أكد علماء وخبراء التصوف أن حياة الإنسان الصالح وعمره كله عبارة عن موسم للطاعة وليس شهراً أو محددا فقط، وأن الطاعة تزيد الصالح قربا من الله ورسوله، ولذلك فالثمرة الحقيقية والفوز العظيم هو استمرار الإنسان الإنسان على الطاعة والعبادة فيما بعد انتهاء مواسمهما وليس الانتكاس على عقبيه، وهذا ما تصنعه الصوفية في أبنائها ومريديها.
وكان متابعو فعاليات ليالي الوصال الرقمية "ذكر وفكر في زمن كورونا"، التي تنظمها مشيخة الطريقة القادرية البودشيشية، ومؤسسة الملتقى بشراكة مع مؤسسة الجمال، على موعد مع النسخة الثانية والخمسين، والتي بثت عبر المنصات الرقمية لمؤسسة الملتقى.
عرفت هذه الليلة الروحية مشاركة ثلة من العلماء والمثقفين والمادحين، كما تم عرض شهادات حية لمريدي الطريقة من داخل المغرب وخارجه، أعربوا من خلالها عن الأثر الإيجابي للتربية الصوفية التي يتلقونها في الطريقة على حياتهم، من ضمنها شهادة السيدة لمياء من ليون بفرنسا، والسيد رفيق أحمد فارس من هولاندا.
تم افتتاح هذه الليلة التي تصادف العشر الأواخر من شهر رمضان الأبرك، بآيات بينات من الذكر الحكيم تلاها المقرئ الشيخ سعيد مسلم، لتتلوها المداخلة العلمية الأولى للدكتور حكيم فضيل الإدريسي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب ابن مسيك، جامعة الحسن الثاني، بين من خلالها فضل ليلة القدر التي شرفت بالقرآن العظيم، وبين أن نزول القرآن في ليلة القدر إعلان عن فرقان فاصل، وأن غاية ذلك هو تلقي فيض الرحمة الإلهية، كما دعا إلى الثقة بالله تعالى في ظل الظروف الحالية المرتبطة بجائحة كورونا.
أعقبتها مداخلة باللغة الفرنسية للدكتور عبد الرحيم مرناسي، مؤطر تربوي سابق في التعليم، تناول فيها شرح لابن عطاء الله السكندري تقول "من علامات الاعتماد على العمل، نقصان الرجاء عند وجود الزلل"، وذلك انطلاقا من شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسني الموسوم بـ"إيقاظ الهمم في شرح الحكم"، حيث قام بتحديد مفاهيم كل من الشريعة والحقيقة والظاهر والباطن، موضحا أنه لا يمكن الفصل بينهما، كما بين أن الشريعة أن تعبد الله ظاهرا والطريقة أن تقصده والحقيقة أن تشاهده، وأن هذا من المقامات العليا ومن الفتوحات الربانية والفيض الرحماني، وأشار الى ان من بلغ الى حقيقة الاسلام لم يقدر ان يفتر عن العمل، ومن بلغ الى حقيقة الايمان لم يقدر ان يلتفت الى العمل بسوى الله، ومن بلغ الى حقيقة الاحسان لم يقدر ان يلتفت الى احد سوى الله.
فيما كانت المداخلة العلمية الثالثة، للدكتور منير القادري بودشيش، رئيس مؤسسة الملتقى ومدير المركز الأورومتوسطي لدراسة الإسلام اليوم، حول موضوع "فضل العمل الصالح وثمرته في الدنيا والاخرة"، استهلها بالإشارة الى أن العمل الصالح هو كل عمل يَرضى الله عز وجل عنه، ونبه الى أن للعمل الصالح شرطين، أولهما: إخلاص النية لله تعالى، وثانيهما: أن يكون العمل موافقا لشرع الله عز وجل، وأورد مجموعة من الاحاديث النبوية التي تبرز أهمية العمل الصالح، ولفت الى أن لِلْعملِ الصالحِ ثمراتٌ في الدنيا والآخرة.
وأكد أن اللهُ تعالى هُو وليٌّ الصالحين، مستشهدا بقوله عز وجل: (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ)(الأعراف:196).
وأضاف أن من تولاهُ اللهُ فلا غالبُ له وأنه محفوظُ في نفسهِ ومالهِ وولده، مذكرا بقوله تعالى عن الغُلامينِ اليتيمين: (وَأَمَّا الجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَينِ يَتِيمَينِ فِي المَدِينَةِ وَكَانَ تَحتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبٌّكَ أَن يَبلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَستَخرِجَا كَنزَهُمَا رَحمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلتُهُ عَن أَمرِي ذَلِكَ تَأوِيلُ مَا لَم تَسطِع عَّلَيهِ صَبرًا) (سورة الكهف: 82)، وأوضح أن الله تبارك وتعالى حَفِظَ كنزُ اليتيمين بسببِ صلاحِ أبيهما وإن لم يُذكرا بصلاح، موردا في هذا الصدد قول القرطبي - رحمه الله –" فيه ما يدلُ على أنَّ اللهَ تعالى يحفظُ الصالحُ في نفسهِ وفي ولدهِ وإن بَعَدُوا عنهُ".
وأشار الى أنه بالنسبة للمؤمن الصادق كل الشهور مواسم للعبادة والعمر كله عنده موسم للطاعة، وأنه في شهر رمضان يجتهد وتتضاعف همته لفعل الخير وينشط قلبه للعبادة أكثر، وشدد على أن أساس كل إصلاح ومنطلقه هو القلب والنفس، وأنه لا نجاح لدعوة إصلاح لا تهتم بهذين العنصرين، وانسجاما مع مقولة "الصوفي ابن وقته"، أوضح رئيس مؤسسة الملتقى أن التربية الصوفية تعمل على تأهيل الفرد ليكون صالحا مصلحا، عبر تربيته تربية احسانية عرفانية سليمة متوازنة ومنسجمة مع واقعه وروح عصره، ومرتبطة بحاجيات ومتطلبات مجتمعه.
وقدم د. القادري مداخلة باللغة الفرنسية ضمن هذه الامسية الروحية تحت عنوان "l’importance de la miséricorde et la convivialité dans le soufisme
أما المداخلة العلمية الرابعة فكانت باللغة الفرنسية، للدكتور محمد السعيدي من فرنسا، تمحورت حول فضل ليلة القدر، مشيرا الى أنها ليلة القيم النبيلة، حيث بسط القول في فضلها وشرفها وعظمتها، داعيا إلى إحيائها واغتنام أفضالها.
وبشأن المداخلة العلمية الخامسة للدكتور محمد أمين الغويلي، أستاذ باحث في العلوم الإسلامية، عضو المجلس العلمي المحلي بمراكش، فكانت تحت عنوان" ليلة القدر ذكرى ميلاد النبوة"، انطلاقا من الحديث الشريف "ألا إن في دهر ربكم لنفحات ألا فتعرضوا لها "، موضحا أن سنة الله جل جلاله اقتضت ان تكون بقاع افضل من بقاع وايام افضل من ايام وليلة افضل من ليال وساعة افضل من ساعات، وبين أن سنة التفاضل والتفضيل سارية الى يوم القيامة، مستدلا بصيام النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين والخميس نافلة، وأنه لما سئل عن ذلك، قال أن ذلك يوم ولدت فيه وأحب ان يرفع عملي وأنا صائم.
بعد ذلك تناول د. علي زكي باللغة الانجليزية، فضل العشر الأواخر من رمضان، مبرزا عمل الطريقة القادرية البودشيشية في تربية المريدين تربية متوازنة، مفصلا الحديث عن دور التصوف ومساهمته في خلق التوازن بين متطلبات الجسد ومتطلبات الروح.
أما فقرة الفقه فقدمها باللغة الأمازيغية لحسن الخاوي ، عضو المجلس العلمي المحلي بتزنيت، أجاب فيها عن بعض الأسئلة المتعلقة بأحكام الفدية في الفقه الاسلامي.
وتخللت هذه الليلة الروحية كالعادة وصلات من السماع والمديح الصوفي لمنشدين من المغرب وخارجه، ويتعلق الأمر بكل بلال الحموي من تركيا، وفتح الله الدرعاوي، ومسمعي الطريقة القادرية بسلا وكذا بدولة ليبيا الشقيقة ، إضافة الى مجموعة الصفا من فرنسا، وبرعمات الطريقة بمداغ.
واختتمت أطوار هذا السمر الروحي بفقرة "من كلام القوم"، خصصها إبراهيم بن المقدم لعرض درر وشذرات من كلام العارف بالله مولاي عبدالسلام بن مشيش.
من ناحية أخرى، اسدل الستار على فعاليات البرنامج الرقمي الأسبوعي "رمضانيات"، الذي نظمته مشيخة الطريقة القادرية البودشيشية ومؤسسة الملتقى، بتعاون مع مؤسسة الجمال، بمناسبة شهر رمضان المبارك، وذلك ببث الحلقة الخامسة منه التي وافقت العشر الأواخر منه، افتتح برنامج الحلقة بتلاوة آيات بينات من الذكر الحكيم بصوت المقرئ حكيم خيزران، لتتلوها المداخلات العليمة لمجموعة من العلماء والمتخصصين، وذلك باللغات الثلاث، العربية والفرنسية والإنجليزية.
ومن بين تلك المداخلات العلمية، مداخلة الشيخ محمد أبو الوصل النقشبندي، مدير مجمع الدعاة وأحد شيوخ الطريقة النقشبندية بدولة لبنان الشقيقة، والتي تمحورت حول فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، افتتحها بذكر إشارات مستلهمة من قوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (الاحزاب الآية 56 )"، مبينا تكريم الله عزوجل لنبيه صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه منة وفضلا، وتسخير الملائكة لذلك، وأمر المؤمنين بالصلاة عليه تشريفا لمقامه ولما أسداه لهم من خير، وابرز فضل الاكثار من الصلاة عليه وفوائدها على القائم بها.
وكانت مداخلة الشيخ أحمد العلي، شيخ الطريقة الشاذلية الدرقاوية الهاشمية المومنية بدولة الأردن الشقيقة، حول موضوع "مقتضيات محبة النبي صلى الله عليه وسلم"، ساق من خلالها جملة من الأحاديث الدالة على قيمة محبة النبي صلى الله عليه وسلم، وأبرز مقتضياتها وشرائطها، كالتعلق بالجناب النبوي والاقتداء به صلى الله عليه وسلم وإحياء سنته، وكثرة الصلاة والسلام عليه ومحبة آل بيته وتعظيم صحابته.
كما تقدم الدكتور سمير الحلوي، أستاذ التعليم العالي بالمدرسة العليا للإدارة بمداخلة باللغة الفرنسية في موضوع "قيمة حسن الظن بالله وبعباده، وآفة سوء الظن"، بين من خلالها أهمية حسن الظن بالله وبعباده والفوائد المترتبة عن ذلك، سواء بالنسبة للفرد أو المجتمع ككل، كما أبرز الآثار السلبية التي تترتب عن آفة سوء الظن.
وقد تخللت برنامج هذه الأمسية العلمية والروحية وصلات من السماع والإنشاد الديني لكل من المجموعة الرسمية الطريقة القادرية البودشيشية، ومجموعة الطريقة بليبيا وفرق إنشادية أخرى .
اترك تعليق