرات إلى ما حوله، يخشى أن تلتقطه عين راصدة.
هو الآن وجهه إلى الحائط، لا يدري ماذا يجري خلفه. ثمة ما لا يتبينه يسيطر على تصرفاته، ويدفع به إلى أماكن لم تدر في خاطره. يداخله شعور بأن شيئًا ما سيحدث، يبين في القلق والخوف والأحلام والكوابيس، يخشى الصحو على مرض كالشلل، يتوقع رصاصة، قذفة مطواة، ضربة شومة. 
يعيد الالتفات وراءه، يتأكد أن أحدًا لا يطارده، يتوقع يدًا ثقيلة على كتفه، تديره ليواجه ما أتعبه الفرار منه، يسعفه خاطره بمواقف حاصره فيها ما يصعب ردّه، لكنه يفلح في مغالبتها.
صحا - فزعًا - على حلم - مقطوع الصلة بما قبل وما بعد - أوثق فيه الشيخ زين عبد الحي، وحلق شعر رأسه، وحاجبيه، وذقنه. 
صحا - في صبج تال - يتحسس جسده، مردة، حملوه، ألقوا به من أعلى صخرة في قلب البحر. ربتت يد زوجته صدره.
تحشرج صوته بالخوف: 
- كابوس!.
لا يدرى إن كان ما رآه قد حدث فعلًا، أم أنه مجرد كابوس؟
عاوده الحلم، الكابوس، كأنه يصل ما سبق. 
رفت على شفتي فتحي الويشي ابتسامة حزينة:
- لكى أحلم فلابد أن أنام.
وضرب ركبته بقبضة اليد:
- الظروف التى نعيشها تمنعني من النوم!
ما معنى أن يخافك الناس والخوف يفقدك طعم الحياة؟


عبد الرحيم السبعاوي هو ذراع الداكر وعينه وأذنه. يقف أمامه عقب صلاة العشاء، عيناه تتلفتان كأنهما تحرصان على التقاط أية حركة، لا تفلتان شيئًا مما يحدث. 
عوّد نفسه الصمت في حضرة الفتوة، يلتقط كل ما يصدر عنه: نداء، نصيحة، ملاحظة، إيماءة، لا يسأل، ولا يشارك برأي، يحاول كتم انفعالاته، لا تبين في كلماته أو تصرفاته. عينا الداكر تلتقطان ما قد يحاول إخفاءه.
يكلفه - الداكر - بمتابعة من تريبه تحركاته: متى يغادر بيته؟ متى يعود؟ من يصادق؟ أين يقضي نهاره وليله؟
يحتفظ في رأسه بكل ما يراه ويسمعه. يرى ما يحفزه للرؤية، ويسمع ما يدفعه للبوح. يضع فمه فى أذن الداكر، يفرغ ما في جعبته، يروى له كل ما رآه وسمعه. يكر أسماء الفتوات والمساعدين: أين كانوا؟ ماذا فعلوا، أو قالوا؟
يعيد رواية كل ما رآه وسمعه، لا تفلت عيناه شيئًا مما يحدث. يحاكي القعدات وتعبيرات الوجوه والأيدي. لا يغفل شيئًا مهما تضاءل، مهما بدا تافهًا، حتى حبتى الدواء اللتين كان يجرعهما المعلم زعيتر فتوة غربال بالماء، عقب كل وجبة. رأس الداكر وعاء يدلق فيه كل ما يراه أو يسمعه. يكتفى بالإصغاء وهو يسند ذقنه إلى قبضة يده. لا إبلاغ بما رآه، أو استمع إليه، حتى يختلي به في القهوة، يعرف ما الذي يجب عليه أن يواجهه، يتخذ الحيطة اللازمة لرد أي اعتداء.
تباينت الروايات، لكنها أجمعت على أن عبد الرحيم السبعاوي هو راوي السنوات العشرين الأولى من عمره، لا إشارة إلى واقعة عاشها الناس، فيصلون حكاياته بما حدث بالفعل. أضاف مساعدوه ما رواه إلى روايات السنوات التالية.
لم يعرف له إيراد من أي مصدر، لا أراض، ولا عقارات، ولا أموال مدّخرة. ولم يكن له ظاهر عمل يقتات منه، لا حرفة، ولا تجارة، ولا شغل وظيفة. لا أسرة، ولا عائلة ينتسب إليها، بدا أن الأمر لا يشغله.
حين امتلك دكانًا في شارع سوق السمك القديم لتحميص البن، أبدت سعدية استغرابها. تعلم أنه يقصر ما يشربه على الشاى بالحليب، ويعتز بأنه لا يعرف القهوة أو السجاير.
- أنت لا تشرب القهوة. 
زم شفتيه:
- لا أطيقها. 
- لماذا تبيع البن إذن؟ 
- أكل عيش.
الشومة - كما روت كتابات صحفية - أول ما أمسكت به يده. قلد المعلمين في استعمالها، لكن المعارك ألزمته الاقتصار على تلقي الضربات.
الفتونة! 
لا يذكر متى بدأت في مخاطبته. متى اعتزم العيش بمعزل عن الداكر. يحرص أن تملأ البسمة وجهه، فلا يفطن أحد إلى ما يشغله، ما يعانيه. يشرد، يتخيل، يحلم. لا يستطيع البوح بما في نفسه. يكتم ما يضمره، ما يعده، حتى لا يفطن الفتوات، فيدبرون ما يغيب عن باله. لعله، أو أن ذلك ما حدث بالفعل - بدّل الحقيقة وهو يرويها. لم يرو ما حدث كما جرى، زاد، وحذف، ومط، واختصر.
أقحم نفسه - بعد قدومه من بلدته " سحالي" - في خناقة - لم يدع إليها - تلقى الضربات بدلًا من حنفي قابيل، فصار من أتباعه. 
التقط العبارة - من زينهم صبي حنفي قابيل - في قعدات المجيرة: 
- ربما تركت معلمي، المعلم الداكر فلوسه قليلة، لكنه يشتري رجاله!
تدلى فكه، واتسعت عيناه:
- نحصل من المعلم حنفي على مقابل تلقي الضربات كأنه صدقة، لا مراجعة ولا تذكير بحق قديم.
تردد على قهوة " نسيم البحر"، يصغي إلى المناقشات حول عويس الداكر، ركز ذهنه في ما ينبغى فعله. لا يسأل، لا يعقب برأي. همه أن يراه الداكر، فيألفه. يصيخ سمعه حتى لا يفوته أي جزء من كلام الرجل، يحاول استيعاب الكلمات، إن بدت واضحة، أم أنها تضمر ما يصعب فهمه. يمنع لسانه عن قول ما قد يساء تلقيه، يضع على شفتيه ابتسامة، تزداد اتساعًا حين تواجهه عينا الداكر. 
يقبل – ممتنًا – ما يقدم له: قهوة، شاى، عنّاب. يهمس بعبارات الشكر وهو يعيد الفنجان، أو الكوب، إلى الصينية، يتهدج صوته بالتأثر حين يأمر له المعلم بشيشة. 
واتته الجرأة، فسأل، لا يذكر الكلمات ولا ماذا أراد قوله، لا يعرف ما الذى ينبغى أن يقوله. السؤال لمجرد أن يهبه المعلم سمعه، يراه، يدور بينهما كلام، يلوك الكلمات في فمه، يخمن تأثيرها قبل أن ينطقها. يعرف من المعلم ولو أقل القليل، شاغله أن يهمس بالسؤال، ويتجه إليه المعلم بالرد. يوضح المعنى في تعبيرات وجهه ويديه، همّه إزالة الشك والتوجس وسوء الفهم. يزكى كل ما يتخذ المعلم من تصرفات حتى لو لم يعرف السبب، حتى لو تهامست الملاحظات والتعليقات والأسئلة. يأخذه الصمت إذا تناول النقاش ما يصعب عليه فهمه، أو لا يحسن الكلام فيه، أو يشي بالخطر، يكتم الرأي المغاير، فلا ينشأ ما يثير المعلم عليه. تأخذه المتابعة، يتهيأ لإبداء ملاحظة، لكنه يخشى رد الفعل، فيبتلع كلماته.
تعمد - في انفراجة الباب - استثارة ذاكرة المعلم برأي لافت، وما يستدعي انتباهه، رفع إصبعه كالمستأذن قبل أن يبدأ الكلام. انتقي الكلمات التي تنفذ إلى قلب الداكر، صداها ابتسامة تعلو وجهه، وربت لراحة اليد على صدره. أمسي - بتوالي الأيام -  من مساعدي الداكر. 
يتظاهر بالإنصات لدردشات المجيرة، يشغله ما يتعين عليه أن يفعل. عليه أن يحقق ما يريد، لا تشغله الوسائل. توالي الصور يتراقص في ذهنه. كوخ خشبي في زاوية المجيرة، ناحية شارع التمرازية، يخلو من الأثاث عدا طاولة صغيرة وكرسي وحصيرة تفترش الأرضية. في المساحة المحدودة يتلاصق مساعدو الفتوات، يتناولون الطعام، يشربون الشاي، يتعاطون الكيف، الجوزة تدور، وقطع الجمر تلتمع، والدخان يتصاعد، يتكاثف فى جو الكوخ. تأخذهم ما لا نهاية لها من المناقشات والدردشات، إذا تشعب الكلام إلى وجهة لا يريدها، فإنه يبتلع لسانه، ويظل صامتًا.
عندما يحل موعد الغداء تتصور الأذهان ما يكاد يقتصر على كل وجبة: الباذنجان المقلى وشرائح البطاطس المقلية والفلافل والخيار والطرشي. 
فسّر شيحة مساعد المعلم سلطان المرسي حرص المعلم الداكر على أكل الطعام بمفرده للدتورة التى يخلط بها طعامه عند إعداده في البيت.
العداء يحرك الشوم، لا صلة لقعدات المجيرة بالمعارك التي يتلقون فيها الضربات، فعل المعارك للفتوات، تعلو الشوم، تتناطح، تشي ضرباتها بطبيعة مشاركاتهم في أجسام المساعدين. إنهم مثل الشوم التي يتصارع بها الفتوات. في داخل الكوخ، ينسى المساعدون معارك المعلمين، لا مشاجرات، يتناسون، ينسون ما جرى. انتهى بنهاية المشاجرة. سبب اشتعالها يعرفه الفتوات. فعل المساعدين يقتصر على حماية الفتوات، تعزلهم القعدة عن قبل وبعد، قبل المجيء إلى المجيرة، وبعد المغادرة. تخلو من سير المعلمين، تتناثر الذكريات والحكايات والنكات والضحكات وأدوار الشاي وتعميرة المزاج، يعانون الترقب والسأم والملل، يتركونها في موعد معركة. 
النصبة داخل المجيرة بشارع إسماعيل صبري، مدسوسة بين كومات الجير وأكياس الأسمنت، فيها الشاي والقهوة وقطع الأفيون وأنفاس الحشيش، يلتقي مساعدو الفتوات دون خصومة ولا عراك، يطول صمت الشوم، يلزمون النصبة بالرغبة في قتل الوقت، ينعمون بالجلسات المسترخية والشرود والذكريات والأحلام والتصورات المحلقة. يخفون ما يودعونه لدى عم سعد من المسروقات.
مساعدو الفتوات أدوات للإفلات من القانون، يظهرون في هجمات البوليس، ينسبون إلى أنفسهم ما يفعله المعلمون. حتى القضايا التي قد تنتهي بالسجن. يتقبلها راضيًا. المعلم يرعى أسرته. 
- شومة بلا ظل أفضل من ظلال الفتوات!
ومر على شفتيه بطرف لسانه:
- إنهم ينعمون بالبغددة، ونحن نقضي معظم أوقاتنا في مجيرة عم سعد.
وفي صوت متهدج:
- نقدم أرواحنا ثمنًا لعز المعلمين.
ونقر بإصبعه على رأسه:
- لماذا لا نفكر بأدمغتنا بدلًا من الخضوع لأفكار الغير؟
كل شيء يفتقد المعنى.
أدرك أنه كان يتلمس الطريق نحو شيء لا يعرفه، لا يعرف إن ظل تابعًا لفتوة، أم يهجر الكار إلى مهنة تنزع حصاره؟
تطول قعدات القهوة، يتكلم المعلم، تعلو الأسئلة والآراء، يشارك بالصمت، يغيب عن كل ما حوله بما يدور في نفسه.
إذا كان حنفي قابيل شحيح الإنفاق، فإن عويس الداكر يعيبه سرعة التبدل والتحول والتغير والانقلاب. لقاءات وقعدات وكلام وأخذ ورد وهمس وزعيق وصراخ وترقب للخطر، غيمة من السواد تغطي سماء حياته إلى مدى الأفق. عرف ما ينبغى عليه فعله. يغير حياته، يؤلمه - في دردشات المجيرة - وجه الداكر أمام عينيه، ينصت بأكثر مما يتكلم، يطبق شفتيه، لا يفتحهما إلا للتعقيب، أو للرد على سؤال، تم تعود الشفتان إلى انطباقهما. يكتفي بالإيماءة والإشارة والنظرة ذات المعنى، يعجز عن ضبط نفسه، يغلبه الانفعال فيصيح ويشتم ويهدد.
يتردد على القهوة، يحيي الجلوس بإيماءة عن بعد، يأخذ فى جلسته أوضاعًا تنقصها العفوية، يخلي القعود ما بأيديهم، ويقفون احترامًا للهيبة. حتى أتباعه يعاملهم بتباعد لا يخلو من ازدراء، لا يأذن - في مجلسه - بالأسئلة المتبجحة، والكلمات القاسية، المقاطعة، والأصوات العالية، لا يأذن حتى بالضحك، ولا بإلقاء دعابة. 
عاب عبد الرحيم السبعاوي عجزهم عن احتواء تصرفات الداكر. إن انفتحت الصناديق المغلقة، فسيذيع كل ما يعرفه من سيرة الداكر، يروي ما حدث، ويزيد من اختراع خياله.
فطن إلى أنه لا يجني من صحبة الداكر إلًا حوسة البلجيك، هو دائم الخلافات والعراك مع ناس لا عداوات بينه وبينهم، لا صلة له بهم. جعل نفسه فوق أية مساءلة، يقضى، وعلى المساعدين أن ينفذوا أوامره، يتلقون الأمر، فيجدون أنفسهم في قلب الخناقة، لا يبقى من تأثير المعارك إلّا ما لحق الأجساد من إصابات ( ينتفض لتذكر لحظات الألم، كأنها تحدث حالًا، تنفرج شفتاه عن تهيؤ للصراخ ). يدخلون المعارك بلا سؤال عن البواعث ولا جدوى الفعل، حياتهم في التوقع والقلق والخوف والأحلام والكوابيس والخطر والعيش - غالبية أيامهم - في السجن، يغلبهم العجز في تفسير تقلبات نفسه. أما الفتوات فقد أثروا من الإتاوات والمساعدات، اكتنزوا المال، بنوا العمائر، عاشوا في العز والأبهة.
فاجأه مرعي بيبي بالقول المتسائل: 
- لماذا أخاف السجن؟
وجال بنظره في الدائرة حوله:
- أنا في سجن، كلنا في سجن، الفتوات والبوليس والظروف التي لا ترحم. حتى السير في الشوارع، الجلوس على القهاوي، التمشي على شاطئ البحر، أداء الصلاة في الجامع، محاولة النسيان في الموالد وحلقات الذكر.. ذلك كله يحكمه التوقع بالأذى. أنت في زنزانة القسم مثلما أنت خارجها.
بدت الكلمات غريبة في شفتي مرعي بيبي، يتصورها في نفسه، في غيره من جلساء قعدة المجيرة، مرعي يجاوز تلقي الضربات إلى الإطاحة بالشومة، هو - في قربه من المعلم حنفي قابيل - كأنه فتوة مثله.
قصد عبد المقصود التيجاني رئيس قسم الأرشيف بسراي الحقانية، يدله على عمل يتكسب منه، يعتمد عليه فى حياته، يعينه على سطوة المعلمين. هو يعرف شخصيات مهمة، لها مكانتها الوظيفية والاجتماعية، وأفضاله محمودة. 
- هل لديك صنعة؟
تدرب في المجيرة على النشل. صدّه الخوف عن التهيؤ للفعل.
- لدي عافيتي.
أشاح بيده:
- لا نريد فتوة.
وهو يواجهه:
- إذا كانت صحيفتك الجنائية خالية من السوابق، فسأحاول تعيينك ساعيًا في الأرشيف.
قال بعد فوز ورقته في المجيرة:
- معي نقود ليست مع معلمنا!
قال مرعي بيبي:
- لكنك بلا معلمة ولا أتباع!
عششت الفكرة فى رأسه. داعبته الرغبة في أوقات يعيشها، يستمتع بلحظاتها، لكن الواقع يطالعه بالشوم والضربات والأوامر وقعدات المجيرة. طرده ربيع أبو العزم، آلمه حنفي قابيل، شتمه، استخفّ به، حقّره، فتمنّى موته. عويس الداكر حلقة في سلسلة قيدت حياته. 
استغرقه حلم الفتونة. يمارس حياته على النحو الذى يريده، وليس ما يفرضه عليه المعلم. يلوذ بعالم يخصّه وحده، لا يشاركه فيه أحد، يأمل أن يعيشه، يستمتع بعوالمه السحرية، يلجأ إلى خياله لتعويض ما لا يحصل عليه. الشومة، القوة، وليس التنصت وإرهاف السمع، وتلقي الأوامر. يشغله الأمر في استلقائه على السرير، يتمدد على ظهره، يداه معقودتان خلف عنقه، عيناه تحدقان في السقف، ذهنه يشغي بالسحن والحقد والوشايات والخصام والكراهية والبلطجة والعنف والشوم والمعارك وصافرات البوليس وسرينة الإسعاف. خطواته متباطئة في تشابك الشوارع، يتطلع - بشرود - إلى النوافذ والشرفات وأبواب البيوت. يرى الدنيا من خلال سحابة مثقلة بالذل والإهانة. يفتقد الشعور بالطمأنينة، لا يأمن الكيد والدس والغدر والوقيعة، يكثر من التلفت حوله، يتوقع عينًا راصدة.
تولد في أعماقه شعور أشبه بالأسى أو الحزن أو الفقد. خشى فوات العمر بما يصعب تعويضه. حياة خاوية، فارغة من المعنى. تشرق الشمس وتغرب، تتابع الفصول، يتعاقب برد الشتاء وحر الصيف، الليل والنهار. صراخ استقبال الحياة، ووداعها. الأيام كأنها بلا انتهاء، ما حدث بالأمس هو ما يحدث اليوم، وما سيحدث غدًا، والأيام التالية. القلق والملل والسأم وجفاف الأوقات. يخشى أنه لن يحصل من الدنيا على ما يستحقه. قيود غير مرئية، تعيق تفكيره وحركته. 
إلى متى يقتصر دوره على تلقي الضربات؟ إلى متى يتحمل الغمزات واللمزات والتعبيرات الساخرة والشتائم؟ 
لم يعد يتردد على مجيرة عم سعد، يبتعد دون أن يلاحظ أحد. اعتزم أن تصبح المجيرة من الماضي الذي ينساه، لا يتهمه مساعد فتوة بأنه يخلط أوراق الكوتشينة ليكسب، يمسك أوراق الكوتشينة، يبسطها، بحيث يراها ميدو بركة مساعد البصال فتوة سيدي بشر، يكسب ورقه، يتقاسمان - بعد ترك المجيرة - ما حصلا عليه، وحتى لا يواجه الخسارة، يغادر المجيرة وهو يتحسس جيوبه.
إذا كانت الفتونة تصعّب تربعه عليها، فإن النفاذ إليها سبيله عشرات الحيل. يحرص، فلا يفطن أحد إلى شاغل نفسه، ما يفكر فيه. ألصق بوجهه ابتسامة تخفى ما يضمره، يدرك أن أي خطأ في ما أعد له نفسه، ربما يعرضه لخطر يصعب تخمينه، ربما يفقده حياته.. لكن الضياع بديل المجازفة.
أنصت إلى حكايات فتوات يعرفهم ولا يعرفهم، الظهور والنشأة والقوة والتحدي والمعارك، هيبة الفتوة وخضوع المساعدين.
تلبسته أفكار لم يتوقع أن تطرأ في باله.
الفتونة تداعبه، تطالعه، في حياة بلا كدر. تملكته الفكرة، فأزمع أن ينفذها. أتباعه أزرار، يضغط عليها، تؤدي ما يريده، لا يناقشون طبيعة الأداء، الزرار يلبي ضغطة إصبعه، يسيّر الأمور حسب إرادته. تحف به المهابة، وتلاحقه النظرات الخائفة.
زاد الكاتب - الذي روى له السبعاوي ذكرياته - هامشًا في كتاب اعتزم تأليفه، مساويًا لكتاب مكرم عبيد الأسود. نسب مكرم إلى مصطفى النحاس ما يسوّد حياته. تصور كتابًا مشابهًا في مقصده لكتاب مكرم عن النحاس. هو مكرم، والداكر هو النحاس.
لم يصدر الكتاب، ظل في إطار الأمنية. أدرك السبعاوي خطورة المنزلق، أو أن الكاتب، العرضحالجي، خاف العاقبة. 
وضعت الملف على الطاولة. أغمضت عينيّ، أخلي للشرود تصور ملامح عبد الرحيم السبعاوي. مجرد اسم قرأته بين عشرات الأسماء، في الفترة ما بين عقدي العشرينيات والخمسينيات من القرن العشرين. خليط من الطيبة والقسوة والعنف. ذلك ما عكسته الأوراق البيضاء التي تحولت أطرافها إلى الصفرة.
عهد إلى بشير أبو الهنا الكاتب بسراي الحقانية، أن يدون تاريخه الشخصي، يبدأ منذ تاريخ الميلاد الذي ذكره عبد الرحيم السبعاوي والعائلة التي ينتسب إليها. مؤثرات طفولته، ونشأته، وتكوينه.
بدا لي أن أهم ما حرص السبعاوي عليه في ذكرياته ( حدثتك عن الفرق بين المذكرات والذكريات ) إجادة التقاط التقصيلات الصغيرة، المنمنمات،  قطع الفسيفساء التي تشكل لوحة.
أعلم أن المذكرات الشخصية قد لا تكون صادقة أحيانًا، وقد لا تكون كذلك إطلاقًا. تتجه الرواية إلى من يهمنا إقناعه. نخشى إساءة التلقي. هو لم يكتب ما أقرأه، بل أملى سيرته على من كتبها. يطلب الاستعادة، يضيف، يحذف، يحوّر الأحداث. أعدت القراءة، كررتها، حفظت جملًا كاملة. عرفت أنه لم يكن لديه ما يخفيه، أو يخشى فضحه.
لماذا أملى عبد الرجيم هذه المذكرات؟ ولماذا أبقاها الكاتب في الدرج، فلا تنشر – حسب وصية صاحبها – إلّا بعد موته؟
لخصت الوقائع بما يحفظ اتساقها، وإن أوردت العديد من العبارات التي يفقدها الإضمار ما توضحه، أو تومئ إليه. لكن السؤال الذي ظل يشغلني - وأنا أعيد قراءة المذكرات - هل السبعاوي هو كاتب هذه الأوراق؟ وإذا كان قد أملاها على ما لم أعرفه، فهل الوقائع حقيقية؟ هل سجلت كما رواها، أو أن الكاتب حذف منها، وأضاف إليها، فجاءت على غير الحقيقة؟
وقف عبد الرحيم السبعاوي على الرصيف الحجري للمينا الشرقية. في قبضة يده اليسرى حصوات، يلتقط منها واحدة، يقذفها في الموج الساكن، تصنع دوائر متتالية، تزداد اتساعًا، تذوي، تختفي،ـ تتلاشى. ثم يلتقط حصاة ثانية. 
لا يذكر متى انتابه الشعور الذي بدّل نظرته إلى نفسه، وإلى ما حوله. زايله الإحساس بالضعف، لا يتهيب الوقوف فى مجلس الداكر، أو تخذله عافيته، ولا يطيق دور التابع، لا يناقشه فى الأحكام التى يقضى بها. يكتفي بالإنصات والتلبية وتنفيذ الأوامر. 
سئم انتظار ما غاب عن تصوره، تختلط في ذهنه السحن والتكوينات والقسمات والملامح، تغيب صورتها النهائية: لعبة الكوتشينة في مجيرة عم سعد، قعدة الحشيش، دوائر الدخان المتصاعدة، اللولبية، التعبيرات الشاردة والساخطة والملمزة، وقفة التهيؤ لتبية ما يطلبه الداكر.
يشعر أنه فى زمن غير الذى يريد أن يحياه. الفتوة يخوض المعارك، لكن الترصد والإيقاع في الكمائن وتلقي الضربات شأن الأتباع. هو غصن – مثل بقية المساعدين – في شجرة الداكر.
إلى متى يظل التابع تحت تصرف الفتوة، وطوع إرادته؟ 
لماذا لا يصبح شجرة لها أغصانها؟
هل نتعذب ليسعد الآخرون؟! 
يؤلمه الشعور بأنه يمد ذراعيه ليوقف صدام صخرتين، فتسحقانه. عاب على المساعدين أن الداكر سار فيهم سير بقية الفتوات. لم يكن – حين يتكلم – يأذن بالمقاطعة، له نفس مثقلة بشعور الاستعلاء، ورفض الآخرين، يصغي - بأذن مصدقة - إلى الهمسات الناقلة للكلمات الملمزة والرافضة والغاضبة والساخطة، يرفض السؤال والمجادلة والرأي المخالف، من يريد السؤال، أو إبداء ملاحظة، فإنه ينتظر دوره، لا إرادة لهم، يوجههم كيفما شاء، عليهم السمع والطاعة، يخشون تغيّر نفسه. حتى الابتسامة التي يحاول لصقها بشفتيه، تبين فيها العصبية الواضحة.
- فتوتنا يفسح صدره للآراء المعارضة.. ثم يترك لنا إسكاتها!
وربت صدره براحته:
- نحن حيطان الصد!
أعجبه التعبير!
لكم صدره بقبضتيه:
- نحن قّوته، يضرب ونتلقى الضربات. لولانا ما تنفس الحياة!
ما يشغله ليس أن يصبح المستحيل ممكنًا. 
لا مستحيل. 
الفتونة حقه بما يملكه من إجادة التصرف، والقوة، والقدرة على القيادة. لمح الشومة تهوي على رأس عويس الداكر. جاوز تلقيها إلى الرد بشومته، والتصرف بما كان يفعله الداكر: أطاح بفتوة المتراس فالح المطرودي وصبيانه. قدّر صمت المعلم عن تصرفه. لعله خشى تأثر مكانته!
سئم انتظار ما غاب عن تصوره، تختلط في ذهنه السحن والتكوينات والقسمات والملامح، تغيب صورتها النهائية: لعبة الكوتشينة في مجيرة عم سعد، قعدة الحشيش، دوائر الدخان المتصاعدة، اللولبية، التعبيرات الشاردة والساخطة والملمزة، وقفة التهيؤ لتبية ما يطلبه الداكر.
يشعر أنه فى زمن غير الذى يريد أن يحياه. الفتوة يخوض المعارك، لكن الترصد والإيقاع في الكمائن وتلقي الضربات شأن الأتباع. هو غصن – مثل بقية المساعدين – في شجرة الداكر.
إلى متى يظل التابع تحت تصرف الفتوة، وطوع إرادته؟ 
لماذا لا يصبح شجرة لها أغصانها؟
هل نتعذب ليسعد الآخرون؟! 
يؤلمه الشعور بأنه يمد ذراعيه ليوقف صدام صخرتين، فتسحقانه. عاب على المساعدين أن الداكر سار فيهم سير بقية الفتوات. لم يكن – حين يتكلم – يأذن بالمقاطعة، له نفس مثقلة بشعور الاستعلاء، ورفض الآخرين، يصغي - بأذن مصدقة - إلى الهمسات الناقلة للكلمات الملمزة والرافضة والغاضبة والساخطة، يرفض السؤال والمجادلة والرأي المخالف، من يريد السؤال، أو إبداء ملاحظة، فإنه ينتظر دوره، لا إرادة لهم، يوجههم كيفما شاء، عليهم السمع والطاعة، يخشون تغيّر نفسه. حتى الابتسامة التي يحاول لصقها بشفتيه، تبين فيها العصبية الواضحة.
- فتوتنا يفسح صدره للآراء المعارضة.. ثم يترك لنا إسكاتها!
وربت صدره براحته:
- نحن حيطان الصد!
أعجبه التعبير!
لكم صدره بقبضتيه:
- نحن قّوته، يضرب ونتلقى الضربات. لولانا ما تنفس الحياة!
في صوت يغالب التهدج:
- نحن لا نصلح للفتونة. دورنا تلقي ضربات الخصوم.
علق إحساس المرارة بشفتيه. تشوشت نفسه، واختلطت مشاعره. لم يعد لديه قدرة على التفكير، أو الكلام. رفع صوته ليتخلص من الارتباك:
- نريق دماءنا ليحصلوا على مكاسب جديدة.
ثم وهو يحاول أن يستعيد السيطرة على نفسه:
- نحن خدم المعلمين. تخطئ العين إن تناست الحاجب.
تشرب الفتونة من عويس الداكر: التنبه والتفكير والإعداد والإخفاء وإطلاق صيحة الكشف. خشي النطق بما يشغل الداكر، ما أعد له في علاقاته، وتدبيراته لرد المكائد، وتصور الأيام المقبلة. هو إذن يعرف أكثر مما يجب، وربما حفزه ما يعرفه إلى الخروج عن طاعته.
يصاحب الداكر كالظل في سيره وقعداته. هو أول من يصحو الداكر على وقفته إلى جوار السرير، وآخر من يودعه قبل أن يسلم جسده إلى النوم، هو ذراعه اليمنى، يجول - بعينين متلفتتين - في تعدد الأمكنة، ينقل أوامره، ينفذها، ينيبه عنه في المهام الصعبة. 
لم يتجاوز أوامر الداكر، خضع لها، وحاول استرضاءه بالوسيلة التى توافق مزاجه، وفكره. يردد ما يريد الداكر سماعه. يومئ بقبول كل ما يطلبه، حتى وإن خشي عدم قدرته على الفعل. هو يفعل ما يريده الداكر، وليس ما يأمله لنفسه. لا يتكلم، لا يشارك برأي، ولا يسأل، يقتصر على الرؤية والإنصات ومتابعة الأحوال، تعدد معارك فتوات الأحياء، غياب أسماء، وظهور أسماء لم يكن يعرفها أحد. اعتاد اللوم والتبكيت والتسخيف ورفض أقواله وتصرفاته. تملكه إحساس بالمحاصرة. ردد الداكر في قعداته أن السبعاوي هو خليفته. القامة المكتنزة، الوجه المربع، الأنف المستقيم، الدقيق، الأسنان الذهبية، الفك المسحوب، المنكبين العريضتين، الصدرية المفتوحة عن غابة من الشعر.
عافية الداكر، وتعدد معاركه، واتساع مدى سيطرته، جعلت خلافته شبيهة بحلم الإنجليز هزيمة روميل. ربما وصل عبارات التزكية بشتائم، يسكت السبعاوي لسماعها، كما يسكت عن شتائم العساكر أمام باب التخشيبة. ينظر الداكر إلى الرجال من حوله، وعلى شفتيه ابتسامة تشى بتعمده السخرية من السبعاوي الواقف أمامه، 
هل يخلفه في ظلمة القبر؟
وضعه فى باله. لم تعد مشاعره إلى ما كانت عليه، تبدّل في داخله كل شيء. زال ما كان فى نفسه من الخوف. ربما مال في تصرفاته إلى العداء. تمنى اختفاء الداكر من حياته، يركب البحر فتبتلعه النوة، يعبر الطريق فتصدمه سيارة، يدخل خناقة فتودي بحياته شومة.
- ظن هتلر نفسه ملك فتوات العالم. أيقظته الحقيقة فانتحر!
إن لم يمت الداكر، فإن تطلعه إلى سراب في آفاق لا نهاية لها.
لا شيء يعادل الحرية، يغيب الشخط والنطر والأوامر والإهانات والشتائم وضربات الشوم والتوقعات القاسية. 
أربكه حجب الداكر ما كان يعطيه له من المال والطعام. أكثر من تردده على مطعم الملك فاروق الخيري بشارع رأس التين. وجبات ساخنة تعوض حاجته إلى الطعام. 
لم يكن ما يتقاضاه من الداكر يتيح له استئجار شقة، أو غرفة على سطح بيت. مال - في معظم الليالي - إلى قهوة كشك بشارع فرنسا، يشرب الشاي، ويقضي ليلته بخمسة تعريفة. لم يعد يبدل جلبابه. إذا نزعه فلغسله، يرتديه بعد أن يجف. إن غلبه الحزن، أو التفكير، نزل المالح ليسترد هدوء نفسه. 
ضاق صدره بما لا يحتمله بشر من التسلط والمكائد والمؤامرات والأهوال والهموم. استغرقه الشعور أنه مقهور. كل ما بداخله، وما حوله يدعوه إلى أخذ حقه. هو لا يمتلك ما يعينه على العيش، لكنه يمتلك الإصرار الذي ينقص سواه. لا يشاركه في مشاعره أحد. قد تفاجئه الأيام بما لا يتوقعه. ربما بصقت همسة في أذن حنفي قابيل، فيطرده، أو ينهي حياته.
أراد أن يعبّر بالكلمات عما يختزنه في نفسه. يتدبر كلماته، يحدس وقعها قبل أن ينطقها. هذا هو زمنه. لو  أفلت منه فسيقضي نهايات أيامه على كرسي في قهوة مثل جمعة مخلوف، أو تغلبه الأمراض مثل حنفي قابيل. 
أيام بطولها لا يشغله إلّا الفتونة. 
كيف يحصل على ما يستحقه، فيصبح فتوة؟
لم يعد يتصور نفسه تابعًا. دنياه تختلف عن دنيا المجيرة، ناس المجيرة، تأخذهم اللحظات في ضبابية تعزلهم عن كل شيء، بينما أفكاره في دنيا أخرى، مفرداتها أحلامه. يحلم، يتولد من الحلم أحلام، تتوزع آفاقها في مسارب الطموح. يخلف كل ما عاشه، ويرنو إلى ما يتصور، يتمنى، حدوثه، يغيّر كل ما يعيشه، ما فرضه المعلمون، يرى نفسه واحدًا من الفتوات، وليس ظلّا يتشابك مع ترامي المساعدين حول الفتوة. يصفه المعلم الداكر بأنه عقل ذبابة فى جسد ثور. الفوارق تنتصر له على المعلم. حفظ القرآن، وتجويده، على القراءات السبع، أداء الصلوات الخمس في أوقاتها، عافية البدن، حب الناس بما يسهّل إصغائهم لكلماته.
همس لنفسه: 
- لا قيمة للحظ الطيب إن جاء بعد فوات الأوان.

يتبع





تابع بوابة الجمهورية اون لاين علي

تابع بوابة الجمهورية اون لاين علي جوجل نيوز جوجل نيوز

يمكنك مشاركة الخبر علي صفحات التواصل

اترك تعليق