لماذا وكيف ومتى وأين نكنب؟! هذه الأسئلة وغيرها أجاب عنها الكاتب الصحفي الزميل شريف قنديل في كتابه الجديد "حكاية فتي في حدائق الحروف" والذي صدر عن دا سما، وتم تدشينه ومناقشته في الندوة التي أدارها بمعرض القاهرة الدولي للكتاب الزميل محمد حربي الكاتب الصحفي بالأهرام، واشترك فيها الدكاترة حمدي النورج أستاذ النقد وتحليل الخطاب بأكاديمية الفنون، والدكتورة أميرة مروان المدرس بآداب عين شمس، وسارة نصار الفنانة التشكيلية، والأستاذ عبد الله يسري كبير مذيعي التلفزيون المصري.
بدايات "الجمهورية" و"المساء" و راء تحولاتي الأدبية والجمالية.
د. أميرة مروان: هذا كاتب احتكره حرف "الحاء "الحق - الحب والحرية"
د. حمدي النورج: فن جديد في السيرة الذاتية وجرأة متناهية في الفعل السردي الحي.
د. سارة نصار: الكتاب ملئ بالمؤثرات الصوتية واللونية و الحسية!
وقبل بداية المناقشة قدم الاعلامي عبد الله يسري اضاءة وافية عن مسيرة شريف قنديل الصحفية والادبية و عن بداياته في "الجمهورية" محررا وفي المساء كاتبا للقصة القصيرة، قبل أن ينتقل للعمل في لندن ويطوف من خلالها عواصم العالم.
ويشير الي أن حوار قنديل مع الأديب الكبير يحيي حقي الذي نشر في "الجمهورية" حين التقاه الكاتب في منزل العلامة الراحل محمود شاكر، فضلا عن قصتين قصيرتين نشرهما له الأديب الراحل محمود فوزي في "المساء" كانا بمثابة نقطة التحول في مسيرته الأدبية.
وفي مستهل الندوة أوضح الكاتب، أن رحلته مع القلم لم تبدأ بالجملة الصحفية المعلوماتية المركزة، وإنما بدأت بمحاولات شعرية سرعان ما تخلى عنها أو تخلت هي عنه، قبل أن يلجأ إلى القصة القصيرة، التي يتوق إليها بل يلوذ ويستعيذ بها من هاجس الشعر الذي يطارده أحيانا!
لكن مدير الندوة كان له رأي آخر، مؤكدا أنه على الرغم من أن الكاتب يقول صراحة إنه هجر الشعر بلا رجعة وانحاز لأدب المقال القصصي، فان الشعر لا يمكنه مفارقة الكاتب بشكل عام، وفي حالة الصحافي والاديب شريف قنديل فان الشعر لازمه في البدء فابوه الاستاذ محمد قنديل كان شاعرا يقرأ العالم بايقاعات اللغة المنضبطة وزوج اخته الكبرى الناقدة نفيسة قنديل هو الشاعر الكبير محمد عفيفي مطر، واصدقاؤه ثلة من الشعراء بحيث لعب الشعر او الشعرية دورا بارزا في تأسيس وعيه بالعالم واللغة معا.
ويضيف ربما هجر شريف قنديل الصياغة الشعرية او اخر مراحل الشعر ولكنه استبقى شعرية التكثيف والايجاز والبحث عن جوهر اللحظة الجمالية واكتفى في صياغة عوالمه التى عاش وقائعها ورصد أحداثها بالسرد الاقرب للقصة ولكنه اختار سردا قريبا من تكثيف اللحظة الجمالية والانسانية متسلحا هنا بلغة الصحافي الذي تغريه الحقائق وهو يطاردها في الاخبار والتحقيقات التي قام لنا في مصر ولندن وافريقيا واسيا ،الا انه من فرط البحث عن الحقيقة لم يهمل رشاقة اللغة ابنة الشاعرية .. وعندما اراد عرض مقاطع من سيرته المهنية اختار الانتقاء الدقيق والتقاط اللحظات الدالة على ما يحلم به من ظلال حرف الحاء في حدائق الكلام.. الحق والحب والحرية. ولانه ابن شاعرين وابن قرية تعيش الشعر في اغنيات الحصاد اصغى كشاعر الى حفيف ثوبها الاخضر وسكون طينها الخلاق واستمع الى ايقاع ترعتيها وصخب فلاحيها النبلاء ثم صاغ سيرته وسيرة قريته في عدة كتب اخرها ذلك الكتاب..
بدورها، قالت الدكتور أميرة مروان، إن الكتاب في الحقيقة، عبارة عن قراءة نقدية أخذت شكل التحدي المهني لا لكاتب متمرس أو أديب فحسب، وإنما لناقد سرديات محترف استطاع أن يشكل منظوره الراهن لذاته وعالمه، رابطًا بين مكنون الوعي واللاوعي، محاولًا التأليف بين العناصر الدقيقة المتفاوتة التي تمتد إضاءاتها إلى نقاط بعيدة في أغوار الذاكرة، وهو ما صرح به محددا في عنوان الكتاب أنه (إضاءات سيرة صحفية)، تلك الإضاءات التي حاول الامساك بها في مقالات هذا الكتاب التي حوت أصداء متنوعة مما جادت به ذاكرة "قنديل" عن سيرته ومسيرته.
وأضافت أن الكتاب كشف عن جوانب مختلفة من حياة "قنديل"، أولها يتعلق باللغة والهوية: ففي أكثر من مقال أو فصل ظهرت غيرة الكاتب على اللغة وهوية الثقافة العربية، فنجده في عنوان "الخوف من موات الحس الأدبي" تؤرقه مسألة أصول التربية وسلوكيات الأجيال المتعاقبة، متخوفًا من ضياع قيم الإحساس الجمالي والأخلاقي واندثارها في ظل التغيرات والإغراءات الاجتماعية والثقافية التي يواجها النشء في مقارنة أدبية تكشف عما كانت عليه تنشئة الأبناء في الريف قديمًا وما آلت إليه الآن ولا سيما في مجتمعات المدن الجديدة.
وحول مسألة سلامة اللغة واستقامة اللسان العربي، يذهب في "طعم الحروف وصوتها" إلى ضرورة التنشئة اللغوية السليمة؛ لما يتركه المخرج الصحيح للحروف من أثر في السمع وعلاقة ذلك بالفصاحة والإقناع من ناحية، والتمسك والحفاظ على اللغة والثقافة العربية من ناحية أخرى، وهو ما ذهب إليه والده الشاعر الكبير "محمد قنديل" الذي حرص على تنشئة ابنه نشأة لغوية صحيحة تُظهر الحروف بمخارجها وحركاتها الصحيحة. وحول المسألة نفسها يرفض "شريف قنديل" ما دعى إليه سلامة موسى من الانتماء للغرب وضياع الهوية العربية، معتزًا بلغته التي ورث حبها وعدم امتهانها بفضل والده من ناحية، وتتلمذه الفكري واللغوي على يد رائد الشعر الحديث الشاعر "محمد عفيفي مطر" من ناحية أخرى.
ومن اللغة أنتقل الكاتب إلى الكتابة الإبداعية، وهي موضوع آخر من موضوعات الكتاب الرئيسة، التي نستشف منها بدايات الكاتب الأولى في مجالي الإبداع الشعري والقصصي، ومحاولاته المستمرة أو فلنقل المتأرجحة بين الهجر الذي لا يخلو من حنين والوصل، حتى وصل مرحلة النضج والكمال الفني والجمالي، التي تمكن فيها من أدوات اللغة وطعمها الجزل الذي يشبه على حد تعبيره ثمار الفاكهة الناضجة في الحدائق، كما صرح في مقاله "حدائق الفاكهة وبساتين اللغة".
وحول أسلوبه في التأليف الأدبي والكتابة الإبداعية، يعلن "شريف قنديل" في مقالي: "المكان والزمان والرمز" و"كيف أكتب ولمن" أنه آثر المعنى الحقيقي المباشر الذي يتجنب فيه الرمزية المفرطة؛ فهو يعايش الناس، يتحدث عن مواطنيه من بني جنسه ووطنه وطبقته، ومن ثم يُعيب الافتعال والكذب وخيانة التاريخ الحقيقي لواقعه
وحول محور الكتابة الإبداعية وموضوعها، ظهرت آراء "شريف قنديل" ومواقفه من كُتاب ومبدعين من ناحية، وكتابات وحركات إبداعية من ناحية أخرى. ففي أكثر من موضع في مقالاته يفصح عن هلاقته الوطيدة بصهره الشاعر الكبير "محمد عفيفي مطر" وتأثره به لغويًا وفكريًا، وصديقه صاحب الكلمة العذبة الشاعر "مصطفى عبد المجيد سليم" وغيرهما من الكتاب والمبدعين الذين تبادل معهم التأثير والتأثر الفني والفكري. ومن محور الكتابة إلى الاجتهادات والرؤى النقدية التي تجلت بأبعادها الفلسفية في إيضاح مفاهيم مثل: الغربة والوحشة والاغتراب، والجميل والجمال ومفهوم اللحظة الجمالية التي تُبنى على الحس أكثر من المعرفة، والقلب أكثر من العقل. وقد تجلت هذه الرؤى أيضًا في مسائل أخرى تعلقت بنظرية الأدب؛ومنها: قضية الأدب بوصفه فنًا من الفنون، وعلاقة الأسلوب بالشخصية/ الكاتب، الذي تبنى فيه قنديل مقولة أن: "الأسلوب هو الرجل نفسه". ومن محور الرؤى النقدية التي تجلت في جميع مقالات هذا الكتاب- حكاية فتي في حدائق الحروف- إلى المحور الآخير المتعلق بحياتة الكاتب المهنية وانفتاحه على الآخر، وهو محور يظهر لنا جانبًا مضيئًا في التكوين الفكري والثقافي لـشريف قنديل، نتيجة انفتاحه على تيارات مختلفة توقف معها وعايش فيها أفكار اليسار ورموز الناصرية والاشتراكية تارة، والفكر الإسلامي الجميل تارة أخرى، دون أن ينزلق مع إغراء هذا التيار أو ذاك، وينسب الفضل في هذا إلى والده -رحمه الله- محمد قنديل الذي علمه استقرار القرار والصمود أمام أس إغراء من ناحية، ووسع مداركه الفكرية بما قدمه إليه من ألوان الكتب المختلفة التي تنفتح على جميع الأفكار. وحول مهنيته؛ فقد أفصح "قنديل" عن مسلكه الذي لا يجانب الحق، وكل ما يحتكره حرف "الحاء" من معاني شريفة كالحب والحرية والحياة، غبها وحدها يخطو في دروب الجمالي النقي، متخطيًا كل الإغراءات والاستمالات والمعلومات الجاهزة التي يمكن أن تزيف الحقائق أو تطويها.
بدوره، الدكتور قال حمدي النورج، استاذ النقد وتحليل الخطاب: الظن عندي أن الفتى وحدائق الحروف لا يطلب من جمهور الملتقين حدا من الإسراف التأويلي في التعامل معه، بقدر الإسراف البحثي في متابعة سلوك الفجوات الذي امتلأ به العمل. وللتصنيف هناك الفجوات البنائية والسياسية والفجوات الثقافية وفجوات الذات التي بنت هذا العمل بمنطق الانتقاء الحر، والحرص علي عدم الوقوع تحت فخ التداعي بنوعيه الترابطي والحر. وسيكون علي المتلقي أن يتحلى بالشفافية وسلوك التلقي البكر الهادئ ثم يتذوق عطر الحروف، لكنه لن يخرج بعيدا عندما يبحث عن الكثير من آليات الصمت الحرة التي أجبرت صاحبها علي زيارات سريعة وخاطفة للعديد من قامات وكتاب العصر دون أن يبتعد بكلمة بعيدا عن سلوك القيمة والانتقاء،ذلك أن الكلمة حرة مالم تقيد.
وفتى الحروف لم يطمعه فعل التوثيق أو الملغز من التاريخ أو الغريب من المساجلات التي وقعت من الساسة والحكام والمثقفين الكبار الذين التقاهم . فقد أحب أن يمارس فعل الكتابة بحرية مطلقة، وبجوهر الفن البكر، فكتب اللون الأبيض الثلجي والأحمر بالغ الحسن، والشعر الأخضر السائح، واحتفظ لكل هؤلاء بأسرارهم الخاصة مثل الشيخ محمود محمد شاكر والأديب الكبير يحيى حقي، والأستاذ أنيس منصور والدكتور علي السمان والشاعر الإذاعي فاروق شوشة وكبار صحفيي مصر محسن محمد وصلاح عيسي وفيليب جلاب وعبد الوارث دسوقي وغيرهم، لكنه لم يذهب بعيدا عندما أسعفه الأستاذ الشاعر الكبير عفيفي مطر لينسج علي منواله البنائي فكر الهوامش لا على دفتر التكوين ولكن وسط حدائق الحروف.
إنها كتابة بين فن السيرة الذاتية، وجرأة النوع الروائي التوثيقي، وربما الفعل السردي الحي الذي كتب بمنطق صاحبه فقط، وهو الأديب شريف قنديل. أعود لمفتتح القول للتأكيد على إبداعية النقد الذي مارسه الكاتب ليكمل فعله الانتقائي المقصود ليلفت نظرنا إلى أنه لا يكتب سيرة ذاتية بل ممارسة إبداعية خاصة وحرة.
بدورها قالت الفنانة التشكيلية الدكتور سارة نصار: لقد كان لفظ فتي خادعا ومفاجئا للجميع، اذ يري الاديب والروائي المصري نفسه مفعما بالحيوية واندفاع المراهقين، في سعادتة بالتجول بين اشجار الكلمات وثمارها من الحروف، وصولا لشجرته الطيبة عائلة الكريمة ذات الاصل الثابت والفروع المحلقة في السماء، فهم ابطال الكتاب الرئيسين الذي يري الحكايات من خلال عيونهم ومعايشتهم للاحداث في سيرته الذاتية التي يخلد بها قصة مشواره، و ايضا تميز عباقرة الادب المصري الذي عاصرهم شريف قنديل.. هكذا يري فتي الحروف والكلمات البداية، فهو يزرع شجرة الاصالة في ارض تلك الحقول الريفية منبع اصولة ليجني ثمار الحديث العذب بجوار الاصدقاء والعائلة .. ولم يكن شاغلة الاول فقط التاريخ العريق لمصر وعظمائها فقط، بل التاريخ ككل بتجربته الرائدة بجوار اساتذته، ليسطر بذلك فروع الحكاية المتسلقة الي عنان السماء، في تشابك لغوي غني جدا حيث يكاد نسيج الكلمات عنده، يكون معجما مستقلا في كل جزء من مشاهد الكتاب. وكل مرحلة من حياة المبدع شريف قنديل لخصها وسماها باسم استاذ له، تأثر به بمنتهي الفخر والتواضع، ثم كانت المعايشة لطباع شخصيات وابطال الحكاية عن قرب في قالب اجتماعي مصري صميم، ومن ثم يستطيع القارئ ببساطة زيارة أقاربه في الماضي بمنتهي السهولة في شكل درامي ملئ بالمؤثرات الصوتية واللونية وكذلك الحسية. وعند شريف قنديل نجد أيضا تشابك رائع وحرية رشيقة في الدمج بين مصطلحات العامية و مصطلحاته المعجمية في تماهي متسق ومرض للقراء
اترك تعليق